من كتاب: المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف و وهج القافية
(سمات البقيع)
الشيخ قاسم آل قاسم
إذا شئتَ أن تقرأ الوحي، أن تكتب الوحي، أو أن تقولْ...
فلا بد أن تستشفّ البقيع لتصبح وحياً وتصبح بعض معاني الرسول
إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور... فارحل مع الشّمسِ.
لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفقِ
فكم ألّم العاشقين الاُفولْ.
إذا شئت أن تسمع الوحي لا تخش أن تدع الناس تغرقُ نحو السّماء
تطرق أبوابها وحلّق إلى الأرض خلف البقيع..
ولا تنسَ أن تطرق الباب كما كان يطرقه جبرئيل.
وقف خاشعاً خلف أعتابه واطرقِ.. وإن شئت فاجثُ على الأرضِ
كي تستعير من الزغب، زغبَ الملائكِ شيئاً لترسم وجه(الحسن)
ولن تستطيع
لأنّك حين تحاول أن ترسم بعض معانيه يسمو، لأنّ(الحسنْ)
فوق ضيق المسافات فوق الزمن
ولن تستطيع
لأنّك حين استضفت القوافي وقاموسك الأبجديّ
حكمتَ بأنّ على الفن أن يتنازل عن عرشه
ليسجن بين زواياك بين حدود القلمْ
وحتى لو انّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع
لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه(الحسنْ)
وكل الذي ها هنا هو منه، لذاك أبى القوم تشييعه ونفوا نعشَهُ
وظنّوا بأنَّ ثراه يضيع.
وما علموا أن بُردته ستكون(البقيعْ)
وما علموا أنّه توشك الأرض تنشق عن مثلِهِ
ألف جيل ويأتي يصلّي على قبره جبرئيلْ
لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منه،
وفي كل شبر من الأرض كل التراب يحدِّث عنه
فيا قومنا: حطّموا المئذنهْ، أزيلوا القبابْ
فلا تستطيعون محو التراب ولا تقدرون بأن تخرسوا ألسُنَهْ
لكيلا يكون الحسن:
عليكم بان تذبحوا كل فنٍّ، وأن تحرقوا كلّ وجه جميلْ
عليكم بأن تنحروا الفجر كي يتمزّق وجه الأصيل
أن تقطعوا سعفات النخيل، أن تطفئوا الشمس حتى يموت النهار
أن تصنعوا من وجوهِ اُميّة اشرعةً مشوّهةً تصادر لون البحارْ
لكيلا يكون الحسنْ
عليكم بأن توقفوا عجلات الزّمنْ، لئلاّ يجيء الربيع
فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع ووجه الحسنْ
أيا وهجاً من عيون البتول، ويا لونَ بسمتها والضحيّة
ويا لحن إيقاعها حين تخطو تحاكي الرسول
ويا عرفها إذ تدير الرّحى، ويا رجع أنغامها والصدى
منحتَ السحابَ الندى، فعاش على راحتيك الربيع
فهل يا ترى يحتويك البقيع؟!
مساكينُ أعداؤك الواهمون
إنّك بين الزوايا بلاك الكفن
وما علموا أنّ في كل شبر صداكَ، وفي كلّ ذرّة رمل وطنْ
فإن أوصدوا باب أرض البقيعْ
فما أوصدوا بابَ روح الحسنْ
• الشيخ قاسم آل قاسم:
يدخلنا الشيخ قاسم آل قاسم إلى نصّه عبر بوابة التشريط المرتبط بالمشيئة أو هو المحاصر لها، هذه المشيئة شخصيّة فرديّة يخاطبها الشاعر ليكشف لها وينير لها عتمات الوصول، فنلاحظ الخطاب من الشاعر إلى هذه الذات المخاطبة يأتي ناصحاً واعظاً:
إذا شئت أن تقرأ الوحي أن تكتب الوحي أو أن تقولْ
هنا يسائل الشاعر مشيئة الإنسان إذا أرادت أو شاءت الاقتران بالوحي عبر طريقين متتابعين هما قراءة الوحي وكتابته، ويسائل هذه المشيئة مخيّراً اياها ب(أو) أن تقول، على وجه يفهم منه أنّ التشريط ب(إذا) جاء ليحصر ثلاث ظواهر لغوية بالأساس(القراءة، الكتابة، القول).
فلا بدّ أن تستشف هنا مطالبة مؤكّدة بالبحث والتقصّي والاستزادة، وعموماً هي استحضار حالة وعي عميق وإدراك متوقّد الاستشفاف والشفافية في التعامل مع الظواهر اللغوية الثلاث.
لتصبح وحياً
وتصبح بعض معاني الرسول
إنّ الشاعر يكشف للمخاطب شروط الالتحام بما هو إلهي ومقدّس، ويكشف له قوانين صيرورة الإنسان قريباً من الله تعالى ومن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عبر التعامل مع النصّ الألهي أو النصّ النبوي، أو لنقل النص المقدّس حاملاً وعيه وإدراكه وعلمه لبلوغ ما يأمل.
لكننّا نكتشف انّ المخاطب انسان نوعي هو عموم الفنّان شاعراً كان أو كاتباً أو غيره، لذا نرى التشريط الثاني يستخدم ألفاظاً متخصّصة مثل(ترسم، تنحت) وهو يطالب هنا:
إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور
فارحل إلى الشمس لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفق
فكم ألّم العاشقين الاُفول
مطالبة بالرحيل إلى الأصل والمنبع الحقيقي بدون انتظار، وواضح أنّ النور وما يقابله وهو الاُفول جاءا رمزين متقابلين للحقيقة المطلقة واللاّحقيقة.
وقد تعاطف الشاعر في خطابه هنا مع هموم الفنّانين، ووصفهم بالعاشقين الذين يتألّمون أكثر من غيرهم لعدم بلوغ الغاية.
ويؤكّد الشاعر ثانية اختلاف الطرق الجمالية الفنية عن الطرق الاُخرى، أو هو يوصي ويُطالب الفنان -كإنسان نوعي- بمخالفة الأساليب السائدة لأنّ الفنان عنده هو حامل شعلة الإبداع فلا بدّ له من المغايرة، ففي حين يطرق الناس أبواب السماء يطالب آل قاسم الشاعر بالتحليق إلى الأرض لكنّها ليست أيّة أرض كانت، بل هي أرض نوعية خاصة، بقعة سماوية مقدّسة هي البقيع ليقف الشاعر خاشعاً يطرق باب البقيع وإن شاء جثا أيضاً ليحقّق شروط الالتحام المطلوب.
وينتهي إلى استعارة شيء من زغب الملائك الطائرة ليصنع منها ريشة ملائمة لرسم وجه الإمام الحسن عليه السلام.
ويسترسل الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم بعد ذلك استرسالاً مطوّلاً يقول فيه: بعدم كفاءة الوسط والنشاطات الإنسانية في التعامل مع ما هو مقدّس، وعلى وجه الخصوص والحصر قضية الإمام الحسن عليه السلام وهي موضوع القصيدة، لأنّ النشاط الإنساني ومنه الفن محصور بملازمات عالم الإمكان مكاناً وزماناً، فلن يصل إلى التطابق مع ما هو إلهي:
لأنّ الحسن..
فوق ضيق المسافات فوق الزمن..
وعلى الرغم من سعة الفن وإنسانيته فالشاعر -مثلاً- يسجنه بقلمه ويرى فيه رأيه الخاص المحدود ليؤكّد عدم الاستطاعة في التعبير عن ما هو سام، ويضيف آل قاسم في تأكيده لعدم استطاعة الوصول:
وحتى لو أنّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع
لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه الحسن
ويبدأ بعدها آل قاسم في عرض إلتحام الأرض بكلّ مفرداتها وتفاصيلها بقضيّة الإمام الحسن عليه السلام:
لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منهُ
وفي كلّ شبر من الأرض كلّ التراب يُحدِّثُ عنه
وينتهي حواره مع ظالمي الإمام الحسن عليه السلام هكذا:
لكيلا يكون الحسن
عليكم بان تذبحوا كلّ فن
وأن تحرقوا كلّ وجه جميل
في طرح شعري يرسخ ارتباط ما هو جميل بما هو حقيقي، لأنّ الجمال عند آل قاسم ينشد ما هو حقّ وما هو خير، وإزالة الحقّ تعني إزالة الجمال أوّلاً وآخراً، وهذه إلتفاتة ونظر فلسفي ألبسه الشاعر حلّة الشعر وأدخله دوائر الفن عبر التفاف على تقريرية ومباشرة اللغة النثرية.
ويسترسل الشاعر بعدها ليعبّر عن إلتحام المفردات الطبيعية بالإمام المعصوم عموماً، وتخصيصاً الإمام الحسن عليه السلام، فالفجر المنحور ووجه الأصيل الممزّق وسعفات النخيل المقطوعة والشمس المطفأة والنهار الميت ولون البحار المُصادَر، كلّ هذه المفردات الحياتية هي المعادلات الوجدانية الشعرية لمظلومية الإمام الحسن عليه السلام التي تراها وجوه اُميّة المشوّهة.
هذا التناول لمفردات الطبيعة كمواد تعبيرية، أضفى عليه الطابع الفكري لمسات واقعية إيمائية أبعدت عنه النَفَس الرومانسي الحالم المتأوّه لكي يقفل بالإشارة المكرّرة(كيلا يكون الحسن) منبّهاً على استحالة عدم كينونته ووقوف القوانين الطبيعية والسنن الكونية ضد هذا، فلن تقف عجلات الزمن ويبقى الربيع يأتي:
فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع
ووجه الحسن
تبدأ بعد ذلك قطعة ختامية يخاطب فيها الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم الإمام الحسن عليه السلام مباشرة، وهي نفثة روحية حرّة امتزج فيها تمكّن الشاعر من النظم العمودي مع محاولته لكتابة شعر حرّ لا يتقاطع مع تجارب شعراء هذا النمط، بل ينفرد عنهم بسبب بروز الدوافع الأخلاقية السلوكية الضاغطة على تجربة آل قاسم الشعرية.
فقصيدته وعظية تنجح في إخفاء ما تريد تحت أجنحة المعالجة الفنية الجمالية، وتنجح أيضاً في استقلال شخصيتها ومُزاوجتها بين متطلبات الشكل وشروط المضمون، لتجعلنا نقول أنّ تجربته الشعرية بوتقة مختبرية تصهر الأخلاق والسلوك مع الجمالية والحقائق التاريخية في نسيج فنّي يستخدم من الرومانسية مفرداتها الرقيقة، ومن الواقعية حبكاتها المتداخلة، ليحقّق نصّاً هو بدايته المتمكّنة التي نتوقّع لها أكثر من ذلك حينما تتواشج وتتقاطع مع تجارب الآخرين الشعرية عِبر مسارات الشعر المعاصر.
وعلى مستوى التجريب الواعي فإنّ الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم قطع مسافة شاسعة نحو الإبداع والتجدّد.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا