نظرة في صلح الإمام الحسن (عليه السلام)
الكاتب: الشيخ كمال معاش
كان الإمام الحسن (عليه السلام) يقابل كل ذلك العتاب المرير بالصبر والحكمة، من دون بيان وجهة نظره تفصيلا، فهو يعلم محدوديّة إدراك أصحابه للمصلحة، كما يعلم إشفاقهم على الدين وعلى دمه (عليه السلام) ودمائهم. فكان يجيب بعض أصحابه تارة بما يلقي الحجّة عليه، من أنه إذا كان إماماً مفترض الطاعة فلا ينبغي نبذ رأيه في ما فعله من هدنة أو قتال، وأخرى يشدد النكير عليهم ويصفهم بأن معاوية خير له منهم.
على مَرّ الأيام وتوالي الشهور تمرّ علينا ذكريات من مواقف أهل البيت (عليهم السلام)، ومعلوم أن لتجدد هذه الذكريات فوائد جمّة، يضيق المقام هنا عن حصرها، فلو لم يكن فيها من الفوائد إلا أن المارّ عليها يستلهم منها العبرة والعظة لكفى.
وها نحن نمرّ في شهر الله الأعظم بذكرى مولد الإمام أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام)، فنستوحي من حياته (عليه السلام) العبر، لتنير لنا الدرب في مسيرتنا، ونتخذها منهجاً في حياتنا، إذ نحن الآن وفي كل عصر بأمس الحاجة إلى أمثال تلك الدروس، واستلهام تلكم العبر.
فلو أراد الإنسان أن يطبّق كل ما رسمه الإمام صاحب الذكرى (عليه السلام)، بل جميع الأئمة (عليهم السلام) لأصبح من أسعد الناس دنياً وآخرة، كيف لا وهم حجج الله على خلقه، اختارهم الله رحمة منه لعبادة، ورأفة بهم.
ونحن ـ بهذا الصدد ـ نسلط الضوء على بعض الأسباب التي دعت إلى صلح الإمام (عليه السلام) مع معاوية، وما خلّفه الصلح من تداعيات، بالإضافة إلى التفريق بين موقف الحسنين (عليهما السلام) في المهادنة والحرب.
من المعلوم الإنسان بطبعه لا يستطيع الصبر على ما يجهله، ولا يسهل عليه إقرار فعل لا يعرف سببه، مهما كان الفاعل، من الحكمة والعلم والسياسة.. هذا ما دعا أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى عدم رضاهم بالصلح، جهلا منهم بالحكمة التي من أجلها تمّ الصلح، فحُقنت الدماء.
حتى أن بعض أصحابه (عليه السلام) وجّه إليه أشد العتاب في جعله رقابهم تحت قدم معاوية ـ حسب وصفه ـ ووصفه آخر بمذلّ المؤمنين، وغير ذلك مما لا يتناسب مع مقام الإمامة العظيم.
كان الإمام الحسن (عليه السلام) يقابل كل ذلك العتاب المرير بالصبر والحكمة، من دون بيان وجهة نظره تفصيلا، فهو يعلم محدوديّة إدراك أصحابه للمصلحة، كما يعلم إشفاقهم على الدين وعلى دمه (عليه السلام) ودمائهم. فكان يجيب بعض أصحابه تارة بما يلقي الحجّة عليه، من أنه إذا كان إماماً مفترض الطاعة فلا ينبغي نبذ رأيه في ما فعله من هدنة أو قتال، وأخرى يشدد النكير عليهم ويصفهم بأن معاوية خير له منهم.
وبقيت فكرة كون الإمام الحسن (عليه السلام) مخطئاً في صلحه متوارثة، فهذا سدير الصيرفي يقطع كلام الإمام الباقر (عليه السلام) حيث كان يتكلم (عليه السلام) عن العلم الذي انتقل من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ثم منه إلى الحسن (عليه السلام)، فقاطعه سدير بقوله: (كيف يكون بتلك المنزلة وقد كان منه ما كان، دفعها إلى معاوية) فيجيبه الإمام الباقر (عليه السلام): (أسكت، إنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم).
والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السلام) يعرف ـ وبوضوح ـ الأسباب التي اضطرت الإمام الحسن (عليه السلام) إلى ترك مقاتلة معاوية، والتجائه إلى الصلح.
وقد بيّن (عليه السلام) شيئاً من ذلك بقوله لبعض أصحابه: (ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قُتل). فكان هذا من أهم الأسباب، حيث رأى (عليه السلام) أن حقن دماء شيعته في هذا الظرف العصيب خير للدين، إذ أن فناء الشيعة يؤدي بالضرورة إلى فناء الدين، وفسح المجال لمعاوية وجماعته يفعلون ما يشاؤون.
وقد أشار (عليه السلام) في بعض كلماته إلى أنه لو قاتل معاوية ما كان معاوية ليقتله في الحرب، بل يؤسره، فإذا أسره، فإما أن يقتله أسيراً أو يصفح عنه، وفي كليهما أشد ضرراً عليه (عليه السلام) وعلى الدين، فإذا صفح عنه يكون في قبال صفح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن بني أمية عام الفتح، فيصبح الإمام الحسن (عليه السلام) طليقاً لمعاوية، ويبرح معاوية يمنّ بها وعَقِبه على الحي والميت، على حدّ تعبيره (عليه السلام).
وهناك سبب آخر، وهو تفكك جيشه (عليه السلام) الذي كان أعدّه لقتال معاوية، فكان في طليعة من خذله ابن عمه عبيد الله بن العباس، حيث إن معاوية اتخذ أسلوب إغراء الناس بأمواله التي يعطي منها وبدون أي حساب، رغبةً منه في خذلان أكبر عدد منهم للإمام (عليه السلام) وجلبهم إليه.
قبور أئمة البقيع (صلوات الله عليهم أجمعين)
وقد اتخذ الإمام الحسن (عليه السلام) أسلوباً في وضعه لشروط الصلح، فوضع شروطاً يبعد على مثل معاوية الوفاء بها، فكان من الشروط أن يُسقط نفسه عن إمرة المؤمنين، إذ أنه (عليه السلام) لما كان من جملة المؤمنين، عاهد معاوية أن لا يكون أميراً عليه.
كما وأراد (عليه السلام) من الصلح إمهال معاوية، ليتمادى في غيّه، وينكشف للناس ـ وخصوصاً أهل الشام ـ زيغه، ومروقه عن الدين، وفساده، وفعلا حصل ما أراده (عليه السلام)، فمع أن الإمام الحسن (عليه السلام) اشترط على معاوية أن لا يتتبّع شيعة أبيه (عليه السلام)، فقد أراق معاوية دماء الأبرياء، وأزهق نفوس الأتقياء والصلحاء، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وعمرو بن الحمق الخزاعي، الذين كانوا يستعظمون الظلم ويستنكرون البدع. وشنائع معاوية كثيرة جداً ليس هذا محل إحصائها، حتى قال له الإمام الحسين (عليه السلام) في بعض كتبه: (فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)، ومخازيه مذكورة في محلها، راجع على سبيل المثال الغدير أول الجزء الحادي عشر.
وفي أواخرها عقد البيعة لـ (يزيد) القردة، الذي عرفه كل من شاهده.
بقي شيء لابدّ من الإشارة إليه وهو ما يذكره البعض من أن الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه عزيزة عليه، فهو يركن إلى السلم والدعة، ولا يحب إراقة الدماء. بخلاف الإمام الحسين (عليه السلام) فنفسه ثورية أبيّة، يأبى الظلم والاستكبار، ويثأر آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.
والأعجب من هذا أن أصحاب هذا الرأي يعدّون أنفسهم شيعة لأهل البيت (عليهم السلام)، وهل التشيّع إلا المتابعة بالأقوال والأفعال؟! وهل الشيعيّ إلا من يسلّم أمره للإمام؟! لقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام (عليه السلام) في ذلك سواء، لا ينبغي الردّ عليهم والاعتراض على أفعالهم.
ويمكننا معرفة الفرق بين روحيّة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) ونفسيّتهما السلميّة والثوريّة من موقف الإمام الحسين (عليه السلام). نحن نعرف أن من بنود الصلح أن تكون الخلافة للحسين (عليه السلام) بعد أخيه الحسن (عليه السلام)، والمفروض أن الحسين نفسه أبيّة، تأبى الظلم، وها نحن نقرأ في التأريخ أن الحسين لم ينهض في السنين العشر التي قضاها مع معاوية. وما اختلاف الموقفين إلا لعلمهما (عليهما السلام) بالمصالح الغيبية، التي قد لا نعرفها. لكن لا ينبغي لنا الاعتراض على أفعالهما (عليهما السلام) عند جهلنا بالمصالح.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا