من كتاب: المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف و وهج القافية
(ثمرة الاقتران المقدّس دراسة في مستويات التلقّي)
الاستاذ ثامر الوندي
هناك شرطان منهجيان يجب على النصوص أن تحقّقهما قبل أن يُسمح لهما بالاصطفاف بين دفّتي هذا المنشور الذي خُصّص لإحياء مولد السبط المجتبى الإمام الحسن عليه السلام.
الشرط الأوّل هو الموضوع والثاني هو السمة المتولّدة عنه، فالموضوع هو ولادة الإمام الحسن عليه السلام ثمرة الاقتران السماوي المتحقّق على الأرض بين سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهما السلام ومولى الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. أمّا السمة المتولّدة عن هذا الموضوع أو الأثر التابع لهذه الولادة الشريفة، فهو الحالة الشعورية الوجدانية التي تنتاب المتفاعلين والمنفعلين مع ذكرى الولادة، وجليّ انّها حالة الفرح والسرور والسعادة، فتنتظم التجربة الشعرية فيما يسمّى ب -شعر المناسبات- موضوعاً وأثراً.
والكلام عن هذا النوع من الشعر يحتاج إلى بحث موسّع، لكنّنا سنؤشّر بعض الإشارات التي يتقاطع أو يتوازى أو يتلاقى فيها موقفان: أخلاقي، وجمالي، حول رفض أو قبول هذا الشعر.
يمكننا أن نقول على وجه الإطلاق أنّ التجربة الجمالية -أدباً أو فنّاً- لا تصدر إلاّ عن الحياة -محاكاة أو انعكاساً أو تمثيلاً- وحتى التخيّل والتخييل فمادتهما مفردات مسحوبة من تفاصيل حياتيّة يوميّة ارتقت إلى مستوى الخيال عن طريق نسق خاص من العلاقات، وإلاّ فهي من نفس المنبع، فلماذا لا نسمّي اللّقاء بين صاحب التجربة الجمالية وبين مفردات الحياة مناسبة؟ فمثلاً عندما يمرّ رسام على منطقة جبلية فيها من الوديان وانحدارات المياه وتشابك الأغصان ما يشكّل لديه قناعة بالموضوع فيجلب أدواته ويبدأ بالرسم، ألم يكن هذا اللقاء مناسبة؟ ولو كان نفس هذا الرسام بعيداً عن هذا المكان ولم يزره من قبل، وسمع عن هذا الجمال البعيد فقرّر الذهاب إليه لرسمه، ألا يمكننا ان نعدّ هذا اللقاء مناسبة أيضاً؟ وللاختصار أرى أنّ هناك تجارب في الفن التشكيلي تدّعي اللامناسبة (مثل تجارب الفنان الروسي كاندنسكي والفنان الهولندي موندريان في التجريد اللاموضوعي)، لكن محاولتها لإغفال الموضوع وتعويمه هي لقاء أيضاً مع اللاموضوع فتحقّق مناسبة أيضاً. وبنفس الطريقة التي يقول عنها الكاتب والفيلسوف الانكليزي جورج برناردشو: (ان نرفض الفلسفة يعني أن نتفلسف).
فالمناسبة هي الانصهار والتلاحم مع حدث أو واقعة أو شيء أو ظاهرة أو أيّ مفردة اُخرى من مفردات الحياة التي تفرض شروطها وبكل صرامة على النتاج الجمالي فنّاً أو أدباً.
٢ - يجب التفريق بين مناسبة لها سمات القصدية والتحديد والتوقيت، وبين مناسبة تحدث بتلقائية وعفوية فتثير تجربة جمالية معيّنة، سيكون هناك في الحالتين نوع من التحفيز والإثارة التي يُحدثها الموضوع، وربّما هناك جانب من الضغط والقسرية يُشاغل التجربة من خلال الظلال التي تنسحب من الموضوع على النتاج بشكل أو بآخر على محور الاختيار والانتقاء في عملية بناء النص، ممّا يُشكّل إعاقة أو حاجزاً نفسياً وخصوصاً في المراحل الأوّليّة الابتدائية من التجربة، ومع انّ هذا التفريق يجد له حيّزاً من الحقيقة بلا شكّ لكنّني أرى -على مستوى التجربة الشعرية- انّ الشاعريّة الحقّة لا تعدّ الموضوع قانوناً قسريّاً يمنعها من التحقّق والامتداد فلا جديد تحت الشمس على مستوى المواضيع، فالتفرّد والإبداع في تجدّد متواصل عبر مسيرة البشرية ونشاطاتها الحيوية، فالشاعر معنيّ باكتشاف البدائل والمعادلات الشعرية والمداخل الوجدانية الجديدة لنفس الأفكار والمواضيع والاطروحات القديمة، وهذا التحديد هو من صميم عملية اختياره وانتقائه التي يُجرّبها بوعي فني نفّاذ وإدراك جمالي متقدّم.
٣ - انّ مساحة الفعل الأخلاقي وحقل ممارسته تشمل مواضيع الحياة كافة بلا اختيار ولا انتقاء ولا فرز ولا تفضيل، في حين انّ التجربة الجمالية قائمة على ذلك ممّا يقلّل من مساحتها التي تتفاعل عليها مع مفردات الحياة.
وبنفس الطريقة فالوقت الذي تصرفه من حياتنا لنعايش الضوابط والمقرّرات الأخلاقية هو أكثر بكثير من الوقت الذي نستغرقه مع التجربة الجمالية عموماً، ومع كون هذا التفريق لا يحدّد الأفضلية لجانب دون غيره، لكنّه يبيّن أولوية جانب على آخر ويعطيه تراتبيّة مقرّرة سلفاً، فيصبح بالإمكان إنشاء مدخلية أخلاقية للتجربة الجمالية باعتبارها نشاطاً منزّهاً عن الغرض على الأقل في حالة إدراكها، ممّا يترتّب عليه سلوك أخلاقي خيّر واضح كل الوضوح، وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسة الشعائرية العبادية في التطابق السلوكي مع ما اُمرنا به من إحياء وتعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى وتبعاً لذلك إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام، أصبح الموضوع لا يشكّل ضغطاً أو قسراً بقدر ما يشكّل تحفيزاً وإثارة تبحث عن الاستجابة.
٤ - انّ من طبيعة المواضيع التي يتعاطاها كل محبّ وموّال لآل بيت العصمة عليهم السلام أن يبرز منها واقع شعوري وجداني متحقّق من تفاعل مع شهادة وفقدان مرير، إلى تناغم مع ولادة ووجدان أثير، فكلتا الحالتين فيّاضة بالعواطف السامية، جيّاشة بالمشاعر الإنسانية الحقّة، دفّاقة بالأحاسيس الحيّة الأصيلة، ممّا يؤكّد بروز السمة المتولّدة من الموضوع المعالج والأثر المستتبع له، وبتعاضد هذا الاستعداد النفسي والقابلية الشعورية مع آثار المدخلية الأخلاقية والتشريعية في كسب الأجر الأخروي وتحصيل الثواب، تتحفّز الدوافع الخيّرة أخلاقياً وتثار الإمكانات الفنية جمالياً فلا يعدم الشاعر الحقيقي الأصيل وسيلة ليهزّ شجرة الإبداع لتتساقط ثمار الولاء والحبّ ناضجة طريّة في أكفّ المتلقّين المتشوقين للأصيل المتجدّد والجديد المتأصّل.
على أنّي أؤشر لنصوص هذه المجموعة عدم إبلائها اهتماماً للسمة المتولّدة عن موضوع ولادة الإمام الحسن عليه السلام، فهي نصوص تقترب من الفرح بحذر وسرعان ما تبتعد عنه مؤثّرة أرضيات الحزن والمأساة على أجواء الفرح وفضاءات السرور.
هناك شوق عارم لدى المتلقّي أو القارئ ليعاصر ويزامن شاعراً ما أثناء كتابته لقصيدة جديدة، فيعيش المتلقّي - وفقاً لذلك - عصر النص الشعري أو الأدبي أو الفنّي بطزاجته ويناعته وطراوته وجدته.
حبّذا لو كان المتلقّي قريباً من النص وصاحبه ليسائله ويكاشفه لغرض تعميق درجات الإدراك الجمالي ووعي التجربة، لكنّ ما يحدث غالباً بعيد عن هذا الحلم والرغبة المتوسّلة بان يكون التواصل حميمياً وخلاّقاً، فهناك فجوة في قنوات التوصيل يتحمّلها الطرفان -الشاعر والقارئ في هذا المثال- فيقوم شخص ثالث بمهمّة المصالحة وتقريب وجهات النظر وترتيب مستلزمات اللقاء الحقيقي وهذا الشخص هو الناقد.
هذا التدخّل بين القارئ والنص له ما يُبرّره عندما يحاول تكوين حالة من الشعور والوعي الأفضل في ذهن المُتلقّي، ليشدّ الانتباه إلى قراءة اُفق أوسع تكون أكثر إرضاءً وإمتاعاً من خلال إدراك ما هو مميّز في النتاج الشعري أو من خلال كشف مستويات جديدة في العمل، وفي النتيجة يكون هذا التدخّل تدخّلاً لتدريب الحساسيّة أثناء القراءة ولإرهاف الذوق وتحفيز الاهتمام بالعمل الفنّي أو الأدبي، وربّما وصل -على مستوى الأهداف والغايات الأكبر- إلى جعل عملية التلقّي إبداعاً له خصوصياته وفرادته.
والمسلّم به أنّ الناقد قارئ نوعيّ للنصوص، أو هو قارئ متفوّق يُحسن قراءة النص بدرجة أعلى بكثير من درجة الصفر التي تُحدّد بداية التواصل بين قارئ مبتدئ ونص، ومحاولتنا هنا مُقيّدة بتحليل وتشريح النصوص لا تقويمها والحكم عليها، بمعنى أنّنا نحاول أن نجيب على سؤال: كيف كُتِب هذا النص؟
هذا التفحّص النقدي لا يُحاول الاستغراق في المعلومات الخاصّة، ليعرض عضلاته الثقافية والمعرفية بقدر ما يحاول -إن استطاع- أن يسلّم القارئ مفاتيح النصوص من خلال التعرّف والوصول إلى بعض بواباتها المغلقة، فنحن نحاول كشف الطرق التعبيرية والأساليب الفنية وكفاءة الأدوات التي يستخدمها الشعراء هنا، لذا عالجنا كلّ نص حسب الظاهرة الاُسلوبية الأكثر وضوحاً فيه، مع غضّ النظر عن الظواهر الاُخرى الموجودة في ثنايا النصوص وطيّاتها، وهي محاولة للتعرّف على المستويات المتعدّدة التي يطرحها النقد لتشريح النصوص وتحليل بناءاتها المعقّدة.
فتفحّصنا المستوى العروضي في قصيدة فرات الأسدي(البوح المشتهى) ومحاولته في الخروج على البُنى الإيقاعية التقليدية بحسّ تركيبي إيقاعي جديد يعتمد على تشابه الأجزاء في التراكيب التقليدية، ولكن بتجريب جديد لتراسل الأوزان والأبحر الشعرية.
ورأينا المستوى المعجمي والمستوى الصوتي هما الأكثر وضوحاً للمعالجة النقدية في قصيدة نزار سنبل(قراءات في وادي السنا)، واكتشفنا في نصّه ظاهرة أسميناها(رنين الرويّ) ربّما سنتوسّع معها في مقبل الأيام لتأشيرها وتوضيحها والتنظير لها.
ودرسنا المستويين التركيبي والدلالي في قصيدة علي الفرج (صوفية جرح) مع تأشير الاستخدام السردي والتصوّر الحكائي في المقدمة الشعرية الحرّة التي أوردها الشاعر قبل قصيدته.
ومع قصيدة(سمات البقيع) الجأنا قاسم آل قاسم إلى تتبّع مضامينه واُطروحاته الفكرية على المستوى البنائي للقصيدة الذي خرج به الشاعر من مألوفه عندما نظم قصيدته شعراً حرّاً.
ومع يقين البصري في مقدّمته وقصيدته(الندى المحترق) لاحظنا تلاحم الموقفين الجمالي والأخلاقي عنده، وكذلك درسنا آلية تداخل النصوص(التناص) والمقابسة.
ومع قصيدة(كبدي.. وجراحك الخضراء) لمعروف عبد المجيد، نظرنا إلى مسألة استبطان الحدث والواقعة التاريخية وكيفية المعالجة الفنّية للوقائع ووسائل الإخبار والإبلاغ الفنّي.
وختاماً آمل أن تجد هذه المحاولة مَن ينتفع بها في مسايرتها لهذه النصوص واحتفائها بمنهج ربّما لم تتكامل معه بالشكل المطلوب، لكنّها في الأقل محاولة لا تدّعي التأسيس في مرحلة غياب المحاولات الرائدة.
والله من وراء القصد.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا