المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف و وهج القافية
(صوفيّة جرح)
الشيخ علي الفرج
(١)
حينما يقرأ الناس كفَّكَ خطاً فخطاً..
يقولون: تعشقكَ امرأةٌ من دخانٍ تسمّى سماءْ
يقولون: إنّك يوماً
ستصبح والبحر شيئاً
فحيناً يسمّى الزكيَّ
وحيناً يسمّى محيطات ماءْ
يقولون: إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً..
وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي.. إلى أن يموت
وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً.. وتتركه.. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ
وأمّا أنا..
سوف أقرأ كلّ أكفّ الحياة جميعاً
وسوف أراك بها شاخصاً من بعيدٍ
وجوداً.. وجوداً
وغيرُكَ حتى أكفّ الحياة
فناءٌ.. فناءْ
(٢)
كان وجهاً ممزّقا * * * كيف غنّى وصفّقا
كان نهراً محاصَراً * * * وحريقاً تدفّقا
بين ألف انكسارةٍ * * * تتدلّى ليشنقا
كان جرحاً وأعمقا * * * وجحيماً وأحرقا
فاعلاتُنْ لمستْه من البتول غصونٌ فأورقا
فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا
يتمطّى على الشقاء ولا يعرف الشقا
أنا شيءٌ على يديك ترامى ليغرقا
فإذا ما رأى سناك على السحب حدّقا
وإذا ما رأى سناك جبالاً تسلَّقا
وسيصحو بك الشروقُ ويهواكَ مَشرقا
وستغدو إلى السماءِ ويغدو مُحلّقا
غير أنّي إلى الفناءِ ومسراك للبَقا
* * *
أنا شيءٌ من الرمادِ صريعٌ بأحرفي
أتلوّى على يديك وأحيا وأنطفي
وتلهّفتُ فانسكبتُ أنا في تلهُّفي
أنتَ شيءٌ أراك تسكن حتّى تصوّفي
أنت صوفيّتي نمَتْ بين كهفي ومُصحفي
في دمي يختفي الورى وأنا فيك أختفي
أنتَ تحتلُّ من صلاتي خفايا تزلّفي
وبرؤياي مالكٌ تتشهّى وتصطفي
أنتَ من أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ
مات قيسٌ على هواه وليلاه لم تَفِ
وأنا أنهل الحياة بذكراكَ يا وفي
* * *
حدّثتْني رؤاي أنّك شيءٌ قد انتثرْ
فغدا هذه النجوم الجميلات والقمر
وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر
فغدا يصنع الصباح الذي يشربُ السّحر
ثمّ غنّى على التراب لحوناً من القدر
فمشى يفرش التراب أفانينَ من شجر
حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر
سكنتْ فيك آهةٌ آه ما أظلمَ البشر
أنت تُغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسر
عجباً يقطع الخميلةَ من يأكل الثَّمر
* * *
أنا شيءٌ على البقيع هيامٌ على هيامْ
واُسمّى جنازةً وقفت فوقها الحمام
صُلِبَتْ ألفُ شمعةٍ ها هنا تحمل السّلام
وهنا الكون ينحني ومجرّاته تنام
وأنا جاثم هناك حريقاً من الغرام
طفتُ لوناً على الترابِ ولوناً على الغمام
أ أهنا أنتَ أم على السحب أم أنتَ لا ترام
مَن أنا يا ترى تناثر وجهي مع الحطام
أأنا ذلك الهشيم تناءى به الظلام
فتذكرتُ أن نعشي قد غيلَ بالسهام
من بقاياك طينةٌ أنا لا أعشق انقسام
* * *
• الشيخ علي الفرج:
يبدأ علي الفرج باستخدام حدث فلكلوري شعبي هو(قراءة الكفّ) ليقول لنا: إنّ أبسط طرق الناس للمعرفة ستوصلنا إلى علاقة الإمام المعصوم عليه السلام بالسماء حتماً.
فنراه يستخدم(يقولون) فعل حكاية ليسرد بطريقة القصص الشعبية الفلكلورية تصوّرات البسطاء من الناس على ثلاث مراحل.
سنتناول المرحلتين الاُولى والثانية أوّلاً:
يقولون: تعشقك امرأةٌ من دخان تسمّى سماء
يقولون: إنّك يوماً ستُصبح والبحر شيئاً
فالإمام المعصوم عليه السلام يُلبسه الناس البسطاء حلّة غرائبية هي بالتالي حلّة البطل المقدّس المخلّص من الآلام والشقاء والعذاب الدنيوي.
ونلاحظ انّ علي الفرج قد استبقى التصوّرات تلك بتراكيبها الغرائبية ذاتها، فهناك عشقٌ يحدّد العلاقة، وصاحبته امرأة من دخان هي الجزء السحري والمدهش من الكون والوجود وهي السماء.. أمّا على الأرض فيختار علي الفرج من أجزائها البحر ليواصل الإدهاش بالغامض والمستتر فيصبح الإمام المعصوم عليه السلام والبحر شيئاً واحداً من جهات عدّة يمكننا شرحها وتفصيلها، فالإمام والبحر هما العمق والإحاطة والعطاء المستمر والسعة اللامتناهية والطهارة وهذه الأخيرة هي الجهة التي اختارها الشاعر ليقول:
فحيناً يُسمى الزكيّ...
ولا يخفى هنا استمرار علي الفرج في احتفائه الدائب بالصور المائية وخصوصاً البحرية منها، ممّا يطبع شاعريته بهذا الحسّ الذي سبق لنا أن أشرنا إليه في أكثر من دراسة لشعره.
يقولون: إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً..
وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي.. إلى أن يموت
وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً.. وتتركه.. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ
هنا يسرد الشاعر قصّة مختصرة كاملة وبنفس الطريقة الفلكلورية العجائبية الغرائبية حيث يتدخّل الزمان - وهو القدر والمصير في التصوّر الشعبي - ليحفر شقوقاً في أيّام المعصوم عليه السلام الهانئة الحالمة - وهذا أيضاً وفقاً للتصوّرات الشعبية - وتأتي أحداث القصّة حيث يتعرّض ثوب البطل إلى نهش الذئب الذي سيعوي بعد النهش ويستمر في العواء الجائع إلى أن يموت، وكأنّ نهشه للثوب كان سبباً لموته، ثم يتدخّل الشاعر ليضفي على هذا الجو الاُسطوري مسحة رمزية شفّافة حين يقول:
وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه
ونلاحظ أنّ عملية دفن الذئب في ظلمة العار هي ترميز لاندثار الخطّ المعادي للمعصوم عليه السلام لأنّ هذا الخط يصبح وجهاً غريباً عن حركة الحياة بحقائقها الساطعة حينما يمضي الإمام المعصوم عليه السلام مع الانبياء في خطّهم ومنهجهم الإلهي.
وبمقابل عملية قراءة الكفّ الشعبية الفلكلورية ستكون هناك عملية قراءة من نوع آخر عندما يبدأ الشاعر نفسه بقراءة أكفّ الحياة جميعها، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أكفّ الحياة وقراءتها ليستا من النوع الأوّل، بل هما يقابلان - تجوّزاً - كل النشاطات الحياتية العملية والفكرية.
والقراءة هنا قراءة تقصّ واكتشاف بعيدة عن الغرائبية والتصوّرات المندهشة بالمغيبات بدون تصنيف علمي وبدون فرز إدراكي عقائدي سليم.
ويحلو لي ان اسمّيها قراءة شاعرية، وأظنّها كذلك فهي مستندة إلى التصوّر العقائدي الواضح لحالة الإمام المعصوم عليه السلام لكنّها تحاوره ببديلٍ شعري هو معادل وجداني للفكرة يقرّره الشاعر هكذا:
وسوف أراك بها شاخصاً من بعيد
وجوداً.. وجوداً
مقابل ان كلّ الوجودات غيره فانية حتى أكفّ الحياة التي قرأها الشاعر.
ولا يفوتني ان اُشير إلى أنّي أقرأ لعلي الفرج محاولته الاُولى في الشعر الحرّ التي تكشفه لنا متمكّناً أيضاً في هذا النوع من الفن الشعري الذي اتمنّى أن يواصل كتابته فيه شاعراً ولائياً تحاصره الحداثة وتطرق بواباته نصف المغلقة.
أمّا عن قصيدته العمودية (صوفيّة جرح) فقد تعمّد علي الفرج فيها ان يقف مع الجمال على أرضيته، وأن يحلّق في فضاءاته الواسعة على حساب كلّ ما هو بليغ، فقصيدته جميلة أكثر منها بليغة، بل انّه بدأ ينسف بعض الجسور التي تجعله متواصلاً مع البلاغة القديمة، ولنقل أيضاً: إنّ الشاعر بدأ يتلمّس طريقه إلى بلاغة جديدة من صنعه هو، وهذه الخطوة المفتوحة بقوّة في طريقه الإبداعي محسوبة على محاولاته للخروج والتجاوز والتخطّي وعلى مستويات عدّة، فمنها انّ الشاعر اختار النظم - عمودياً - على بحر الخفيف المجزوء وهو صيغة حديثة في النظم انتشرت بكثرة منذ أقل من قرن من الزمان في الشعر العمودي، وهو لم يكتف بذلك فقط، بل دوّر(٣٢) بيتاً من أصل(٤٥) بيتاً على غير عادة النظم في هذا البحر، ليحقّق تعبيراً صارخاً عن ضيقه بهيكلية الصدر والعجز في البيت الشعري، وتوزيع الكلمات والجمل عليهما، فلو نظرنا إلى توزيع عدد الأبيات على القوافي لرأينا الآتي:
قافية حرف القاف(١٣) بيتاً، قافية حرف الفاء(١١) بيتاً، قافية حرف الراء(١٠) أبيات، قافية حرف الميم(١١) بيتاً.
ممّا يؤشّر أنّ الشاعر لم يحتفل بنظام حسابي معيّن لهندسة قصيدته، وهذا أيضاً يوضّح نفوره وضيقه من التقليد ويؤكّد خروجه وتجاوزه لما هو سائد ومألوف:
أمّا على المستوى التركيبي فسنرى:
كان نهراً محاصرا * * * وحريقاً تدفّقا
أو:
فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا
أو:
أنا شيء من الرماد صريع بأحرفي
من فجائية التركيب يصل الشاعر إلى صوره الجميلة، والتراكيب عنده عبارة عن مادّة تعبيرية يوصل بها ما يريد وما يختار، فشعره منحاز إلى الصيرورة والتوليد أكثر من انحيازه للكينونة والثبات، بمعنى انّه يجمع احتمالات الولادة والطزاجة ليفاجئ المتلقّي ويسحره ويسحبه إلى داخل عوالمه الجميلة:
وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر
فغدا يصنع الصباح الذي يشرب السحر
أمّا على المستوى الدلالي فأنّ القصيدة قد تلاعبت بضمائر ثلاثة(أنا.. أنتَ.. هو) أو(المتكلّم والمخاطب والغائب) ثلاثة أشخاص تناوبوا على أبيات القصيدة.
فافتتح الشاعر القصيدة مع ضمير الغائب بسبعة أبيات ليعرض حالة وجه ممزّق ونهر محاصر وحريق، وهذه كلّها إسقاطات للجرح الذي يدور بصوفيّته على ما أراد الشاعر التعبير عنه وتوصيله لنا بعد ذلك:
يحتدم بعدها الحوار بين(أنا وأنتَ) أي بين المتكلّم والمخاطب وعلى امتداد(١٧) بيتاً ليُطرح هذا التساؤل المضطرب:
أنتَ مَن أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ
ونستمع إلى(١٠) أبيات رائية من حديث رؤى المتكلّم مع المتكلّم نفسه:
حدّثتني رؤاي أنّك شيء قد انتثر
أو:
حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر
وحديث الرؤى حديث كشف لحقيقة المخاطَب، فنحن نقترب من شخصية الإمام الحسن عليه السلام وخصوصاً في هذا البيت:
أنت تغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسرْ
ونعود في نهاية القصيدة إلى المتكلّم الذي يؤشّر بقعة جغرافية محدّدة(البقيع) ليؤكّد لنا انّه كان يتكلّم عن الإمام الحسن عليه السلام:
أنا شيء على البقيع هيام على هيامْ
لتبدأ بعدها تساؤلات تدخلنا إلى مناطق اضطراب الدلالة وكثرة احتمالات التأويل.
وننتهي مع الشاعر الذي يؤكّد انتماءه ومحبّته، لكن بطريقة أقرب للغرابة منها للوضوح التقريري، وهي تلامس أكثر من نمط من أنماط الغموض الجميل، لكن القصيدة تمضي إلى النجاح بأكثر من خطوة موفّقة.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا