المجتبى عليه السلام بين وهج الحرف و وميض القافية
(الندى المحترق)
الاستاذ يقين البصري
مقدّمة
تعال إلى روح شفيف هيامُها * * * وعين برغم الصبح طال ظلامُها
تعال نلمّ الشوق ورداً ونسمة * * * ومُفردةً عذراء ثرٌّ غمامها
تعال نوافيك الهوى جمر ليلة * * * تطول كليل القطب كيف تنامها
لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا * * * وقد ساقها يحدو الرّكابَ مرامها
فجازت بنا والنجم يرقب شوطنا * * * وقد طاف في أقصى الفضاء سلامها
إلى مولد السبط الذي شعّت الدُّنى * * * بمولده مذ حلّ فجراً هُمامها
فيا صابراً صبر المسيح وملجماً * * * ًخطوباً على الإسلام صعبٌ لجامها
فرغم دعاوى البغي كنتَ زعيمَها * * * لك انقاد رغم البغي طوعاً زِمامُها
الندى المحترق
نزفنا في الغميم دماً مضافاً * * * فأورثنا الصدى سُمّاً زُعافا
يفيض بداوةً وتفيض مجدا * * * ونغترف السمو به اغترافا
هبي دمنا المفجَّر أريحيا * * * فكيف رميته البيض الخِفافا
وكيف رأيت مجدك أن تصفّي(م) * * * الأسنّة والسيوف له اصطفافا
رغبت عن العلى شرفاً ومجداً * * * وتأبين المروءة والعفافا
سطوت بغدرة فزرعت لؤماً * * * وعُدنا نحصد الشرف المضافا
ولولا ما أراد الله فينا * * * لأورثناكِ ذلاً واعتسافا
وأوردناك فيضَ دمٍ وكأساً * * * مُصبَّرة وبالسيف انتصافا
بدأت بحربنا حتى مضينا * * * عن البيت ابتعاداً وانصرافا
فليت شعاب مكة ما استقامت * * * على سمّ القطيعة أن يدافا
ورحت تحكّمين السيف دهراً * * * إلى أن كلَّ عزمُك أو تنافى
وأرخصت الدماء إذ انتضينا * * * سيوف نبوّةٍ بيضاً رهافا
وأيّ مدى يغطّي الشمس حتى * * * تنكّر مستريبٌ أو تجافى
وآمنّاك من فزع وإنا * * * نُؤمِّن مستغيثا أن يخافا
وآثرنا عليك الوحي حتى * * * ملكنا البيت رُكناً والطّوافا
وأعطيناك فكراً مستنيراً * * * ففضلت التنافر والخلافا
وكم سطعت لنا شمس فعادت * * * على عينيك قاراً أو غلافا
كأنّك ترتدين الليل ستراً * * * ليفضحك النهار إذا توافى
ركبت خيولَ حقدك فاستشاطت * * * وأزمعت الشقاق والاختلافا
وكم رحمٍ قطعت بغير حق * * * ركبت هوىً وأحلاماً خفافا
وفي بيت النبي أطلّ فجرٌ * * * ورفرف بيرق خفق انعطافا
فأسرجنا إليك لسانَ وحي * * * يقارع ألف صرحٍ إن تنافى
ويا بكر النبوّة ألف نجم * * * إلى قدميك قد سجد اعترافا
تلاقى فيك عُرْفُ دم كريم * * * فلامس بالهدى منك الشِّغافا
على كفّيك ماءُ حياً تصاف * * * ومن عينيك أطلقتَ الرِّعافا
وطرزت المدى ألقاً كريماً * * * كأنّ النجم طلّ به وطافا
تساقينا هوى عينيك سكراً * * * نعاف به الكؤوس أو السُّلافا
وأفرغنا الجوى ليلمَّ عنّا * * * عيون اللّيل والسهد المضافا
نجرّ لك الخطى شوقاً وسكراً * * * ونعتمر التمنّع والعفافا
يعير الشمس وجنته افتخاراً * * * فتنهل منه عبَّا واغترافا
تدين له المكاره قبل ألف * * * ويغمر من سماحته الصّحافا
مشى مجداً وطاف هُدى وأسرى * * * كريم الطبع قد سلك القيافا
وعش تحت الكرامة مستظلاًّ * * * من المجد اعتباراً لا يكافى
تمطر عارض هطل فسالت * * * مرابع طالما شكت الجفافا
يطيب بك الزمان أريج قدس * * * تذوق به الدُّنى طعماً نطافا
سقتك من النبوة ألفُ عينٍ * * * وعاد جناك يُقتطَف اقتطافا
تطير بك السماء لتمتطيها * * * وتحتضن الشواطئ والضفافا
ولدت بمهده فحباك حجراً * * * فكنتَ به المُشرَّف والمُعافى
• الاستاذ يقين البصري
قصيدة يقين البصري تعجن إمكاناتها عجناً فنّياً من جهة وأخلاقياً من جهة اُخرى لتقترب من آفاق القصيدة - النموذج - بصيغة المحاكاة الساعية إلى المضاهاة، فهي ترتدي المتاح لها في زمانها وتمدّ يدها إلى مشجب الآتي، محاولة سحب حلّة لم تلبس بعد لتتوشّح بها، وبين هذه التجسّدات يمتد نتاج البوتقة السحرية ليبلّلنا رذاذه المتصاعد.
لو تأمّلنا المقطوعة الافتتاحية لرأينا بصمات النموذج واضحة المعالم، بارزة التأثّر على مستوى البناء الفنّي وعلى مستوى المضمون الأخلاقي أيضاً، فأن إلحاق ضمير الغائبة إلى روي القصيدة ما هو إلاّ محاولة للتقرّب غير المتوجّس لفتح حساب يسحب أرصدة مجمّدة قد كانت عملة من عملات ذلك الزمان لا تصرف في غيره، مع كثرة ما في مصارف التراث من مجوهرات ثمينة تباع في كلّ زمان ومكان، فهي مفتوحة للتداول والتلقّي بمساحاته العريضة ذوقاً وتحسّساً واستجابة.
وهذه الخطوة هي ابتداء التحرّك إلى اُفق النموذج فهي الواجهة الأمامية أو السياج الخارجي للمقطوعة، وإذا أضفنا النظم على بحر الطويل المقبوض إلى ذلك، وهو بحر الفروسية والفرسان تأكّد لدينا أنّ هناك قصدية تحاول الانتخاب والاختيار والالتقاء.
فالنفس الأخلاقي لدى يقين البصري يلبسُ حلّة الفرسان المفتخرين بسلوكياتهم، وهذا المنحى يكاد يتكرّر في قصائد البصري على الرغم من اختلاف المواضيع التي يعالجها شعرياً، وإمعاناً في تأصيله لهذا المنحى نرى الفروسية عنده مستمدّة من النائي البعيد في أغوار الشخصية العربية الباحثة عن مكارم الأخلاق عرفاً ولو على مستوى الجو العام الذي يغلّف القصيدة، فهي أقرب إلى النفس الأخلاقي في الجاهلية منها إلى غيره. وهو بهذا يحاول أن يضاهي ليتجاوزه أكثر من أن يحاكي ليتطابق، فأجواء قصائد الفرسان في الجاهلية تحيط قصيدة البصري بمدارات متخفيّة، فربّما هناك عنترة أو دريد بن الصمّة أو عروة بن الورد، أو الشنفرى يطلّون على مساحة النص من منافذ يسترها الشاعر ويخفيها بحذق غير مكتمل، ونقول: الأجواء العامّة والآفاق المترامية تخلّصاً من التدقيق المتفحّص والتنقيب المتأنّي اللّذين لا يتفقان مع عجالة هذا الجهد المبسّط، لكنّنا نشير إشارات من المستوى النحوي إلى بعض الظواهر مثل استخدام الصفة المقطوعة عن الموصوف في:
تعال إلى روح شفيف هيامها
أو استخدام جملة الحال الاسميّة:
لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا
أو استخدام اسم الفاعل العامل في:
فيا صابراً صبر المسيح وملجماً * * * خطوباً..............
ويمكن للدقّة والفحص النقدي المتأنّي أن يكشف إشارات المحاكاة أو المضاهاة في مستويات اُخرى كالمستوى التركيبي أو المستوى الدلالي.
أمّا عن قصيدته(الندى المحترق) فسرعان ما نكتشف أنّ العنوان كان اختفاءاً رومانسياً وواجهة برّاقة لا تشف عمّا في داخلها، فلا نستطيع أن نوازن بين موضوع القصيدة وهو ميلاد الإمام الحسن عليه السلام وبين الندى المحترق، حتى لو أخذنا بالاشتراك اللفظي لكلمة(الندى) التي تعني قطرات الماء المتساقطة فجراً على الأوراق والغصون وتعني كذلك الكروم، وكلا المعنيين كاشف عن العطاء مثلاً أو الرقّة أو الطراوة، فعندما تحترق هذه المعاني - تجوّزاً - تجد لها مبرّراً شاعرياً رومانسيّ التركيب، لكنّنا لا نتوافق مع الشاعر في هذا الاختيار على الرغم من وجود نبرات الألم والتوجّه في قصيدته، فهو لم يفارق توجّهاته الأخلاقية وموقفه السلوكي في الضغط على أجواء القصيدة وأراضيها، وسنرصد مثلاً اختياره للفظة(المجد) وكيف استطاع الشاعر أن يركّبها ويفرّعها ويفعّلها ليضفي من خلال معانيها مسحاته السلوكية على مضمون القصيدة، فهو يرى أنّ المجد يقابل التمدّن الساعي إلى التحضّر:
يفيض بداوة وتفيض مجدا * * * ونغترف السمو به اغترافا
ويرى(المجد) انتصاراً أخلاقياً ليخاطب:
وكيف رأيت مجدك أن تصفي(م) * * * الأسنّة والسيوف له اصطفافا
ويراه منبعاً أخلاقياً للخلود في:
رغبت عن العلى شرفاً ومجداً * * * وتأبين المروءة والعفافا
ويعود ليراه سلوكاً تفصيلياً يومياً لمكارم الأخلاق في:
مشى مجداً وطاف هدى وأسرى * * * كريم الطبع قد سلك اقتيافا
ويراه أيضاً مظلّة يتفيّأ الفرسان ظلالها في:
فعش تحت الكرامة مستظلاًّ * * * من المجد اعتباراً لا يكافى
ويقين البصري لا يكفّ عن استخدام معجمه اللغوي الذي اختاره، مخصّصاً أكثر من مكان للألفاظ ذات الصبغة الأخلاقية مثل(الشرف، العلى، المجد، أريحي، المروءة، العفاف، انتصاف، كريم، الهدى، افتخار، المكارم، السماحة، الكرامة) وربمّا نلاحظ افتنانه باستخدام لفظة(كريم) في معظم قصائده فلا تخلو هذه القصيدة من هذه اللفظة أيضاً فهو يوردها ليحدّد نجابة الاُصول والانحدار العرقي فيما مضى من أصل الإمام الحسن عليه السلام:
تلاقي فيك عرف دم كريم * * * فلامس بالهدى منك الشغافا
ويورد هذه اللفظة المجرّدة مع لفظة حسيّة ليعطي التركيب المتحصّل مضموناً أخلاقياً يريده ويتمنّاه ويبحث عنه في:
وطرزت المدى ألقاً كريماً * * * كأنّ النجم طلّ به وطافا
ويوردها متعلّقة بالسجية والسلوك والطباع في:
مشى مجداً وطاف هدىً وأسرى * * * كريم الطبع قد سلك اقتيافا
لنرى أنّ يقين البصري لا يفارق إطلالته الموشّاة بجمال الأخلاق، ونرى أنّ نشوته وجذله عندما ينظم بيتاً تظهر فيه الأخلاق مذابة في محاكاته للنموذج ومضاهاته لعنفوان القصيدة العربية الكلاسيكية، وقد أوشكنا أن ننتهي من تقرير هذا المنحى عنده بشكل قطعي، إلاّ أنّنا نضيف دليلاً من المستوى العروضي لكشف هذه المحاكاة.
قصيدة البصري من بحر الوافر ورويّها هو حرف الفاء المفتوح وتحوّلت الفتحة إلى ألف إطلاق، ولو تأمّلنا في هذا البحر وفي تفعيلاته لرأينا أنّه كالآتي:
مفاعلتن مفاعلتن فعولن * * * مفاعلتن مفاعلتن فعولن
فلو قطعنا المجموع(مفا) من أوّل الصدر ومن أوّل العجز لبقي لدينا:
علتن مفاعلتن فعولن * * * علتن مفاعلتن فعولن
وهذه الصيغة الإيقاعية تقابل بالضبط صيغة مجزوء الكامل المرفل:
متفاعلن متفاعلاتن * * * متفاعلن متفاعلاتن
وللشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري قصيدة بعنوان(رسالة مُملَّحة)، منظومة على هذا البحر وعلى روي قصيدة البصري نفسه، وهذه القصيدة في ذاكرة البصري بلا أدنى شك ممّا يمنحه الفرصة للتقاطع معها كركيزة للمحاكاة والمضاهاة على المستوى النظمي، ولا أقول التعكّز عليها لأنّ المضامين التي يطرحها البصري تفرز شاعريته الخصوصية غير المتداخلة مع نصّ الجواهري في مضامينه، لكنّني أقول إنّ هناك تراسلاً لا شعورياً وتناصّاً لا يبرأ منه نصّ البصري وإن كان على مستوى نظام التقفية لديه، مع كون المنحى الأخلاقي الذي يدعو إليه الجواهري في نصّه متدنّياً وداعياً إلى سلوك مضاد لما يدعو إليه يقين البصري في نصّه، ومن هذا التضاد تتكشّف مقدرة يقين البصري على مقاربة أدوات الآخرين مع مسح الظلال الذاتية التي تعتورها، وهذه كفاءة يفخر بها البصري بلا شك.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا