من كتاب: المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف و وهج القافية
(واقع الشعر الإسلامي بعد الخلافة)
الشيخ عبد المجيد فرج الله
الحلقة المفقودة والإنعطافة الخطيرة التي تفصل بين أدب صدر الإسلام والأدب (الاُموي)، هي الفترة العصيبة التي عاشها الإمام الحسن عليه السلام بعد شهادة أبيه الإمام علي عليه السلام.
وقد سحقت العجلات الاُمويّة وجهاً ناصعاً للأدب العربي الأصيل توّجته نصوص معركة صفّين الكثيرة جداً، كما سحقت كثيراً من المُثُل والتعاليم والمتبنّيات الإسلامية.
وكان بالنتيجة ان عادت وجهة الأدب إلى الانحدار الجاهلي من جديد، لولا نثار صادق أصيل ظل يواصل المقاومة على الرغم من الانسحاق والاحتضار والتعتيم.
والحقّ أنّ الشعر العربي قد مرّ من قبل ومن بعد بامتحانين عسيرين:
أحدهما: النتيجة العسكرية لحرب صفّين وما تبعها من انقسام واضطراب بين أفراد معسكر الإمام علي عليه السلام، حين تمرّد بعضهم الأكبر على قراراته وأجبره على الصلح، فتبيّن لهم فيما بعد خطؤهم وانخداعهم.
وقد جرّ هذا إلى الاغتيال الأثيم لأعظم شخصية إسلامية بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الكوفة.
الثاني: اضطرار الإمام الحسن عليه السلام إلى القبول بمصالحة معاوية وتنازله عن الخلافة -بشروط يجب أن لا تُغفَل أبداً- من أجل المحافظة على القلّة القليلة من رجال الإسلام المخلصين.
لقد وصل الوضع المتردّي في التناحر على السلطة حدوداً مجنونة تجعل جلّ الفئات التي تتطاحن مع صاحب الخلافة الشرعي(الإمام الحسن) على شفير هاوية سحيقة.
وكان مركز الصراع في قريش، وقريش هي مركز السيادة والحكم، والناس ينجذبون إلى أقطابها المتنافرة.
على أنّ أبغض قطب وأمقته لدى الناس هو قطب بني اُميّة، على الرغم من كثرة الملتفّين حوله والداعين إليه نتيجة الحملات الدعائية والمالية التي أطمعت الناس وجعلتهم ينضمون إلى الحزب الاُموي طلباً للمال والجاه الدنيوي.
أمّا الخليفة الشرعي فكان على أعلى درجات الحنكة والبصيرة، لأنّه رأى في وجوده ضرورة من أجل دوام الإسلام والمحافظة على المسلمين.
وحين وجد في جيشه انتكاساً نفسياً وعددياً أمام الجيش الاُموي(المرتزق)، آثر الإبقاء على ثلّة المؤمنين الصالحين الذين هم وقود الحرب ورأس الحربة في عسكره غير المتكافئ أمام العسكر الاُموي.
فصالح على شروط تذكرها كتب التاريخ، وكان وقع الصلح ثقيلاً على المخلصين من جند الإمام - وهم قلّة(1)..
وقد أرّخ الفارس المؤمن قيس بن سعد قائد جيش الإمام الحسن عليه السلام هذه المرارة حين عرف بالخبر وهو يستعدّ للمواجهة، حيث قال:
أتانا بأرض العال من أرض مسكنٍ * * * بأنّ إمام الحق أضحى مسالما
فما زلتُ مذ نبّئتُه متلدّدا * * * أراعي نجوماً خاشع القلب ناجما
ولا بد من أن أشعاراً اُخرى قد تحدّثت عن هذا الأمر لكنّها لم تصل إلينا بسبب سياسة التعتيم والإلغاء الاُموية.
وعلى الرغم من الصلح واستتباب الاُمور لمعاوية، إلاّ أنّ الفرق كان شاسعاً بين حكم يقوم على أساس العدل والاستقامة والصلح الإسلامي، وبين حكم فردي قبلي يستمدّ رؤاه وتصوراته من كوّة الجاهلية التي لم تدخل في الإسلام إلاّ خوفاً وطمعاً.
وكان الاُمويون يشعرون بضخامة الهوّة بينهم وبين الخلفاء الشرعيين - أهل البيت عليهم السلام - ويعانون من عقدة النقص أمامهم فيحاولون التنفيس عن عناء هذه العقدة بمواقف تجيء نتائجها سلبية في الغالب(2).
ومنها أنّ مفاخرة جرت بين القرشيين والإمام الحسن عليه السلام حاضر لا ينطق، فقال معاوية للإمام: يا أبا محمّد: ما لك لا تنطق؟ فوالله ما أنت بمشوب الحسب ولا بكليل اللسان (و واضحة أبعاد كلام معاوية وكأنّه يحاول تعريف الأشياء حسب ما يريد) فقال الإمام: (ما ذكروا من فضيلة إلاّ ولي محضها ولبابها).
ثم قال هذا البيت الذي يختصر تاريخاً حافلاً ما يزال محفوراً في الأذهان:
فيمَ المراءُ وقد سبقتَ مُبرّزا * * * اسبقَ الجوادِ من المدى المُتباعدِ
وبعد مناظرة ثانية يقول الإمام عليه السلام:
الحقُّ أبلجُ ما يحيل سبيله * * * والحقُّ يعرفه ذوو الألبابِ(3)
وفي مرّة يصرّ مروان على إحراج الإمام عليه السلام وإيذائه بالكلام، لكنّه عليه السلام يصدع بالحقّ هادراً في كلام يفيض أدباً ثم يختمه بهذه الأبيات:
ومارست هذا الدهر خمسين حجّةً * * * وخمسا اُزجِّي قائلاً بعد قائلِ
فلا أنا في الدنيا بلغت جسيمها؟ * * * ولا في الذي أهوى كدحت بطائلِ
وقد شرعت دوني المنايا أكفّها * * * وأيقنت أنّي رهنَ موتٍ مُعاجلِ
وبالإضافة إلى الجانب الوعظي الذي يعتبر صرخة في الضمير الاُموي المشرف على الهلاك الذي ضمّته هذه الأبيات إلاّ أنّ في البيت الأخير إشارة صريحة إلى توجّس الإمام من الغدر الاُموي، وهو بذلك يرسي واحدة من قواعد الشاعر الملتزم بمبادئه، فهو يقول كلمته حتى ولو كانت سبباً للمتاعب والأخطار، لأنّ الشاعر ضمير الاُمّة الحي وحامل همومها وآمالها.
وقد تربّى شعراء مدرسة أهل البيت عليهم السلام بهذه التربية على مرّ العصور، وليست بعيدة عن ذاكرة المثقّف العربي موقف شعراء كبار مثل الفرزدق والكميت ودعبل الخزاعي والسيد الحميري وكثير أمثالهم.
وبالإضافة إلى الفائدة الجمّة من هذه المواقف في إرساء الشجاعة والجرأة لدى الأديب الإسلامي، فإنّ هناك فوائد اُخرى لا يُستهان بها؛ إذ أزاح بعض تلك المواقف الستار الكثيف من التعتيم والتضييع على كثير من النصوص الشعرية، بل وحتى الحقائق التاريخية المغيّبة.
ففي محاورة طويلة عاصفة بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية وعمرو بن العاص والوليد بن المغيرة، يكشف الإمام عليه السلام كثيراً من الحقائق المطموسة، ثم يأتي على نصوص شعرية منسيّة تزيح القناع عن الوجوه الكالحة، ومنها قصيدة عمرو بن العاص حين أراد الخروج إلى النجاشي في محاولة لاستعادة المهاجرين المسلمين الأوائل الذين فرّوا بدينهم إلى أرض الحبشة وفيها يقول:
تقول ابنتي أين هذا الرحيلُ؟ * * * وما السيرُ منّي بمُستنكَرِ
فقلت ذريتي فأني أمرؤُ * * * أريدُ النجاشيّ في جعفر
لأكويَهُ عنده كيّةً * * * اُقيم بها نخوةَ الأصعر(4)
ومثلها قول الحطيئة الذي استشهد به الإمام في معرض ردّه على الوليد:
شهد الحطيئة حين يلقى ربّه * * * أنّ الوليد أحقّ بالعذرِ
نادى وقد تمّت صلاتُهمُ * * * أأزيدكُم -سُكْراً- وما يدري
ليزيدهم اُخرى، ولو قَبِلوا * * * لأتت صلاتُهمُ على العَشْر(5)
وقد قال الحطيئة ذلك حين صلّى الوليد بالمسلمين الفجر وهو سكران وتظهر فيها فنية التهكّم (الحطيئي) بجلاء.
ويعيد الإمام عليه السلام إلى الأذهان قول الشاعر (وهو حسّان بن ثابت) حين تفاخر الوليد والإمام علي عليه السلام فنزلت الآية: (أفمَن كان مؤمناً كمَن كان كافراً لا يستوون)(6):
أنزل الله والكتابُ عزيزٌ * * * في عليٍّ وفي الوليدِ قُرانا
فتبّوا الوليدُ إذ ذاك فِسقاً * * * وعليٌ مُبوّأٌ إيمانا
ليس مَن كان مؤمناً - عَمركَ اللّــ * * * ـهُ - كمَن كان فاسقاً خَوّانا(7)
ويذكر الإمام الحسن عليه السلام بقول الشاعر نصر بن حجّاج الذي أوّله:
يا للرجال لِحادث الأزمان * * * ولِسبّة تُخزي أبا سفيان(8)
وحين ينتهي قول الإمام يقول معاوية كلاماً ينمّ عن لؤم أولئك الذين أرادوا النيل من الإمام، فما كان إلاّ خزيهم وعارهم، ثم قال شعراً في ذلك:
أمرتُكم أمراً فلم تسمَعوا له * * * وقلتُ لكم لا تبعَثُنّ إلى الحَسَنْ
فجاء وربِّ الراقصات عشيّةً * * * بِرُكبانِها يَهوِينَ في سُرّة اليَمَن
أخاف عليكم منه طولَ لسانه * * * وبُعدَ مداهُ حين إجراره الرّسَن
فلمّا أبيتم كنتُ فيكم كبعضكم * * * وكان خطابي فيه غَبناً من الغَبَن
فحسبُكمُ ما قال ممّا علِمتُم * * * وحسبي بما ألقاه في القبر والكفن(9)
ويترسّخ ذلك أكثر في أبيات الفضل بن العبّاس بعد مناظرة بين معاوية وبين أخيه عبد الله بن عباس حيث يقول(10):
ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ * * * فإنّ المرء يعلمُ ما يقولُ
لنا حقّان: حقُّ الخمس جارٍ * * * وحقُّ الفيء، جاء به الرسول
فكلُّ عطية وصلت.. إلينا * * * وإن سحبتْ لطالبها الذيول
أتيح له ابن عبّاس مجيباً * * * فلم يدر ابن هند ما يقول
فأدركه الحياء فصدّ عنه * * * وخطبُهُما إذا ذُكِرا جليل
وللفضل بن العبّاس نصوص عديدة تصبّ في هذا التيار(11).
وبذلك تأخذ المناظرات الشعرية القائمة على الاحتجاج والأدلّة والبراهين الثابتة على اُسس إسلامية أهمّها الكتاب والسنّة شكلاً جديداً، وإن كان مستمداً من الفترات السابقة، وكلّ ذلك كان يسهم في ترسيم صورة منحى هذا النوع الذي تقوّم على يدي الكميت بن زيد الأسدي(12).
وقد تبع شعراء آخرون هذا السبيل في مواجهة الحقبة الاُمويّة وهم يتوسمون خطوات أهل البيت عليهم السلام، ومن هؤلاء الشعراء شريك بن الأعور، ويزيد بن مفرغ الحميري، وثابت بن عجلان الأنصاري، والنعمان بن بشير الأنصاري(بعد أن هجا الأخطل الأنصار)، ومن الشواعر هند بنت يزيد بن محزبة الأنصارية، وسودة بنت عمارة، وبكارة الهلاليّة، واُمّ سنان بنت جشمة المذحجية، ومن المتكلّمات عكاشة بنت الأطرش والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية...الخ.
وللتدليل على ذلك نأخذ بعض نصوص أولئك الشعراء والشواعر، ليتبيّن للقارئ الكريم مقدار تأثير أهل البيت عليهم السلام على اتجاهات شعر(المعارضة) الأصيل الذي ضاع أغلبه أو ضيّع لأسباب قديمة وحديثة معروفة:
يقول شريك بن الأعور بعد مواجهة كلامية حامية مع معاوية في مجلسه:
أيشتمني معاوية بن حربٍ * * * وسيفي صارمٌ ومعي لساني؟
وحولي من ذوي يَمَن ليوثٌ * * * ضراغمةٌ تهشُّ إلى الطّعان
وإن تك للشقاء لنا أميراً * * * فإنّا لا نقيم على الهوان(13)
ويقول يزيد بن مفرغ الحميري أبياتاً بعد أن ادّعى معاوية أنّ أباه - أبا سفيان - قد واقع اُمّ زياد حينما كانت زوجة لعبيد الله فأولدها زياداً وجاء معاوية بأبي مريم الخمّار ليشهد بذلك في جامع دمشق، كل هذا من أجل استمالة زياد بن أبيه دون مراعاة المشاعر الإسلامية والتقاليد الدينية يقول يزيد بن مفرغ:
ألا أبل معاوية بن حرب * * * لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ
أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ * * * وترضى أن يُقال: أبوك زاني
فاشهد أن رحْمَك من زيادٍ * * * كرحمِ الفيلِ من وَلَدِ الأتان(14)
ويقول ثابت بن عجلان الأنصاري في مجلس معاوية بعد كلام طويل:
بنو هاشم أهل النبوّة والهدى * * * على رغم راض من معد وراغمِ
بهم أنقذ الله الأنام من العمى * * * وبالنفر البيض الكرام الخضارم
فما أنت يا ابن العاص ويلك فازدجر * * * ولا ابنُ أبي سفيانَ أمثال هاشم(15)
وتستعاد أبيات سودة بنت عمارة الهمدانية (وهي اخت مالك الأشتر أو ابنته) في مجلس معاوية بعد محاورة بينهما ترثي الإمام عليّاً عليه السلام وقد أثار شعرها غضب معاوية:
صلّى الإله على روح تضمّنهُ * * * قبرٌ، فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالفَ الحقّ لا يبغي به ثمناً * * * فصار بالحقّ والإيمان مقرونا(16)
وتقول بكارة الهلالية في مجلس معاوية:
قد كنتُ أطمع أن أموت ولا أرى * * * فوق المنابر من اُميّة خاطبا
فالله أخّر مدّتي فتطاولت * * * حتى رأيتُ من الزمان عجائبا
في كلّ يوم للزمان خطيبهم * * * بين الجميع لآلِ أحمد عائبا(17)
وتقول اُمّ سنان بن جشمة:
إمّا هلكتَ أبا الحسين فلم تزل * * * بالحقّ تُعرَف هاديا مهديا
فاذهب عليك صلاة ربّك ما دعت * * * فوق الغصون حمامةٌ قمريّا
قد كنتَ بعد محمّد خلفاً كما * * * أوصى إليك بنا فكنت وفيا
فاليوم لا خَلَفٌ يؤمَّل بعده * * * هيهات نمدح بعده إنسيا(18)
وتقول هند بنت محزبة الأنصارية في أمر حجر بن عدي رحمه الله:
تَرفّعْ القمر المنير ترفّع * * * هل ترى حجراً يسيرُ
يسير إلى معاوية بن حرب * * * ليقتله كما زعم الخبير
تجبّرتِ الجبابرُ بعد حجر * * * وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولا * * * كأن لم يحيها يومٌ مطير
ألا يا حجرُ حجرَ بني عدي * * * تلقّتْك السلامةُ والسّرور
أخاف عليك ما أدري عديا * * * وشيخاً في دمشق له زئير
فإنْ تهلكْ فكلّ عميدِ قومٍ * * * إلى هُلكٍ من الدنيا يصير(19)
وتبقى قصيدة عبد الله بن خليفة الطائي شاهدة على معاناة الشاعر الملتزم في زمن الطغيان الاُموي.
وهي بعدد أبياتها (ذكر منها الطبري ٥٦ بيتاً)، وبتصويرها الصادق المعبّر عن الأحاسيس بكل ما لدى الشاعر عن عفوية وخوف وترقّب، تُعَد من أحسن الشواهد الأدبية والتاريخية على الوضع الاجتماعي والاضطهاد السياسي والأدبي:
يقول عبد الله بن خليفة في جانب من قصيدته وهو يتحدّث عن منفاه:
فمَن لكم مثلي لدى كلّ غارة * * * ومَن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومَن لكم مثلي إذا الحرب قلّصت * * * وأوضعَ فيها المستميتُ وشمّرا
فها أنا ذا داري بأحبال طيء * * * طريداً، ولو شاء الإله لغيّرا
نفاني عدوي ظالماً عن مهاجَري * * * رضيت بما شاء الإله وقدّرا
وأسلمني قومي لغير جناية * * * كأن لم يكونوا لي قبيلا ومَعْشرا
ونخلص من كل ذلك إلى أنّ خطّ المعارضة الشعري هو صفوة الشعر الإسلامي في تلك الفترة، وقد سجّل حضوراً متميزاً على الرغم من التعتيم والتهميش الذي مورس بأبشع الوسائل والأساليب من أجل خنق الصوت الحرّ الواعي المنتمي لأصالته.
وهذا الخط هو في واقعه امتداد للأدب الإسلامي الذي انطلق بعد الدعوة المحمّديّة، وكان مقّدراً له مواصلة الشوط ليزهر أكثر فأكثر، لولا الردّة الأدبية والسياسية والاجتماعية الاُموية.
وقد اتخذت هذه الردّة أشكالاً عديدة ورافقتها نتائج مؤثّرة ومن تلك الأشكال والنتائج:
١ - حاول الاُمويون بكل ما يستطيعون استقطاب الشعراء الأقل شأواً والأخمل ذكراً وأغدقوا عليهم الأموال ووسائل الترف والترفيه ليكونوا عوناً إعلامياً لهم من جانب، وليشوشوا على ذلك الصوت الشعري الأصيل من جانب آخر(20).
٢ - تحييد وإلهاء الشعراء الكبار عن طريقين؛ مباشر: بالترغيب والترهيب والإقصاء والتقريب، وغير مباشر: بتحريض شعراء آخرين على النيل منهم للانجرار إلى أغراض بعيدة عن الروح الإسلامية مثل الهجاء، والردّ على المجون والقذف بمجون وقذف مضاد، وهكذا تتصاعد حدّة المواجهة يوماً بعد آخر، ويكون بالنتيجة تحييد الشاعر أوّلاً، وتحطيمه معنوياً ثانياً، وإلهاء الناس بالمشاحنات والعداوات والمشاعر القبلية من أجل إبعاد تفكيرهم عن دائرة السلطة الاُمويّة ثالثاً(21).
٣ - الهبوط بالشعر من جديد -بعد فترة الارتقاء النسبي في صدر الإسلام- ليصبح وسيلة لتفتيت الأخوّة الإسلامية والوحدة الفكرية والاجتماعية والدينية بين أفراد المجتمع الإسلامي(22).
٤ - انحسار الشاعر عن آفاقه الرحبة وتخلّيه عن موقعه الفني المؤهّل للنمو وتراجعه إلى حدود دنيا، بسبب ربطه بالولاء القبلي الضيق، وبالولاء السياسي الداعم لنظام الحكم الاُموي(23).
٥ - تصاعد وتائر التضييق والتهميش والمصادرة والتي تستهدف الشعر الملتزم، لتصبح الآن ذاتية يحرّكها الشعراء أنفسهم لا النظام الحاكم فقط(24).
٦ - تشتّت الانطلاقة الاُولى القوية للشعر في صدر الإسلام والتي كانت تتمحور حول شخصية المثل الأعلى(الرسول - الإمام)، وما نتج عن ذلك من تبعثر التطور والإبداع، خاصّة حين يفتقد الشاعر قدوته الحسنة من أعلى منصب في الهرم الإسلامي(الخلافة)(25).
٧ - الابتعاد عن معين القرآن والأقوال النبويّة الشريفة وخطب الإمام علي عليه السلام واُسلوبه الأدبي المتميز، مع العلم انّ في هذا الثالوث القيم أرقى درجات الفنية والسمو الأدبي(26).
٨ - إدخال الغناء في دائرة الاهتمام الشعبي، ممّا فرض على الشاعر تلقائياً مجاراة نفس الغناء واُسلوبه وأفكاره، حتى وإن كانت منحطّة أو ركيكة(27).
٩ - المساهمة في قيام الغزل الماجن والقصص الغرامي البعيد عن الروح الإسلامية(28)، وإن نتج عن ذلك شيء حميد كردّة فعل طبيعية فطرية لدى الشاعر البدوي المنصهر بالإسلام فظهر شعر الحب العذري ومن ثم الشعر الصوفي.
ممّا حدا بأولئك المشبوهين إلى حرف شعر الحب وتوجيهه وجهات فجّة من خلال خلق قصص غرامية أو حتى خلق نصوص ملفّقة تنسب إلى هذا الشاعر أو ذاك لإفساد جوّه النقي، أو تشويه صورته المستقيمة في أنظار الناس(29)..
وهناك حقيقة مهمة تستحق الدراسة والتأمّل وهي وشائج القربى بين شخصيات شعر الحب(وبالأخصّ كثير عزّة وجميل بثينة وقيس بن ذريح) وبين خط الشعر الإسلامي(المعارض).
وعلى الرغم من كل ذلك ظل الشعر المرتبط بأهل البيت عليهم السلام جمراً تحت الرماد، حتى فاجعة كربلاء فانطلق بكل قوّة واحتجاج ولم يهدأ حتى هذه اللحظة وهو يحمل أصالة الانتماء إلى الإسلام فكراً ورؤى واستشراقاً للمستقبل، مع محافظته على تأثيرات القرآن ونصوصه المقدّسة فجاء صادقاً رقيقاً طافحاً بالحبّ والحزن والثورة في آن معاً.
الهوامش:
(1) موسوعة النبي وأهل بيته في الشعر العربي - الجزء الثاني .
(2) ابن أعثم الكوفي: ج٤ ص٢٩٢ وقد وردت الكلمة الأخيرة من البيت الأوّل هكذا(مسلما) وهو خطأ واضح ولعلّه مطبعي.
(3) موسوعة النبي وأهل بيته في الشعر العربي - الجزء الثاني .
(4) بحار الأنوار: ج ٤٤ ص ١٠٣.
(5) المصدر السابق: ج ٤٤ ص ١٠٣.
(6) العقد الفريد: ج ٣ ص ٨١.
(7) أعيان الشيعة: ج ١ ص ٥٧٥.
(8) المصدر السابق.
(9) السجدة: ١٨.
(10) أعيان الشيعة: ج ١ ص ٥٧٥.
(11) المصدر السابق.
(12) المصدر السابق.
(13) مختصر تاريخ دمشق: ج ٢٠ ص ١٨٢.
(14) موسوعة النبي وأهل بيته في الشعر العربي - الجزء الثاني .
(15) نفس المصدر.
(16) المستطرف: ج ١ ص ٢٥٧.
(17) تاريخ الطبري: ج ٣ ص ٢٥٧.
(18) أعيان الشيعة: ج ٤ ص ١٤.
(19) العقد الفريد: ج ١ ص ٣٣٥.
(20) نفس المصدر: ج ١ ص ٣٣٧.
(21) المصدر نفسه: ج ١ ص ٣٤٠.
(22) موسوعة النبي وأهل بيته في الشعر العربي - الجزء الثاني .
(23) تاريخ الطبري: ج ٤ ص ٢١٠.
(24) موسوعة النبي وأهل بيته في الشعر العربي - الجزء الثاني .
(25) نفس المصدر.
(26) نفس المصدر.
(27) نفس المصدر.
(28) نفس المصدر.
(29) نفس المصدر.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا