دَعَت السياسة الرشيدة للإمام الحسن (عليه السلام) ، ومكانته المُتَنَامية في الأمّة ، معاوية إلى أن يشكّ في قدرته على مناوأته ، واستئثاره بقيادة الأمّة . حيث إنّه ما خطى خطوة تُخالف قِيَمَ الحق ، أو مصالح الأمّة ، إلاّ وعارضه الإمام (عليه السلام) واتَّبعته الأمّة في ذلك . ففشلت مساعي معاوية وخابت آماله ، فدبَّر حيلة كانت ناجحة إلى أبعد الحدود ، تلك هي الفتك بحياة الإمام (عليه السلام) عن طريق السُّم .
فبعث معاوية إلى عاهل الروم يطلب منه سمّاً فتَّاكاً ، فقال ملك الروم : إنّه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا . فراسله معاوية يقول : إنّ هذا الرجل هو ابن الذي خرج بأرض تُهامة - يعني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) - خرج يطلب ملك أبيك ، وأنا أُريد أن أدس إليه السمَّ ، فأُرِيح منه العباد والبلاد !
شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) :
بَعَث ملك الروم إلى معاوية بالسمِّ الفتاك ، فَدَسَّه إلى الإمام (عليه السلام) عن طريق جَعدة ، الزوجة الخائنة ... وفي ذلك النهار حيث كان قد مضى أربعون يوماً أو ستون على سقيه السُّم ، أتمَّ (عليه السلام) وصاياه التي أوصى بها إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ، وعلم باقتراب أجله . فكان (عليه السلام) يبتهل إلى الله تعالى قائلاً :( اللَّهُمَّ إني أحتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزُّ الأنفس عليَّ ، لم أُصَب بمثلها ، اللَّهُمَّ آنِسْ صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي ، ولقد حاقت شربته - أي معاوية - ، والله ما وفيَ بما وعد ، ولا صَدَق فيما قال ). وكان (عليه السلام) حين التحق بالرفيق الأعلى ، يتلو آياتٍ من الذكر الحكيم . وكانت شهادته (عليه السلام) في السابع من صفر 50 هـ ، وفي رواية في الثامن والعشرين من صفر 50 هـ .
دفنه (عليه السلام) :
وقامت المدينة المنورة لِتُشيِّع جثمان ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، الذي لم يزل ساهراً على مصالحهم قائماً بها أبداً . وجاء موكب التشييع يحمل جثمانه الطاهر إلى الحرم النبوي ، ليدفنوه عند الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، و ليجدِّدوا العهد معه ، على ما كان قد وصَّى به الإمام (عليه السلام) . فركبت عائشة بغلة شهباء ، واستنفرت بني أمية ، وجاءوا إلى الموكب الحافل بالمهاجرين ، والأنصار ، وبني هاشم ، وسائر الجماهير المؤمنة ، الثاوية في المدينة . فقالت عائشة تصيح : يا رُبَّ هيجاء هي خير من دعة ! ، أيُدفن عثمان بأقصى المدينة ويُدفَن الحسن عند جدِّه . ثم صَرخت في الهاشميين : نَحُّوا ابنكم واذهبوا به فإنّكم قوم خصمون .
ولولا وصية من الإمام الحسن (عليه السلام) إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) أَلاَّ يُراق في تشييعه ملء محجمةِ دمٍ ، لَمَا ترك بنو هاشم لبني أمية في ذلك اليوم كِيَاناً .
ولولا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) نادى فيهم : ( الله الله يا بني هاشم ، لا تضيِّعوا وصيّة أخي ، واعدلوا به إلى البقيع ، فإنّه أقسم عليَّ إن أنا مُنعت من دفنه عند جدِّه إذاً لا أُخاصم فيه أحداً ، وأن أدفنه في البقيع مع أُمِّه ) . هذا وقبل أن يعدلوا بالجثمان ، كانت سهام بني أمية قد تواترت على جثمان الإمام (عليه السلام) ، وأخذت سبعين سهماً مأخذها منه . فراحوا إلى مقبرة البقيع ، وقد اكتظَّت بالناس ، فدفنوه فيها ، حيث الآن يُزار مرقده الشريف (عليه السلام) .
وهكذا عاش السبط الأكبر لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نقيّاً ، طاهراً ، مَقهوراً ، مُهتَضَماً ، ومضى شهيداً ، مظلوماً .
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا