الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى الله عليه وآله وسلم
مضمون الشبهة:
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب والذهبي في تاريخ الإسلام وغيرهما: أن الإمام الحسن عليه السلام طلب من عائشة الإذن بالدفن في بيتها فوافقت ثم قال لأخيه الحسين عليه السلام قد كنت طلبت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: نعم، وإني لا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك إليها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها، فلما مات الإمام الحسن عليه السلام أتى الإمام الحسين عليه السلام عائشة فطلب ذلك إليها فقالت: نعم وكرامة، وبهذا يُعلم أن عائشة وافقت على الأمر، ولكن منع من دفنه في البيت اعتراض مروان على ذلك، وكان الإمام الحسن عليه السلام أوصى إذا منع القوم دفنه في البيت أن لا يراجعوا في الأمر، وأن يدفن في البقيع، وسعى أبو هريرة وابن عمر في إقناع الإمام الحسين عليه السلام بذلك تفادياً لوقوع الفتنة بين المسلمين(1).
الرد على الشبهة:
لعل نظرة عابرة يلقيها غير ذي الهوى على صفحات التاريخ كفيلة بأن تريه بطلان دعوى عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام عند قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه عليه السلام استأذنها في حياته فأذنت له بذلك؛ لأن ذلك يفتقر إلى الدليل الذي يثبت كون البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو بيتها, بعد ذلك يتم النقاش في أنها مانعت أو أذنت, وإلا فإن القضية – حسب قول أهل المنطق - من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع, فأساساً لم يثبت أن البيت بيتها حتى تأذن أو تمنع!!.
نعم اشتهر عند أهل السنة أن البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو بيت عائشة، وتحديداً في حجرتها؛ لأنها كثيراً ما كانت تردد ذلك وتصرح بهذا في كلماتها, وجاء ذلك فيما رواه البخاري بسند ينتهي إلى عائشة أنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة، فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري، ودُفن في بيتي)(2).
والجواب على هذه الشبهة يكون عبر خطوات:
الخطوة الأولى: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأسه على صدر عليّ بن أبي طالب عليه السلام
إن ما ذكر في أعلاه معارض بصحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة، ومن طرق أهل السنة أنفسهم, فمنها:
ما أخرجه ابن سعد في (الطبقات)، في باب من قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في حجر علي، وهو ذاته موجود في (كنز العمال) بالإسناد إلى علي، أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: ادعوا لي أخي، فأتيته، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فاستند إلي فلم يزل مستنداً إلي وإنه ليكلمني حتى أن بعض ريقه ليصيبني، ثم نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(3).
وأخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء)، وأبو أحمد الفرضي في نسخته وغير واحد من أصحاب السنن، عن علي قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وآله - يعني حينئذ - ألف باب، كل باب يفتح ألف باب)(4).
وكان عمر بن الخطاب إذا سئل عن شيء يتعلق ببعض هذه الشؤون، لا يقول غير: سلوا علياً؛ لأنه هو القائم بها، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري أن كعب الأحبار سأل عمر فقال: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال عمر: سل علياً، فسأله كعب، فقال علي: أسندت رسول الله صلى الله عليه وآله إلى صدري: فوضع رأسه على منكبي فقال:
الصلاة الصلاة، قال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وبه أمروا وعليه يبعثون، قال كعب فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سل علياً، فسأله، فقال: كنت أنا أغسله، الحديث(5).
وقيل لابن عباس: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: نعم توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، فقيل له: إن عروة يحدِّث عن عائشة أنها قالت: توفي بين سحري ونحري، فأنكر ابن عباس ذلك قائلاً للسائل: أتعقل؟ والله توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وإنه لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله... الحديث(6).
وأخرج ابن سعد بسنده إلى الإمام أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام قال: (قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر علي...)، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد من طريقين, عن أبي رافع(7), ثم من طريق ابن عباس(8).
والأخبار في ذلك متواترة، عن سائر أئمة العترة الطاهرة، وإن كثيراً من علماء أهل السنة ليعترفون بذلك, فهذا ابن سعد واحد منهم، وقد أخرجه أيضاً – بالإضافة إلى ما سبق - بسنده إلى الشعبي، قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر علي وغسله علي)(9).
وجاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام ما يؤكد ذلك, وهذا نصها: (ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أني لم أرد على الله، ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها، ولقد قبض صلى الله عليه وآله وسلم وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالتْ نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله وسلم، والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هنيهة منهم يصلون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً)(10).
وجاء ذلك أيضا في كلام له عليه السلام عند دفنه سيدة النساء فاطمة عليها السلام: (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ورق عنه تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، موضع تعزٍّ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون...)(11).
وفي الصحيح عن أم سلمة قولها: (والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عدناه غداة وهو يقول: جاء علي، جاء علي، مراراً، فقالت فاطمة: كأنك بعثته في حاجة؟ قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، قالت أم سلمة: وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس به عهداً)(12).
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرضه: (ادعوا لي أخي، فجاء أبو بكر، فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي، فجاء عثمان: فأعرض عنه، ثم دعي له علي، فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال: علمني ألف باب كل باب يفتح له ألف باب(13).
الخطوة الثانية: النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن في حجرته.
إن دعوى كون الحجرة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي حجرة عائشة, باطل من وجوه:
الأول: الظاهر كون الحجرة ملكاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا دلالة بانتقالها لعائشة.
الثاني: لو كانت الحجرة لعائشة لما دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها إلا بإذنٍ منها, ولم يرو أحد قط إذن عائشة بدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت سكناها.
الثالث: يستفاد من قول الحق تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)(14)، عدم ملكية عائشة للبيت؛ لأنّ الآية أضافت البيوت إليه صلى الله عليه وآله وسلم كما هو واضح؛ ولأن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة ابتاع مكان مسجده وحجرته فبناه، فلما وصل أهله وأزواجه أنزل كلاً منهم منازله.
الرابع: لم تدّعِ واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً كما ادّعت عائشة ذلك، وهذا شاهد قوي على عدم ملكيتها للبيت الذي كانت تسكنه على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي دفن فيه, وليس لها إلا حق السكنى فيه فيما لو كان لها حق, وهذا ما يفيده قوله سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)(15), حيث دلّ على مجرد السكنى؛ لأن الآية جاءت بعبارة الإطلاق لجميع الأزواج، ولو كان غير السكنى لهن في تلك البيوت لادّعَتْ كل واحدة منهنَّ ملكيّة البيت الذي تسكنه كما فعلت عائشة, والحال أننا لم نجد رواية واحدة تثبت ذلك.
وهناك أحاديث تثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم مدفون في بيته وليس في بيت عائشة كما تدعي منها: ما رواه الطبري في تاريخه, وابن الجوزي في المنتظم, وابن خلدون في تاريخه, عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري)(16).
فما ذُكر يؤكد أن البيت بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان ملكاً لعائشة لما جاز له صلى الله عليه وآله وسلم وصفه بأنه بيته.
ومنها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)(17), وأنت كما تلاحظ فقد نسب صلى الله عليه وآله وسلم البيت الذي دُفن فيه إلى نفسه ولم يقل إنه بيت عائشة وقد تملكته.
الخطوة الثالثة: جغرافية بيت عائشة وبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ بيت عائشة لم يكن في الجهة الشرقية من المسجد بل كان في الجهة القبلية منه؛ وقد كان دار حفصة في قبلي المسجد، وكان ملاصقاً لبيت عائشة من جهة القبلة.
والمعروف عند الناس أنّ البيت الذي كان على يمين الخارج من خوخة آل عمر هو بيت عائشة.
وعلى هذا.. فيكون بيت عائشة في قبلي المسجد لا في شرقيه حيث يوجد القبر الشريف، أي أنّه يكون في مقابله وبينهما فاصل كبير..
ومما يدلّ على أنّ بيت عائشة كان في جهة القبلة من المسجد ما رواه تقي الدين المقريزي في (إمتاع الأسماع)(18)، والصالحي الشامي في (سبل الهدى والرشاد)(19)، والديار بكري في (تاريخ الخميس)(20), جميعهم بسند ينتهي إلى محمد بن هلال: (أنّه رأى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جريد، مستورة بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة. فقال: كان بابه مواجه الشام. فقلت: مصراعاً كان أو مصراعين؟ قال: كان باباً واحداً).
وفي عبارة الصالحي في (سبل الهدى والرشاد) وكذلك الديار بكري في (تاريخ الخميس): (مستورة بمسوح الشعر، مستطيرة في القبلة، وفي المشرق والشام ليس في غربي المسجد شيء منها إلخ..).
ونقل السمهودي عن ابن عساكر قوله: (وباب البيت شامي)(21).
فيستفاد من ذلك:
1- ما قاله المحقق السيد مهدي الروحاني:
قوله في الحديث (فسألته عن بيت عائشة): في هذا دلالة على أنّ الحجرة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن بيت عائشة؛ إذ فيه دلالة على أنّ السائل يعلم أنّ بيتها لم يكن في الموضع الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذلك فهو يسأل عن موضع بيتها فيما عدا البيت الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعرفه أين يقع.. انتهى.
2- إنّ من المعلوم أنّ الجهة الشامية للمسجد هي الجهة الشمالية منه كما صرّحت به الرواية آنفاً – ويدلّ على ذلك أيضاً قول ابن النجار: (قال أهل السير: ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة، والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة عنه مديرة به، وكان أبوابها شارعة في المسجد)(22).
وأيضاً: (وجه المنبر، ووجه الإمام إذا قام على المنبر بجهة الشام)(23).
ومن المعلوم: أنّ الجالس على المنبر يكون ظهره إلى القبلة، ووجهه إلى الجهة المقابلة لها..
وعليه - إذا تحقق ذلك - فإذا كان باب بيت عائشة يقابل الجهة الشمالية: فإنّ ذلك معناه أنّ بيتها كان في جهة القبلة من المسجد.. وكان باب حجرتها يفتح على المسجد مباشرة، حتى إنّها تقول: إنّها كانت ترجِّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معتكف في المسجد، وهي في بيتها، وهي حائض.
وقد حاول بعضهم توجيه ذلك: بأنّ المراد من الباب الذي لجهة الشام هو الباب الذي شرّعته عائشة لما ضربت حائطاً بينها وبين القبور بعد دفن عمر..
وأجاب السمهودي بقوله: (وفيه بُعد، لأنّه سيأتي ما يؤخذ منه أنّ الحائط الذي ضربته كان في جهة المشرق)(24). وإذا كان في جهة المشرق؛ فلابد أن يكون الباب فيه مقابلاً للمغرب، لا لجهة الشام.
3 - ويدلّ على كون بيت عائشة في جهة القبلة: أنّ الحُجَر كانت تبدأ من بيت عائشة، وتنتهي إلى منزل أسماء بنت حسن(25) كما نصّ على ذلك من شاهدها.
4 - إنّ رواية المقريزي، والصالحي, والديار بكري المتقدمة تنصّ على أنّه لم يكن لبيت عائشة إلاّ باب واحد، بمصراع واحد.. ومن المعلوم: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد صُلِّي عليه، على شفير حفرته، ودفن في حجرة لها بابان..
فقد روى ابن سعد، عن أبي عسيم، قال: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: كيف نصلّي عليه؟ قالوا: ادخلوا من ذا الباب أرسالاً أرسالاً، فصلّوا عليه، واخرجوا من الباب الآخر..)(26).
ويمكن الجواب عن هذا الأخير: بأنّ الجواب لا بدّ أن يطابق السؤال، فإذا كان السؤال عن مصاريع الباب، لا عن عدد الأبواب، فلابد أن يكون الجواب عن ذلك أيضاً.. ولا يدلّ ذلك على أنّه لم يكن للحجرة باب آخر.
5 - وسيأتي: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مرضه (أي قبل انتقاله إلى بيت فاطمة) في حجرة عائشة؛ فكشف الحجاب؛ فكاد الناس أن يفتنوا، وهم في الصلاة لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. الأمر الذي يدلّ على أنّ حجرة عائشة قد كانت في طرف القبلة في مقابل المصلِّين..
هذا, وقال ابن سعد: (واشترى (يعني معاوية) من عائشة منزلها بمائة وثمانين ألف درهم، ويقال بمائتي ألف. وشرط لها سكناها حياتها. وحمل إلى عائشة المال، فما رامت من مجلسها حتى قسمته. ويقال: اشتراه ابن الزبير من عائشة، بعث إليها – يقال – خمسة أجمال بخت تحمل المال، فشرط لها سكناها، حياتها، فما برحت حتى قسمت ذلك إلخ..)(27).
ولا ينبغي أن يتوهم: أنّ المقصود ببيت عائشة هنا هو البيت الذي أخذته من سودة، التي توفيت في أواخر خلافة عمر؛ إذ قد أسند ابن زبالة، عن هشام بن عروة، قال: (إنّ ابن الزبير ليعتدّ بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلها: إنّ عائشة أوصته ببيتها وحجرتها، وإنّه اشترى حجرة سودة)(28).
فعائشة قد باعت بيتها وأكلت ثمنه، فمن أين يقولون: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دفن في حجرتها؟!
واحتمال أن يكون المقصود هو بيتها المستحدث، لا يصحّ؛ لأنّ سياق الكلام ناظر إلى حُجَر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت لهن من قبله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أنّ معاوية لا يدفع هذا المال الكثير إلاّ لينال شرفاً، أو ليحرم الآخرين شرفاً بزعمه.. إلاّ إذا كان هدفه هو تعظيم شأن عائشة، ولكن هذا بعيد عن سياسته تجاهها، فإنّ العلاقات بينهما لم تكن على ما يرام بسبب موقفه من آل الزبير وغيرهم ممن تحبهم.
ثم هم يقولون: إنّ الموضع قد ضاق حتى لم يعد يسع إلاّ موقع قبر واحد، فدفن فيه عمر.. فقد روى البخاري، وغيره: أنّ عمر بن الخطاب لما أرسل إلى عائشة يسألها أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنّه اليوم على نفسي..(29).
قال ابن التين: (كلامها في قصة عمر يدلّ على أنّه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد)(30). ويؤيد ذلك: أنّه (لما أرسل عمر إلى عائشة؛ فاستأذنها أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر فأذنت، قال عمر: إنّ البيت ضيق، فدعا بعصاً؛ فأُتي بها فقدر طوله، ثُمّ قال: احفروا على قدر هذه)(31).
وأيضاً.. فقد رووا: أنّه (جاف بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شرقيه، فجاء عمر بن عبد العزيز، ومعه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، فأمر ابن وردان: أن يكشف عن الأساس، فبينا هو يكشفه إلى أن رفع يده وتنحى واجماً، فقام عمر بن عبد العزيز فزعاً، فقال عبد الله بن عبيد الله: لا يروعنك، فتانك قدما جدّك عمر بن الخطاب، ضاق البيت عنه، فحفر له في الأساس إلخ..)(32).
وفي الصحيح، (قال عروة: ما هي إلا قدم عمر)(33).
وإذ قد عرفنا: أنّ الحجرة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ضاقت حتى دفن عمر في الأساس.. فلننظر إلى بيت عائشة الذي كانت تسكن وتتصرف فيه.. فإننا نجده واسعاً وكبيراً.. وبقيت تتصرف فيه في الجهات المختلفة، فليلاحظ ما يأتي:
1- مـا تقدّم من أنّ عائشة قد باعت بيتها لمعاوية، أو لابن الزبير وأن الحجرة قد ضاقت على عمر حتى دفن في الأساس، فإنّ النتيجة تكون هي: أنّ الموضع الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو بيت عائشة، كما تقول هي، وإنّما هو لغيرها.. أي أنّه لفاطمة الزهراء عليها السلام كما سيتضح..
2- إنّ مما يدلّ على أنّ موضع إقامتها كان واسعاً، هو قولها: (ما زلت أضع خماري، وأتفضل في ثيابي حتى دفن عمر، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً)(34).. وعن مالك قال: قسم بيت عائشة قسمين: قسم كان فيه القبر، وقسم تكون فيه عائشة بينها حائط(35).
فبعد دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحجرة أخليت من ساكنيها وأظهرت للناس. وكان أول من بنى على بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جداراً عمر بن الخطاب. قال عبيد الله بن أبي يزيد: كان جداره قصيراً، ثُمّ بناه عبد الله بن الزبير...(36) وعن المطلب قال: كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوّة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوّة فسدّت: أو أنّهم سدّوا أو ستروا على القبر بعد محاولة الحسين دفن أخيه الحسن هناك، اتقاء لمثل هذا الأمر حتى لا يتكرر بعد..(37).
ويبدو أنّ عائشة قد سكنت قريب القبور، والظاهر، بل المقطوع به هو أنّ هذا البيت هو صحن دار فاطمة كما سنرى أن عائشة قد استولت عليه بمعونة الهيأة الحاكمة.. بعد أن أخلاه أصحابه – بعد دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجرتهم، وأظهر قبره صلى الله عليه وآله وسلم للناس كما قلنا.. وبعد أن منعتهم السلطة من إرث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم إنّ الأدلة تدلّ على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد دفن في بيت ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، كما أنّ عائشة كانت مستقرّة في دار بيت فاطمة عليها السلام هذا، وضربت جداراً بينها وبين القبور وبقيت في هذا البيت الطاهر – كما قدمنا – الذي كان في وسط بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلمكما ذكره ابن عمر.
ومستندنا في ذلك هو ما يأتي:
1- روى الصدوق في أماليه رواية مطوّلة، عن ابن عباس، جاء فيها: (.. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصلّى بالناس، وخفف الصلاة، ثُمّ قال: ادعوا لي علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، فجاءا، فوضع صلى الله عليه وآله وسلم يده على عاتق عليّ، والأخرى على أسامة، ثُمّ قال: انطلقا بي إلى فاطمة, فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها، فإذا الحسن والحسين..(38) ثُمّ ذكر قضية وفاته هنا.
2- قال السمهودي: (أسند ابن زبالة، ويحيى بن سليمان بن سالم، عن مسلم بن أبي مريم، وغيره: كان باب فاطمة بنت رسول الله في المربعة التي في القبر، قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها، فإنها باب فاطمة (رضي الله عنها)، الذي كان علي يدخل عليها منه)(39).
وعن ابن أبي مريم: (إن عرض بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاسطوانة التي خلف الاسطوانة المواجهة للزور قال: وكان بابه في المربعة التي في القبر)(40).
وقد أسند أبو غسان، كما قال ابن شبة، عن مسلم بن سالم بن مسلم أبي مريم، قال: عرس علي (رضي الله عنه) بفاطمة بنت رسول الله إلى الاسطوانة التي خلف الاسطوانة المواجهة للزور. وكانت داره في المربعة التي في القبر. وقال مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها، فإنّه باب فاطمة، التي كان علي يدخل إليها منها، وقد رأيت حسن بن زيد يصلّي إليها(41).
فهل كان علي عليه السلام يدخل على زوجته من وسط حجرة عائشة؟ أم أنّ عائشة أو غيرها من زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت من محارمه عليه السلام؟! إنّ ذلك إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ذلك الموضع هو بيت فاطمة عليها السلام التي ظلمت في مماتها، كما ظلمت في حياتها: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).. وليس بيت عائشة كما تريد أن تدّعي هي ومحبوها!!..
3- إنّ ما يدلّ على أنّ شرقي الحجرة كان في بيت فاطمة عليها السلام وأن عائشة كانت تسكن في بيت فاطمة عليها السلام حينما ضربت الجدار, قول ابن النجار: (وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة، وفيه محراب، وهو خلف حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(42).
فقال السمهودي: (الحجرة اليوم دائرة عليه، وعلى حجرة عائشة بينه وبينه موضع تحترمه الناس، ولا يدوسونه بأرجلهم، يذكر أنّه موضع قبر فاطمة (رضي الله عنها). وقد اقتضى ما قدمناه: أنّ بيت فاطمة رضي الله عنها كان فيما بين مربعة القبر، واسطوانة التهجد)(43).
وعن مدفن فاطمة عليها السلام يرى ابن جماعة أنّ أظهر الأقوال هو أنّها دفنت في بيتها.
ومن الواضح: أنّ اسطوانة التهجد يقع على طريق باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يلي الزوراء. أي خلف بيت فاطمة عليها السلام.
قال السمهودي عن موضع تهجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قلت: تقدّم في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أنّ الموضع المذكور كان خارج المسجد تجاه باب جبريل قبل تحويله اليوم. وهو موافق لما سيأتي عن المؤرخين في بيان موضع هذه الاسطوانة)(44).
وإذا كان كذلك فإنّ بيت عليّ يقع بين باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحجرة الشريفة، وباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أوّل الأبواب الشرقية مما يلي القبلة، وقد سُدّ الآن، ويقولون: إنّه سمي بذلك لا لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل منه، بل لأنّه في مقابل حجرة عائشة.. بل نجد ابن النجار يصرّح بأنّ هذا الباب هو نفسه باب علي عليه السلام... وهذا يعني أنّ ما بين الحجرة التي فيها القبر الشريف، وباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من بيت فاطمة عليها السلام، وحيث دفنت.
4- قول السمهودي في مقام بيان موضع باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وباب جبريل..: (الثاني: باب علي، الذي كان يقابل بيته الذي خلف بيت النبي)(45).
وقال أيضاً: (ويحتمل أنّ بيت علي (رضي الله عنه) كان ممتداً في شرقي حجرة عائشة (رض) إلى موضع الباب الأول يعني باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمي باب علي بذلك، ويدلّ عليه: ما تقدم عن ابن شبة في الكلام على بيت فاطمة، من أنّه كان فيما بين دار عثمان التي في شرقي المسجد، وبين الباب المواجه لدار أسماء ويكون تسميته الباب الثاني بباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقربه من بابه.. إلخ(46).
وإذن.. فبيت فاطمة يكون ممتداً من شمالي الحجرة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى شرقيها – وإذا صحّ كلام ابن شبة هذا – فإنّه يصل إلى قبليها أيضاً.. والمفروض أنّ باب فاطمة وعليّ عليهما السلام كان شارعاً في المسجد أيضاً.. فكيف استدار بيت فاطمة عليها السلام على بيت عائشة وطوقه بهذا الشكل العجيب من الشمال إلى الشرق.. ويحتمل إلى القبلة أيضاً؟!.. عجيب!! وأي عجب!!..
وإذن فما معنى أن تسكن عائشة في شرقي الحجرة وتضرب بينها وبين القبور جداراً؟ أ وليس شرقي الحجرة كان جزءاً لبيت فاطمة عليه السلام؟! وكيف يكون باب بيت فاطمة عليها السلام في نفس حجرة عائشة؟!
وهل هناك مسافات شاسعة بين المسجد، وبين باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو باب جبريل تَسَعُ عدة بيوت وحُجَر؟! إن كُلّ ذلك يدلّ على صحة رواية الصدوق المتقدمة وإنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد توفي، ودفن في دار فاطمة عليها السلام، لا في دار عائشة..
ونعتقد: أنّه قد انتقل من دار عائشة إلى دار فاطمة في نفس اليوم الذي توفي فيه، وهو يوم الاثنين، وذلك لأنّه في يوم الاثنين، وحين صلاة الفجر كان لا يزال في بيت عائشة الذي لجهة القبلة، إذ قد روى البخاري: (أنّ المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة.. إلى أن قال: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم؛ فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلّم...(47).
وبضمّ رواية الصدوق المتقدمة الدالة على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج فصلى في الناس وخفف الصلاة، ثُمّ وضع يده على عاتق علي عليه السلام والأخرى على عاتق أسامة، ثُمّ انطلقا به إلى بيت فاطمة عليها السلام، فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها، ثُمّ يذكر قضية استئذان ملك الموت، ثُمّ كانت وفاته بعد مناجاته لعلي عليه السلام؛ فراجع..
فبضمّ هذه الرواية إلى ما تقدّم نفهم أنّه قد انتقل إلى بيت فاطمة في نفس اليوم الذي توفي فيه، بعد أن صلى بالناس.
وأمّا أنّه رفع الستر ثُمّ عاد فأرخاه؛ فلم يروه حتى توفي حسبما ذكرته رواية البخاري الآنفة الذكر، فلا يصحّ؛ لأنّ رواية ابن جرير تصرّح بأنّه عزل أبا بكر عن الصلاة في نفس اليوم الذي توفي فيه، فراجع.
وبعد ذلك كله.. فإنّه لا يبقى أيّ شكّ أو ريب في أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد دفن في بيت فاطمة عليها السلام، لا في بيت عائشة ولكن فاطمة عليها السلام قد ظلمت بعد مماتها كما ظلمت في حال حياتها.. وسيعلم الذين ظلموا آل محمد، عن طريق تزوير الحقيقة والتاريخ، فضلاً عن مختلف أنواع الظلم الأخرى.. أي منقلب ينقلبون...(48).
الخطوة الرابعة: روايات المنع من دفن الإمام الحسن عليه السلام عند جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبناء على ما تقدم من توضيح وبيان فإن دعوى كون الحجرة التي دفن فيها النبي عليه السلام هي حجرة عائشة وإن البيت بيتها مجرد دعوى باطلة تدل على فرط جهل صاحبها وعدم معرفته بأمهات مصادره وقد بيّنا بطلانها وافتضاحها.
وببطلانها تبطل دعوى استئذان الإمام الحسن عليه السلام من عائشة لدفنه عند قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ البيت بيت جده وأمه الزهراء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, ولا معنى للاستئذان في ذلك الأمر, ولم يرد في رواية واحدة أن الإمام الحسن عليه السلام لما احتضر أوصى أخاه الحسين عليه السلام أنْ غسلني وكفني واستأذن عائشة في دفني عند قبر جدي, بل على عكس ذلك ورد بنص صريح أنه عليه السلام قال: (ادْفِنُونِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا أَنْ تَخَافُوا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَرٌّ، فَإِنْ خِفْتُمُ الشَّرَّ فَادْفِنُونِي عِنْدَ أمي)(49), وقوله عليه السلام: (فإن خفتم الشر) تدل بكل ما للكلمة من معنى على الاستيلاء والاستحواذ على بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل عائشة ومناصريها من بني أمية.
فقد ورد في البخاري ما يؤكد ممانعة عائشة دفن الإمام الحسن عليه السلام عند قبر جده, وإن كان المنع الوارد في البخاري مطلق إلا أن مجيء بعض الروايات المخصصة لهذا الإطلاق أكد صدور ذلك المنع من عائشة, وهذا نص رواية البخاري في صحيحه حيث يؤكد أن عائشة لم تكن تأذن لأحد بعد دفن عمر, قال: (عن هشام عن أبيه أن عمر أرسل إلى عائشة: أئذني لي أن أُدفن مع صاحبي, فقالت: إي والله, قال: وكان الرجل إذا أرسل إليها من الصحابة قالت: لا والله لا أُوثرهم بأحد أبداً)(50).
فإذا أضفنا الحديث إلى ما ذكروه من أن الحسن عليه السلام أوصى بالدفن عند جده شكّل ذلك قرينة قوية على أن عائشة لم تأذن بالدفن؛ لأن رواية البخاري نص صريح على أنها لم تكن تأذن لأحد فيشمل ذلك الإطلاق الإمام الحسن عليه السلام.
فما جاء في صحيح البخاري يهدم ما ذكره صاحب الاستيعاب وغيره من أن عائشة أذنت بدفن الإمام الحسن عليه السلام ولم يذكر في ذلك رواية مسندة, فلا يمكن لهذه الادعاءات أن تسهم في تبرير استحواذ عائشة على بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعها دفن الإمام الحسن عليه السلام عند قبر جده, فلا تجدي نفعاً ولا تصمد أمام ما ثبت في صحيح البخاري من منعها المطلق من دفن أحد بعد عمر, على أنه قد يُجزم بأن المقصود في رواية البخاري الإمام الحسن عليه السلام؛ ذلك لأنه لم يثبت أنهم ذكروا صحابياً غير الإمام الحسن عليه السلام طلب الدفن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بعد دفن عمر.
وهناك روايات صريحة غير ما رواه البخاري تؤكد منع عائشة دفن الإمام الحسن عليه السلام عند قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, منها:
ما رواه ابن عساكر عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: (سمعت عائشة تقول يومئذ: هذا الأمر لا يكون أبداً! يُدفن (الحسن) ببقيع الغرقد ولا يكون لهم (للرسول وأبي بكر وعمر) رابعاً، والله إنه لبيتي أعطانيه رسول الله في حياته وما دفن فيه عمر وهو خليفة إلا بأمري وما آثر علي عندنا بحسن)(51), وهذه الرواية مسندة عن ابن سعد عن محمد بن عمر عن علي بن محمد العمري عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير.
ومنها: ما رواه أبو الفرج الأصفهاني عن علي بن طاهر بن زيد: (لما أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلاً واستنفرت بني أمية ومروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو القائل: فيوماً على بغل ويوماً على جمل)(52).
ومنها: ما رواه أبو الفداء: (وكان الحسن قد أوصى أن يُدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفي أرادوا ذلك، وكان على المدينة مروان بن الحكم من قبل معاوية فمنع من ذلك وكاد يقع بين بني أمية وبين بني هاشم بسبب ذلك فتنة، فقالت عائشة رضي الله عنها: البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه! فدفن بالبقيع، ولما بلغ معاوية موت الحسن خر ساجداً)(53).
ونقل سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص، قول الواقدي, فقال: (وقال ابن سعد الواقدي: لما احتضر الحسن قال: ادفنوني عند أبي يعني رسول الله فأراد الحسين أن يدفنه في حجرة رسول الله (ص)، فقامت بنو أمية ومروان وسعيد بن العاص وكان والياً على المدينة فمنعوه، قال ابن سعد: ومنهم أيضاً عائشة وقالت: لا يدفن مع رسول الله (ص) أحد)(54).
وذكر اليعقوبي في تاريخه ما نصه: (وقيل: إن عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر فقال لها: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟! فرجعت)(55).
وذكر الشيخ المفيد في (الإرشاد) أن ابن عباس خاطبها قائلاً: (واسوأتاه.. يوماً على بغل ويوماً على جمل! تريدين أن تطفئي نور الله، وتقابلين أولياءه)(56).
وروى الذهبي في (سير أعلام النبلاء): (قالت عائشة: لا يكون لهم رابع أبداً! وإنه لبيتي أعاطنيه رسول الله)(57).
فيتضح من جميع ما تقدم أن عائشة هي من حالت دون دفن الإمام الحسن عليه السلام بجنب جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها ادعت زوراً وبهتاناً أن البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيتها مع أن الجميع يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفون في بيته وليس في بيت عائشة كما أثبتنا ذلك فيما تقدم, ومنه يتضح أن عائشة قد استحوذت على بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعت مع استحواذها على البيت من دفن الإمام الحسن عليه السلام بجانب جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وليس ثمة ما يدل على ملكيتها للبيت كما أثبتنا ذلك بالدليل والبرهان, وهذا إنما يدل على بطلان دعوى استئذان الإمام الحسن عليه السلام من عائشة ليدفن عند قبر جده.
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية
الوحدة العلمية / السيد مهدي الجابري
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب – لابن عبد البر – 1: 391. تاريخ الإسلام – للذهبي – 4: 40, بتصرف.
(2) صحيح البخاري, 1: 412.
(3) الطبقات الكبرى – لابن سعد – 2: 202.
(4) كنز العمال – للمتقي الهندي -13: 114, تاريخ دمشق - ابن عساكر- 42: 385, الكامل – لابن عدي- 3: 389.
(5) الطبقات الكبرى – لابن سعد – 2: 262.
(6) الطبقات الكبرى, 2: 263. كنز العمال, 7: 253 ح 18790.
(7) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد – للهيثمي – 1: 293, ح 1616.
(8) المصدر نفسه, 9: 35, ح 14262.
(9) الطبقات الكبرى, 2: 202.
(10) شرح نهج البلاغة – لابن ابي الحديد – 10: 179.
(11) المصدر نفسه, 10: 265.
(12) هذا الحديث أخرجه الحاكم: ص 139 من ج 3 من المستدرك ، والذهبي أورده في التلخيص ، وابن أبي شيبة في السنن - الكنز: ج 6 / ص 400..
(13) فيما أخرجه أبو يعلى عن كامل بن طلحة عن ابن لهيعة عن حي بن عبد المغافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً ، وأخرجه أبو نعيم في حليته ، وأبو أحمد الفرضي في نسخته كما في: ص 392 من ج6، وأخرجه الطبراني في الكبير أنه لما كانت غزوة الطائف قام النبي مع علي(يناجيه) ملياً ، ثم مر ، فقال له أبو بكر: يا رسول الله لقد طالت مناجاتك علياً من اليوم ، فقال صلى الله عليه وآله: ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه ، وهذا الحديث من أحاديث الكنز: ج 6 / ص 399 وكان كثيراً ما يخلو بعلي يناجيه، وقد دخلت عائشة عليهما وهما يتناجيان فقالت: يا علي ليس لي إلا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فأقبل صلى الله عليه وآله عليها وهو محمر الوجه غضباً. وهذا الحديث يراجع في المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة / ص 78.
(14) سورة الأحزاب: آية 53.
(15) سورة الأحزاب: آية 33.
(16) تاريخ الطبري, 3: 192, المنتظم في تاريخ الأمم والملوك, 4: 34, تاريخ ابن خلدون, 2: 485.
(17) صحيح البخاري, 2: 61, ح 1195, صحيح مسلم, 2: 1010, ح 1390.
(18) إمتاع الأسماع, 10: 98.
(19) سبل الهدى والرشاد, 12: 51.
(20) تاريخ الخميس, 1: 346.
(21) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى – للسمهودي – 2: 126.
(22) الدرة الثمينة في أخبار المدينة, ص90.
(23) وفاء الوفا بأخبار المصطفى – للسمهودي – 2: 52.
(24) المصدر نفسه, 2: 110.
(25) أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس(الطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص 133).
(26) الطبقات الكبرى – لابن سعد – 2: 221, الإصابة في تمييز الصحابة – لابن حجر العسقلاني – 7: 229.
(27) الطبقات الكبرى, 8: 165.
(28) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى, 2: 56.
(29) صحيح البخاري, 5: 15, ح3700.
(30) فتح الباري شرح صحيح البخاري – لابن حجر العسقلاني – 3: 258.
(31) الطبقات الكبرى, 3: 277.
(32) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 112.
(33) المصدر نفسه, 2: 118.
(34) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 111.
(35) المصدر نفسه.
(36) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 111.
(37) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 111.
(38) الأمالي – للشيخ الصدوق -: ص735.
(39) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 46.
(40) المصدر نفسه, 2: 57.
(41) المصدر نفسه, 2: 58.
(42) الدرة الثمينة في أخبار المدينة: ص93.
(43) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 59.
(44) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 47.
(45) المصدر نفسه, 2: 214.
(46) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى, 2: 214.
(47) صحيح البخاري, 6: 12, ح 4448.
(48) ينظر: الصحيح من سيرة النبي(ص) – جعفر مرتضى العاملي – 33: 120 - 139, بتصرف.
(49) أنساب الأشراف – للبلاذري – 3: 60.
(50) صحيح البخاري, 9: 104, ح 7328.
(51) تاريخ دمشق – لابن عساكر – 13: 293.
(52) مقاتل الطالبيين – لأبي الفرج الأصفهاني -: ص82.
(53) المختصر في أخبار البشر – لأبي الفداء – 1: 183.
(54) تذكرة الخواص – لسبط بن الجوزي -: ص 193, ط: بيروت.
(55) تاريخ اليعقوبي, 2: 225.
(56) الإرشاد – للشيخ المفيد – 2: 18.
(57) سير أعلام النبلاء – للذهبي – 3: 275.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا