من كتاب: المجتبى بين وميض الحرف و وهج القافية
(قراءات في وادي السنا)
الشيخ نزار سنبل
قرأتُ حبّك منقوشاً على اُفقٍ * * * تضجّ فيه دموعُ الورد والشفقِ
قرأت فيه حياتي كلّ دائرتي * * * ففي الفؤاد حكايا آخر الرّمق
وخاطبتْ لغتي أقلامَ محبرتي: * * * هوى المحبّين حرفٌ من دم الحَدَق
تذوب كلّ لغات الزهر حين هوت * * * على يديه طيور العشق فاحترقي
* * *
قرأتُ فجركَ يا أحلام قافيتي * * * فاُلهبت في دمي أثوابُه الخضرُ
وكان يشرق ملء الأرض هالتُه * * * يضيء يبسم لكنّ المدى جَمُر
يسلّ من وجع العشّاق إبرته * * * فتنطفي الروح والأحلام والكِبَر
وما تعوّد أو ألقاه مُنكسراً * * * حتى تكسَّر في شطآنه البحر
* * *
قرأتُ ليلك مشدوهاً على سفرِ * * * تئنُّ فيه حكايا الدّمع والسهرِ
رأيتُ روحاً تمدّ الكون سابحةً * * * تشدّ خيط شعاع الشمس بالقمر
رأيتُ ظلاًّ شفافيّ الرؤى ألِقاً * * * يرشَّ أفنيةَ الأيام بالزّهر
رأيتُ شيئاً وما أدركتُ صورته * * * وحسبُ روحي أن تفنى على قَدَر
* * *
قرأتُ عصرك أصناماً مُحنّطةً * * * وسُجَّداً حولها تبكي بلا أملِ
تعثّرت في كهوف الليل وانطفأت * * * حتى الشموع التي ترنو على خجل
وكنتَ تلمح خلف الغيب قاحلة * * * تذيب كل معاني الوحي والمُثل
وكانت الفأس في كفيك غاضبةً * * * فحطّمتْ كلّ مجد صيغ بالحيل
وإن سعيت إلى الجلّى بلا وجل * * * فإنَّ رُوحك من روح الإمام علي
* * *
قرأتُ كلّ دوالي الورد بوحَ مُنى * * * وصرتُ أقطفُ من ثدي النخيل جَنى
وصغت من ولهي اُنشودة رُسِمَتْ * * * على دروب الحيارى التائهين سَنا
وناغمت بسماتُ الطير ساقيتي * * * فرفَّ من حُلُمِ الواحات ما سَكنا
وما تحيّرت في حسن أبادله * * * حلو الأحاديث إلاّ الوحي والحَسَنا
* * *
• الشيخ نزار سنبل:
لأنّ الشيخ نزار سنبل شاعر يحتفي ويحنو على المفردات اللّغوية بشكل يقدّمها على الإمكانات والأدوات الاُخرى في العملية الشعرية، فسوف نسائله وفقاً لمعطيين من معطيات المفردة ونترك غيرها عملاً بالاختصار والإيجاز المطلوبين لهذه الدراسة المتعجّلة.
أولاً سندلّل: كيف انّ الشاعر شاعر مفردات أساساً؟ ثم نعرّج على التفريعات الاُخرى، من المسلّم به انّ التجربة الشعرية ظاهرة لغوية أساساً، لها طبيعة خاصة بها، لكنّها على أرض الواقع لغة أوّلاً وآخراً، وهي بالتالي كلمات أو مفردات لغوية وأشياء اُخرى، لكنّ النظام المعجمي الذي يحفظ اللغة ويصونها هو مجموعة كلمات وألفاظ، ونحن نبدأ -على العموم- في تعلّم لغة معينة من خلال تعلّم مفرداتها اللغوية، فالحال انّ مستوى استخدام الألفاظ في التجربة الشعرية له ضرورته التي لا تُنكر.
لكنّنا نرى عند الشيخ نزار سنبل احتفاء خاصاً بالمفردات بشكل واضح على محور اختياره لها، بحيث نرى هناك قصدية لا تستتر في عملية الاختيار في أغلب قصائده، ويمكننا أن نحدّد سياقاً أو نمطاً لاختياراته في كلّ قصيدة.
وسنسمّي هذا النمط المستخلص من قصيدته(قراءات في وادي السنا) بالنمط الريفي الزراعي الذي نجده ينظم غالبية ألفاظ القصيدة بالشكل الذي يجعل الإشارة واضحة معلومة، ويدعم التصوّر الأوّلي ليكون مبتوتاً بصحّته من خلال عملية الاستقصاء والتصنيف فسنجد مثلاً: في المقطع الأوّل (الاُفق، الورد، الشفق، الزهر، طيور).
وتنتظم في المقطع الثاني كلمات(فجر، الخضر، يشرق ملء الأرض هالته، المدى، شطآن، البحر) ليقترب أكثر من بيئته التي استمدّ منها كفايته اللغوية.
ونحدّد في المقطع الثالث(خيط شعاع الشمس، يرش بالزهر) على مستوى التركيب.
فهو في قراءاته الثلاث الاُولى(قرأت حبّك، قرأت فجرك، قرأت ليلك) لم يغادر الرؤى الريفية الزراعية التي تنظم اختياره على محور واضح، لكنّه في المقطع الرابع من القصيدة يقرأ شيئاً آخر(قرأتُ عصركَ..) فينتبه إلى المفارقة بين قراءاته للعصر وبين قراءاته للرؤى الريفية الزراعية التي يحمّلها بالمعاني على محور الدلالة في كلماته المختارة فلا يأتي بشيء منها في هذا المقطع، لكنّه على سبيل الموازنة يوظّف المقطع الأخير لإبراز هذه الرؤى وبكثافة فنرى(دوالي الورد، أقطف من ثدي النخيل جنى، انشودة، بسمات الطير، حلم الواحات).
ونسمّي نمطاً آخر من أنماط اختياره لمفردات تنتظم في سياق خاص بالنمط اللغوي، وهذا النمط معني بانتقاء ألفاظ تعبّر عن ظواهر اللغة والكلام والقول فيظهر لنا الاستقصاء ما يلي(قرأتُ حبّكَ، قرأتُ فيه، حكايا آخر الرمق، خاطبتْ لغتي أقلام محبرتي، هوى المحبّين حرف، لغات الزهر، قرأتُ فجركَ، أحلام قافيتي، قرأتُ ليلكَ، حكايا الدمع والسهر، قرأت عصركَ، معاني الوحي، قرأت كلّ دوالي الورد بوح منى، صغت من ولهي انشودة، حلو الأحاديث) ممّا يؤكّد القصدية في الاختيار مع الجهد الواضح في بعثرة هذا التوجّه لتحقيق العفوية والتلقائية في النص، لكنّنا نلاحظ في المقطع الثالث انّ الشاعر قد كشف -بلا قصد- عن التنظيم في إعطائه الأولوية للمفردات في حالة تكرّر فعل(رأيت) ثلاث مرات في بدايات البيت الثاني والثالث والرابع من المقطع فنرى على التوالي(رأيت روحاً، رأيت ظلاًّ، رأيت شيئاً وما أدركت صورته) وهذا التدرّج في الكشف عن دلالة اللفظ الأوّل(روحاً) في التتابع(ظلاًّ) يمنحنا مفتاحاً في تعامل الشاعر مع الألفاظ لنراه يدور حول الألفاظ التي يعتني بها مثل لفظة(روح) التي سيقول عنها في البيت الرابع بعد نفس الفعل(رأيت):
رأيت شيئاً وما أدركتُ صورته * * * وحسب روحي أن تفنى على قدرِ
ليكمل دورة اختياره بنفس اللفظة(وحسب روحي) ممّا يدعم فرضية اهتمامه بالمفردات على المستوى الدلالي.
لكنّنا نكتشف جانباً آخر من هذا الاهتمام اللّغوي بالمفردات لدى الشاعر على المستوى الصوتي، هذا الاهتمام الذي يختفي بشكل أعمق وأبعد من الظهور، ممّا يقرّبه لحالة الاستخدام اللاشعوري ويبعده عن القصدية والتعمّد وهذا الجانب له بُعد غائر وعميق لعلّنا نفرد له بحثاً خاصاً عندما نجده عند غيره من الشعراء. وسنطلق على هذا الجانب من المستوى الصوتي تسمية مؤقتة هي(رنين الرّوي).
إنّ القافية في الشعر تعتمد على تكرار حرف أو عدّة حروف في نهايات الأشطر أو الأبيات، وفي الشعر العمودي تأخذ شكل بناء شاقولي من الخارج، وهي رغم اعتمادها على جرس حرف الرُّويّ وما قبله وما بعده فهي كذلك تسور القصيدة العمودية بسور إيقاعي ضاغط بحيث يجتهد الشاعر بالإتيان بها سلسلة محقّقة للمتطلبات الشعرية الاُخرى، وتظل تشاغله في عملية الكتابة فكأنّها تضغط برنين روِّيها -لا شعورياً- على البيت الشعري بشكل استباق منذ بداية تشكّله، ممّا يقتضي مراعاته والاهتمام بشروطه.
هذا الضغط يؤثّر على الألفاظ المختارة في صدر البيت وعجزه بما يولّد استعداداً مسبقاً ينكشف على اللاشعور في عملية الكتابة، فيبدأ بالمناوشة بشكل حضور لنفس حرف الرُّوي في متن البيت بسبب من رنين حرف الروي الذي ينتظر تشكّله في كلمة ملائمة.
ولشرح هذا البعد الصوتي الغامض سنلاحظ المقطع الأوّل من قصيدة الشاعر فنرى حرف القاف:
في البيت الأوّل في ألفاظ (قرأت، منقوشة).
وفي البيت الثاني (قرأت).
وفي البيت الثالث (أقلام).
وفي البيت الرابع (العشق).
وفي المقطع الثاني حيث حرف الروي هو حرف الراء نرى:
في البيت الأوّل (قرأت، فجرك).
في البيت الثاني (يشرق، الأرض).
في البيت الثالث (ابرته، الروح).
وفي البيت الرابع (منكسراً، تكسر).
وهكذا في المقطع الثالث أيضاً حيث حرف الروي هو حرف الراء أيضاً:
ففي في البيت الأوّل (قرأت).
وفي البيت الثاني (رأيت، روحاً).
وفي البيت الثالث(رأيت، الرؤى، يرش).
وفي البيت الرابع(رأيت، ادركت، صورته، روح).
ومع حرف اللام في المقطع الرابع نرى:
في البيت الأوّل(حولها، بلا).
في البيت الثاني(الليل، التي، على).
وفي البيت الثالث(تلمح، خلف، الغيب، قاحلة، كل، الوحي، المثل).
وفي البيت الرابع(الفأس، كل، بالحيل).
وفي البيت الخامس(إلى، الجلّى، بلا، وجل، الامام).
وأخيراً نرى نون المقطع الأخير:
في البيت الأوّل منه(منى، كنت، من، النخيل).
وفي البيت الثاني(من، انشودة، التائهين).
وفي البيت الثالث(ناغمت).
وفي البيت الرابع(حسن).
وهذه الظاهرة يمكن أن تستقصي في الشعر العربي قديمه وحديثه، لتحدّد على المستوى الصوتي الذي يشكّل جانباً حيوياً أصيلاً في تكوين التجربة الشعرية وامتدادها وحضورها كنوع أدبي متميز.
بقي لنا مع نصّ الشيخ نزار سنبل ملاحظة عامّة من قدرته في إعطاء أكثر من مدخل لمعالجته، مع اكتفائنا بهذا المدخل التشريحي المبسط لمستوى الاختيار اللّغوي والمستوى الصوتي المرتبط بنظام التقفية وهو في طور التجريب المستمر المنفتح على ما يُتاح من إمكانات تعبيرية وتوصيلية، ففي هذه المعالجة النقدية أكثر من فائدة لتجربته ولتجارب الشعراء الآخرين ممّن نتوخّى فيهم مواصلة الإبداع ورفده بكلّ جديد.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا