الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) رجُل الثورة الصامتة * فاضل عباس طالب في المرحلة الثالثة في معهد الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حين نستعرض السيرة الجهادية النيّرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّ القلم يعجز عن التعبير عن تضحياتهم العظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ، ودأبهم على نشر الدين ا
الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام )
رجُل الثورة الصامتة *
فاضل
عباس
طالب
في المرحلة الثالثة في معهد الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله
وسلّم )
حين
نستعرض السيرة الجهادية النيّرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّ
القلم يعجز عن التعبير عن تضحياتهم العظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله
سبحانه وتعالى ، ودأبهم على نشر الدين المحمّدي الأصيل ؛ إذ إنّنا
نقف أمام مدرسة عظيمة تنوّعت أدوار كلّ فرد من أفرادها ومواقفه ،
إلاّ أنّ هدفها واحد ، وهو إقامة حكومة العدل الإلهي وتطبيق السُنّة
المحمّدية ، مثل هذا المشروع الإلهي العظيم ، يتطلّب التضحية
والفداء بالدم والروح والنفس والأهل ـ أحياناً ـ كما هي كربلاء
الحسين ( عليه السلام ) ، وأحياناً أخرى بالكلمة ، والموقف ، والصبر
، والثبات ، كما هي السيرة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام )
.
والأدوار
التي قام بها أهل البيت ( عليهم السلام ) رغم اختلافها الظاهري ـ
للوَهلة الأُولى ـ إلاّ أنّها في الحقيقة وحدة متكاملة ومنهجية
متناسقة ؛ حيث كلّ عنصر فيها قام بإكمال دَور العنصر الآخر ،
وبالتالي هي سلسلة محمدية واحدة تعمل على تحقيق الهدف المنشود ،
أَلا وهو إقامة حكومة العدل الإلهي على يدَي صاحب العصر والزمان
الإمام الحجّة المهدي ( عجّل الله تعالى فرَجه الشريف ) في آخِر
الزمان .
فاختلاف
الأدوار في السيرة الجهادية العطرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ،
لا يعني ـ على سبيل المثال ـ أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجل
ثورة وقتال فقط ، بينما الإمام الحسن ( عليه السلام ) رجل مهادنـة
وسلـم ، بل الواقع غير ذلك ، فالسيرة الحسينية الجهادية غلَب عليها
طابع الصلح مع العدوّ لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، بينما السيرة
الحسينية غلب عليها طابع الثورة والجهاد لأسباب وظروف أخرى مختلفة ،
وخير دليل على ذلك عند استعراضنا الحياة الجهادية للإمام الحسن (
عليه السلام ) ، فهي تارة مليئة بالمواقـف ، والبطـولات ، والتضحيات
، وتارة تستلزم
الصلح
والمسالمة ، ولكن في كلتي الحالتين يبقى الهدف واحد وهو : مصلحة
الإسلام العليا .
(
... وقد يعتقد البعض بأنّ الحسن ( عليه السلام ) صاحب الصلح
والمهادنة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) له الثورة والتمرّد ،
إلاّ أنّه لو عكسنا الشخصين لقام كلٌّ منهما بنفس الدَور ، أي
الظروف هي التي حكمت بأنّ كلّ منهما يتبع نهجاً ما ، أي الظروف هي
تحكم بالحرب أو السِلم ، بينما الدافع والهدف هو واحد ، هو فقط
المصلحة العامّة لا غير )(1) .
وعلى
هذا الأساس نلاحظ بأنّه عند الحديث عن سيرة الإمام الحسن ( عليه
السلام ) ، فإنّه يتبادر مباشرة للذهن صُلحه مع معاوية ، وكأنّ
حياته ( عليه السلام ) كلّها تُختزل في هذا الصلح ـ وذلك بغضّ النظر
عن أهمّيتها ـ وبالتالي هو بعيد كلّ البُعد عن ساحات القتال
والمواجهة ، لكن سيرته سلام الله عليه تحدّثنا بغير ذلك
.
تحدّثنا
بأنّه أعَدّ الجيوش والمقاتلين لقتال معاوية عندما سمحت له الظروف
بذلك ، لكن عامل المفاجأة الذي برز في صفوف جيشه ( عليه السلام ) ـ
كبروز حالات الخيانة والغدر ـ دفعه نحو الصُلح مع معاوية ، أليس هو
القائل ( عليه السلام ) مجيباً أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح : (
والله لو وجدت أنصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري ) ؟(2)
.
وفي
موقع آخر يردّ ( عليه السلام ) على أحد أعدائه ، وهو ( عبد الله بن
الزبير ) ، الذي كان يُعلن مناوئته لآل محمد ( صلّى الله عليه وآله
وسلّم ) ، فكان ممّا أجابه به قوله ( عليه السلام ) : ( وتزعم أنّي
سلّمت الأمر ، وكيف يكون وويحك كذلك ؟ ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد
ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل ذلك ويحك جُبناً ولا
ضعفاً ، ولكنّه باغٍ مثلك ... ) (3) .
ومع
كلّ هذا وبعد وقوع الصلح مع معاوية ، استمرّ الإمام الحسن ( عليه
السلام ) في مسيرته الجهادية ضده ، بل عمل على تمهيد الأرضية
المناسبة للثورة الحسينية الكربلائية ، وشهادته ( عليه السلام ) ،
وقتله مسموماً خيرُ دليل على ذلك ، وإلاّ لماذا قُتل الحسن ( عليه
السلام ) لو كان رجل مسالمة وصُلح مع العدوّ ؟! فأيّ تأثير له على
نظام معاوية ما دام كذلك ؟! .
فالجواب
: واضح وبديهي ، هو أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) هو رجل ثورة
ضد الظلم بكلّ ما للكلمة من معنى ، سواء كان ذلك الجهاد بالكلمة أو
بالسيف ؛ ولهذا أصبح استمرار جهاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ضد
معاوية ونظامه المتغطرس عامل خوف ورعب عليهم ، بل شكّل خطراً يهدّد
كيان النظام الأموي ، ما دفع معاوية لوضع حدٍّ له ، فكانت الشهادة
المباركة .
وبناءً
على ذلك ، هو أنّ الكثير من البحوث والدراسات ، يلاحظ بأنّ
غالبيّتها تتناول الجانب الفكري والأخلاقي لأئمة أهل البيت ( عليهم
السلام ) ، بينما الجانب الجهادي والقتالي يبقى غامضاً
في
كثير
من الأحيان ، ومثال على ذلك سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ،
حيث أغلَب الدراسات والبحوث التي تناولت حياته المباركة ، تحمِل
عنوان ( صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) ـ وذلك بغضّ النظر عن
أهمية تلك الدراسات ـ ممّا يوحي بأنّ الحسن ( عليه السلام ) رجل صلح
ومهادنة فقط .
ولكن
واقع وحقيقة سيرته الجهادية أعظم وأشمل من ذلك ، بل هو كما عند بقية
الأئمة ( عليهم السلام ) ، كسيرة الإمامين السجّاد والصادق ( عليهما
السلام ) ؛ حيث برزت التكتّلات والتشكيلات السرّية تحت إشرافهم
وتوجيهاتهم ، رغم أنّ عصر الإمام السجاد ( عليه السلام ) تميّز بنشر
الفكر الأخلاقي والعبادي لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ،
وتميّز عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنشر فقه وعلوم أهل البيت
( عليهم السلام ) .
ويشير
إلى تلك الحقيقة سماحة السيد القائد الخامنئي ( دام ظلّه الوارف )
بقوله : إنّ غُربة الأئمة ( عليهم السلام ) لم تقتصر على الفترة
الزمنية التي عاشوها في حياتهم ، ولكنّها استمرّت ولعصور متمادية من
بعدهم ؛ والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة ، بل
والأساسية من حياتهم .
من
المؤكّد أنّ هناك كتُباً ومؤلّفات كثيرة قد حظِيَت بمكانةٍ رفيعة
وقديرة وذلك ؛ لِما حملته بين طيّاتها من روايات تصف حال الأئمة (
عليهم السلام ) ، ولِما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف
سيرتهم ، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير ، والذي يمثّل الخطّ
الممتد للأئمة ( عليهم السلام ) طوال 250 سنة من حياتهم ، كان قليل
الذِكر في هذه الروايات التي تضمّنت فقط عناوين أخرى كالجوانب
العلمية أو المعنوية من سيرتهم .
يجب
علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة ( عليهم السلام ) كأسوة وقدوة نقتدي
بهم في حياتنا ، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت على التاريخ ،
وهذا لا يتحقّق إلاّ بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب
السياسي من سيرة هؤلاء العظماء ( عليهم السلام )
...
إنّ
مواجهة الأئمة ( عليهم السلام ) كانت واجهة ذات هدف سياسي ، فما هو
هذا الهدف ؟ إذن الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية ، ولا
نستطيع أن نقول إنّه كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره
، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية ، وقد
يكون المستقبل البعيد أو القريـب .
مثلاً
كان هدف الإمام المجتبى ( عليه السلام ) تأسيس حكومة إسلامية
للمستقبل القريب ، فقوله ( عليه السـلام ) : ( ما ندري لعلّه فتنة
لكم ومتاع إلى حين ) في جوابه للمسيب بن نجيه ولآخرين عندما سألوه
عن سبب سكوته ، هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل (4)
.
ولذا
كان هذا البحث المتواضع ليُسلِّط الضوء على الجانب العظيم من سيرة
الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، أَلا وهو الجانب الجهادي لأعداء
الإسلام طيلة فترة حياته المباركة ، وسوف نرى ذلك ـ مع القارئ
العزيز ـ من خلال عَرْض أبرز المحطّات الجهادية من سيرته ( عليه
السلام ) .
أَوّلاً
: الملامح الشخصية للإمام الحسن ( عليه السلام )
:
وُلد
الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب ثاني أئمة أهل البيت (
عليهم السلام ) ، وأَوّل السبطين ، في المدينة المنورة ، ليلة النصف
من شهر رمضان المبارك من السنة الثالثة للهجرة .
وأُمّه
هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت رسول
الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وُلد
ونشأ ( عليه السلام ) في كنف جدّه النبي ( صلّى الله عليه وآله
وسلّم ) ، وفي رعاية أبيه علي ، وأُمّه فاطمة ، وهو أَوّل ولَد يولد
من سلالة الرسالة؛ ليحفظ الله به وبأخيه الإمام الحسين ( عليه
السلام ) نموّ تلك الشجرة الطيبة ، التي أصلها ثابت ، وفرعها في
السماء .
ورعاه
جدّه العظيم ، بعينه وقلبه ، فهو قطعة من وجوده ، وومضة من روحه ،
وصورة تحكيه ، أَورثه هيبته وسؤدده ، حتى فَرِقَ منه أعداؤه ،
وأعظمه مخلصوه وأحبّاؤه ، وأَعظِم بإنسانٍ جدّه محمد ، وأبوه علي ،
وأُمّه فاطمة ، وأيّ فخر بعد هذا المفتخر ، وأيّ مجدٍ بعده لإنسان
.
فلهذا
كان المقام المقدّس الذي حظيَ به الإمام الحسن ( عليه السلام ) على
لسان جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، والذي يدفعنا
لمزيد مِن التأمّل في سيرته المباركة ، بكلّ ما تحتويه من جوانب
عظيمة وكمال ذاته وحِكمته ، وسدادٍ رساليّ ، والذي نراه ينسجم
تماماً مع وصف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له وموضعه
منه ، فيما ورد عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حقّه ( عليه
السلام ) منها :
عن
زينب بنت أبي رافع عن أُمّها قالت : ( قالت فاطمة ( عليها السلام )
يا رسول الله ، هذان ابناك فانحلْهما ، فقال رسول الله ( صلّى الله
عليه وآله وسلّم) أمّا الحسن فنحلتُه هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين
فنحلتُه سخائي وشجاعتي ) (5) .
ويقول
الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً في حقّه ( عليه
السلام ) : ( لو كان العقل رجلاً لكان الحسن ( عليه السلام) ) (6)
.
وقد
نصّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إمامة الحسن
المجتبى ( عليه السلام ) بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : (
يا علي أنا وأنت وابناك الحسن والحسين ، وتسعة مِن وُلد الحسين
أركان الدين ودعائم الإسلام ، مَن تبِعنا نجا ، ومَن تخلّف عنّا
فإلى النار ) (7) .
وكان
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوجّه الأنظار إلى إمامة ولَده الحسن
( عليه السلام ) ومقامه السامي ، حيث كان ( عليه السلام ) يسأله عن
المسائل المختلفة أمام مرأى ومسمع الملأ من أصحابه ، وقد تركّزت
أسئلته على : الزهد والسداد ، والكرم والإخاء والمنَعة وغيرها ،
وكان الإمام ( عليه السلام ) يجيب عليها بأجوبة مختصرة شافية (8)
.
وكان
( عليه السلام ) يكلّف الإمام الحسن ( عليه السلام ) بالمهام الصعبة
، ويبعثه لحلّ الأزَمات ، ويُشركه في المواقف الحرجة ، فقد بعثه إلى
أهل الكوفة لعزل الأشعري ، وأمره بإجابة عبد الله بن الزبير في
الجَمَل ، وأمره بنقْض حُكم الحكَمَين ؛ لمخالفتهما القرآن
.
وقد
عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالإمامة لابنه الحسن ( عليه
السلام ) ، في اليومين الأخيرين من حياته ( عليه السلام ) ـ وبعد أن
ضربه ابن ملجم ـ حيث أدناه وأوصى إليه قائلاً : ( يا بنيّ إنّه
أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن أوصي إليك ،
وأدفع إليك كتُبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتُبه وسلاحه ،
وأمَرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ... )
(9) .
وأمّا
مبايعة الحسن ( عليه السلام ) بالخلافة فقد كانت بعد استشهاد والده
( عليه السلام ) ودفْنه ، حيث وقف الإمام الحسن ( عليه السلام )
خطيباً بين الناس وقال : ( قد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبِقه
الأوّلون ، ولا يدركه الآخِرون بعمل ... ) ، ثمّ خنقته العبرة فبكى
وبكى الناس معه ، ثمّ قال : ( أيّها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ،
ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه
وآله وسلّم ) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ... ) ، ثمّ قام عبد
الله بن العبّاس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا ،
وقالوا : ( ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة ! فبايعوه ) (10)
.
وكان
عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً ، كانوا قد بايعوا أباه على
الموت (11) .
وبقي
نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق ، وما وراءه من خراسان والحجاز واليمن
(12) .
وقد
جاءت اعترافات معاصريه ( عليه السلام ) بمؤهّلاته وفضائله لتؤكّد
استحقاقه للخلافة ، وخصوصاً أنّ بعض هذه الاعترافات كانت من قِبل
شخصيات مخالفة لأهل البيت ( عليهم السلام ) بشكلٍ عام ، والفضل ما
يشهد به الأعداء .
قال
واصل بن عطاء : كان الحسن بن علي ( عليه السلام ) عليه سيماء
الأنبياء وبهاء الملوك (13) .
وقال
عنه ( عليه السلام ) مروانُ بن الحكم : أحلَم مِن هذا ـ وأشار إلى
الجبل ـ (14) .
وأما
مدح معاوية للحسن ( عليه السلام ) فقد كان يقول :
أمّا
الحسن فابن الذي كان قبله ، إذا سار سار الموت حيث يسير (15)
.
فتميّز
الإمام الحسن ( عليه السلام ) بخصائص قيادية فريدة ، جعلت معاوية
يوصي أصحابه باجتناب محاورته (16) ؛ لأنّه ( عليه السلام ) كان أحسن
الناس منطقاً في زمانه ، وكان معاوية يخشاه ويتخوّف من عودة الخلافة
إليه ؛ لتمتّعه بخصائص لا يتّصف بها غيره (17) ؛ لذا كبّر عند موته
( عليه السلام ) وقال : والله ما كبّرت شماتة لموته ، ولكن استراح
قلبي ، وصَفَت لي الخلافة .
وكان
( عليه السلام ) دائم الارتباط بالله تعالى وأكثر الناس خشية منه ،
إضافة لتميّزه سلام الله عليه بالزهد والخير والكرم والحِلم ، وفوق
كلّ ذلك كان شجاعاً لا يخشى إلاّ الله تعالى ، فقد قال لمعاوية (
إنّ الخلافة لمَن سار بسيرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم
) ... وليست الخلافة لمَن عمَل بالجود وعطّـل الحـدود ) (18)
.
ومن
كفاءاته ( عليه السلام ) أنّه وجد أنّ مصلحة الإسلام تكمن في الصلح
، فصالح
معاوية
، وحقَن دماء أنصاره وأتباعه وسائر المسلمين ، ولم يدخل في معركة
خاسرة لا تُحسم لصالحه ولصالح الوجود الإسلامي .
وعندما
يُسأل الإمام الحسن ( عليه السلام ) عن رأيه في السياسة ، يقول (
عليه السلام ) : ( هي أن تراعي حقوق الله ، وحقوق الأحياء ، وحقوق
الأموات ، فأمّا حقوق الله ، فأداء ما طلَب ، والاجتناب عمّا نهى .
وأمّا حقوق الأحياء ، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخّر
عن خدمة أُمّتك ، وأن تخلص لوليّ الأمر ما أخلص لأُمّته ، وأن ترفع
عقيرتك في وجهه إذا حادَ عن الطريق السويّ . وأمّا حقوق الأموات ،
فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم , فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم
) (19) .
ثانياً
: مواقف وتضحيات الإمام الحسن ( عليه السلام ) في أهمّ مراحل سيرته
المباركة :
*
في عهد جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
:
عاش
الإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه
وآله وسلّم ) سبع سنوات من عمره الشريف ، وكانت تلك السنوات على
قلّتها كافية لأن تجعل منه الصورة المصغرّة عن شخصية الرسول الأكرم
( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، حتى ليصبح جديراً بذلك الوسام
العظيم ، الذي حباه به جدّه ، حينما قال له ـ حسبما روي ـ ( أشبهتَ
خَلقي وخُلُقي ) .
فشِبهه
( عليه السلام ) لجدّه في الخَلق ، هو أمر واضح ، من ناحية التشابه
بالملامح والمنطق ... أمّا شِبهه في الخُلُق يُعدّ وسام الجدارة
لذلك المنصب الإلهي ، الذي هو وراثة وخلافة النبي الأعظم ( صلّى
الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، ثمّ وصيّه علي بن أبي طالب ( عليه
السلام ) ، نعم من هنا نعرف السرّ والهدف الذي يرمي إليه النبي
الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في تأكيداته المتكررة ،
تصريحاً ، وتلويحاً على ذلك الدَور الذي ينتظر الإمام الحسن وأخاه (
عليهما السلام ) ، وإلى المهمّات الجليّة التي يتمّ إعدادهما لها ،
حتى يصرّح ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنّهما ( عليهما السلام )
( إمامان قاما أو قعَدا ) (20) .
وروي
أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخبر بما يجري على الإمام الحسن
( عليه السلام ) من بعده ، فيقول : ( إنّ ابني هذا سيد ، وسيُصلِح
الله على يديه بين فئتين عظيمتين ) (21) (**) .
وممّا
يدخل في الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد جدّه
النبي ( صلّى الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، قضية المباهلة مع علماء
نصارى نجران الذين ناظروا رسول الله في عيسى ، فأقام عليهم الحجّة ،
فلم يقبلوا... ثمّ اتّفقوا على المباهلة أمام الله ؛ ليجعلوا لعنة
الله الخالدة على الكاذبين ، ففي اليوم
المحدّد
خرج إليهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه علي وفاطمة
والحسنان ( عليهم السلام ) ، وأمام ذلك طلب نصارى نجران من رسول
الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يعفيهم من المباهلة ... (22)
.
ب
ـ في عهد الخلفاء الثلاثة :
في
عهد أبي بكر
كان
للإمام الحسن ( عليه السلام ) موقف هامّ مع أبي بكر ، حيث جاء إليه
يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له ( عليه السلام ) : ( انزل عن
منبر أبي ) ، فأجابه أبو بكر : صدقت والله ، إنّه منبر أبيك ، لا
منبـر أبـي ، فبعث علي ( عليه السلام ) إلى أبي بكر : ( إنّه غلام
حدث ، وأنا لم آمره ، فقال أبو بكر إنّا لم نتّهمك ) (23)
.
مع
التأمّل في ردِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا لم آمره ، أي
أنّه لا يتضمّن أي إنكاراً على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ولا
إدانة لموقفه ، بل الإمام الحسن لا يحتاج إلى أمر ، فهو يدرك كلّ
الأحداث التي عايَشها بفِكره الثاقب ، وإنّ عليه مسؤولية إبقاء حقّ
أهل البيت ( عليهم السلام ) على حيويّتها في ضمير ووجدان الأُمّة
.
في
عهد عُمَر بن الخطّاب :
بعد
قضية الشورى على النحو المعروف ، ودعوة عمَر بن الخطّاب للمرشَّحين
ومخاطبته لهم قائلاً : ( وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم
من أمركم شيء ، وأحضِروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ،
فإنّ لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من
أمركم شيء ويحضر ابني عبد الله مستشاراً ، وليس له من الأمر شيء ...
) فحضر هؤلاء .
فبالنسبة
لقبول الإمام الحسن ( عليه السلام ) للحضور في الشورى ، فهو كحضور
علي ( عليه السلام ) فيها ... فكما أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام
) قد اشترك فيها من أجْل أن يضع علامة استفهام على رأي عُمَر ، الذي
كان قد أظهره في أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد أبداً
، بالإضافة إلى أنّه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم .. كذلك فإنّ
حضور الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه المناسبة ، إنّما يعني
انتزاع اعتراف من عُمَر بأنّه ممَّن يحقّ لهم المشاركة السياسية ،
حتى في أعظم وأخطر قضية تواجهها الأُمّة (24) .
في
عهد عثمان بن عفان
كان
له ( عليه السلام ) مشاركات عدّة ، نذكر منها:
1
ـ مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الإسلام ، وفي كثير من
الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان ، منطلقاً من مقولة أبيه أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) في رعاية مصلحة الإسلام العليا ، التي
كرّرها في أكثر من موضع : ( والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين ،
ولم يكن جَور إلاّ عليّ خاصّة ) .
وقد
نقلت كتُب التاريخ ومرويّاته هذه الحقيقة ، وممّا جاء في العِبر
لابن خلدون : ( وتطلّع المسلمون إلى البصرة والفتح متفائلين بوجود
صغير الرسول وحبيبه يجاهد معهم ، وكانت الغزوة ناجحة وموفّقة كما
يصفها المؤرّخون ، وعاد الحسن منها إلى مدينة جدّه وقلْبه مفعَم
بالسرور ، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم ؛ لانتشار الإسلام
في تلك البقعة من الأرض ) (25) .
2
ـ كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) ، معبِّراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام
بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء ، خصوصاً
بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وعمّاله ، حيث إنّه بعد فشل كلّ
المحاولات التي بذَلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان ، زحفوا إليه من
جميع الأقطار ، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه إمّا بإصلاح ما
أفسده ، أو بالتخلّي عن السلطة .
وكان
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَده الحسن ( عليه السلام )
وسيطَينِ بين الخليفة ، ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح . إلاّ أنّ
تدخّل مروان ونقْض كلّ ما أُبرم بين الطرفين من اتّفاقات ، فتعقّدت
الأمور أخيراً ، وهاجمه الثوّار بتحريضٍ من عائشة وطلحة والزبير ،
وقالت لهم عائشة : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) .
وأثناء
ذلك أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ كما يُذكر ـ ولَدَيه
حَسَناً وحسيناً ؛ ليدفعا عن عثمان الثوار ، لدرجة أنّ الحسن ( عليه
السلام ) قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه ، وذلك كما روى ابن
كثير .
ولكن
ممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَدَيه (
عليهما السلام ) ، كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على
تصرّفات عثمان وعُمّاله ، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين ( عليه
السلام ) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه ، بل وقف منه
موقفاً سليماً وشريفاً (26) .
في
عهد أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
في
هذا العهد كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) ظِلاًّ لأبيه ، في كلّ
ما تتطلّبه مسألة الولاء لإمامة خليفة رسول الله ( صلّى الله عليه
وآله وسلّم ) ، وجندياً واعياً مطيعاً لكلّ أوامره ، ويشهد على ذلك
مهمّاته في تلك الفترة والتي منها :
1
ـ دَوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجَمَل ، وهي الحرب التي
استعرت على إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة ، ورفعهما السلاح بوجه
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقيادة عائشة ، فاحتاج الإمام علي (
عليه السلام ) إلى مساندة جماهير الكوفة للذَود عن الحقّ الذي
يمثّله ، فاختار لهذه المهمّة
نجلَه
الحسن ( عليه السلام ) ؛ وذلك لشحْذ هِمم أهل الكوفة ، وحمْلهم على
دعم الموقف الإسلامي الأصيل .
فانطلق
الإمام الحسن ( عليه السلام ) برِفقة عمار بن ياسر إلى الكوفة ،
حاملاً كتاب علي ( عليه السلام ) إلى أبي موسى الأشعري عامله على
الكوفة ، يبلّغه فيه باستغنائه عن خدماته ؛ بسبب تحريضه الناس على
القعود عن نُصرة علي ( عليه السلام ) ، وقد نجح الإمام الحسن ( عليه
السلام ) في استنفار الجماهير لنصرة الحقّ والذود عن الرسالة ، فخرج
معه ( عليه السلام ) إلى البصرة اثنا عشر ألفاً كما جاء في بعض
الروايات .
وشارك
الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه الحرب إلى جنب أمير المؤمنين (
عليه السلام ) ، وحمَل رايته وانتصر بها على الناكثين
.
2
ـ دَوره في حرب القاسطين المعروف بحرب صفّين (27) : وهي حرب البُغاة
التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين (
عليه السلام ) ، وهكذا أيضاً كان دَور الحسن ( عليه السلام ) فيها
كدَوره في حرب الجَمَل ، بل زاد عليه ، حيث قام بتعبئة المسلمين
للجهاد وبذَل جهده ؛ لإحباط مؤامرة التحكيم والاحتجاج على المناوئين
به ، بل وقد عبّر الإمام الحسن (عليه السلام) عن ولائه المطلق لأبيه
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في محنته هذه ، مستخفّاً بإغراء
البُغاة له بالخلافة دون أبيه ، وذلك حين عرَض عليه عبد الله بن
عُمَر أن يخلع أباه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن يتولّى هو
بنفسه ( عليه السلام ) الأمر ، فأجابه الإمام الحسن ( عليه السلام )
( كلاّ ، والله لا يكون ذلك أبداً ) .
وبعد
النزاع الذي ساد جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أثر قضية
التحكيم في معركة صفين ، وانقسام الجيش بين مؤيّد ورافضٍ ، استطاع
الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبتكليفٍ من أبيه (عليه السلام) ، أن
يحكي للقوم حقيقة الأمر في كون التحكيم فاسداً .
ثالثاً : الإمام الحسن ( عليه السلام ) في
الحُكم
أجمع
المؤرّخون على أنّ خلافة الحسن بن علي ( عليه السلام ) كانت في
صبيحة اليوم الذي دُفن فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبعد
الفراغ من إنزال حكم الله بقتْل ابن ملجم ، فقد ضربه ضربةً واحدة
قضت عليه كما أوصاه أمير المؤمنين ( عليه السلام )
.
ومِن
ثَمّ تجمّع عنده المسلمون ليبايعوه على الخلافة ـ كما أشرنا مسبقاً
ـ وعندما بويع الإمام ( عليـه السـلام ) ، كان في الجانب الآخر
معاوية بن أبي سفيان يترصّد الأخبار ، وعاصمته تحتفل بقتل أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكن خبر البيعة للإمام الحسن ( عليه
السلام ) هزّه وأرعد فرائصه ، فعمل معاوية على بثّ الجواسيس في داخل
المجتمع الإسلامي ؛ لنشر الإرهاب وإشاعة الدعايات ضد حكم أهل البيت
( عليهم السلام ) لصالح الفتنة في الشام ، لكن سياسة الإمام الحسن (
عليه السلام ) كشفت مخطّطات معاوية .
وكثُرت
الرسائل المتبادلة بين الإمام ( عليه السلام ) و معاوية ، وكان
أهمّها كتاب الإمام ( عليه السلام ) له بوجوب التخلّي عن انشقاقه
والانضواء تحت لوائه الشرعي ، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك ، وكان جوابه
الأخير لرسولَي الحسن ( عليه السلام ) إليه ، أنّه قال لهما : (
ارجعا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف ! ) .
وهكذا
ابتدأ معاوية العدوان ، ممّا دفع الإمام الحسن ( عليه السلام )
لإعلان التعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان ، ولكنّه ( عليه
السلام ) أُصيب بخيبة أمل كبيرة حينما انكشف له واقع الجماهير التي
يقودها ، والتي أثّرت فيها الدعايات الأُمَوية ، ولكن هذا النداء
وصل إلى أسماع بعض المخلصين ، الذين عبّروا عن إخلاصهم بتأنيب الناس
، وتحريضهم على النهوض بمسؤولياتهم الرسالية ، وعاهدوا الإمام الحسن
( عليه السلام ) على المضي قُدُماً في نصرة الحقّ ومواجهة الطغيان
.
فاستطاع
الإمام ( عليه السلام ) أن يسير بعد ذلك بجيش كبير ، بلَغ حسب بعض
الروايات أربعين ألفاً أو أكثـر ، ولكنّه ضعيف في معنوياته يستبدّ
به التشتّت حتى بلغ النخيلة (28) .
فنظّم
الجيش ورسم الخطط لقادة الفِرَق ، وتوجّهَ بعد ذلك إلى دير عبد
الرحمن (29) . وهناك قرّر إرسال طليعة عسكرية كمقدّمة لجيشه إلى (
مَسكن ) (30) ، واختار لقيادتها ابن عمّه عبيد الله بن العباس وقيس
بن سعد بن عبادة كمعاونٍ له ، وأقام هو في المدائن (31) ، واتّخذها
مقرّاً لقيادته العليا ، وأمّا الطليعة التي أرسلها إلى ( مَسكن )
بقيادة ابن عمه عبيد الله ، فهي الميدان الذي سوف يواجه فيها معاوية
وأهل الشام ، وليس بين المعسكرين إلاّ خمسة عشر فرسخاً ، وكان خيرة
جنود الحسن ( عليه السلام ) في الركْب الذي سبَقه إلى ( مَسكن ) ،
وأنّ الفصائل التي عسكر بها الحسن ( عليه السلام ) في المدائن كانت
من أضعف الجيوش معنوية ، ومِن أقرَبها نزعة إلى النفور والقلق
والانقسام .
وبما
أنّ الإمام وجيشه كانوا في معزل عن بعضهما ، فقد تمكّن معاوية من
بثّ الإشاعات المضلّلة في صفوف جيش الإمام ، فقد أُشيع بين جيش
الإمام أنّ الإمام قد صالح معاوية ، فاضطرب جيش الإمام لهذه الإشاعة
، ما دفع عبيد الله بن العباس ابن عمّ الإمام إلى الوقوف إلى جانب
معاوية وترْك جيش الإمام ، وفي هذه الأثناء أيضاً دارت على الألسُن
إشاعةٌ تفيد بقبول قيس بن سعد للصُلح ، وهو قوّة المقاومة الوحيدة
المتبقّية في مقابل معاوية .
وكانت
هذه بمثابة الضربة القاضية التي وُجّهت إلى الوضع النفسي المنهار في
جيش الإمام ، ولم يمضِ بعض الوقت حتى طغَت على السطح كلّ العِلَل ،
التي تفشّت في معسكر الإمام ( عليه السلام ) على شكلِ تمزّقٍ وفِتن
واضطراب وتآمر على القيادة ذاتها .
وهنا
اطمأنّ معاوية بأنّ المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق
ستكون لصالحه ، وسيكون الحسن بن علي ( عليه السلام ) والمخلصون له
من جُنده ، خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته ، وأنّ
السلطة صائرة إليه لا محالة .
ولكن
استيلاءه عليها بقوّة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية ، ما دفعه
إلى التقدّم بعَرض فكرة الصلح على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ،
وترَك للإمام أن يشترط ما يريد ، وكان معاوية عارفاً بأنّ مثل هذه
الفكرة ستثير الفِتَن بين صفوف أنصار الإمام ، بل سيفضلونها على
الذهاب إلى الحرب والقتال ، وبالفعل أثمرت فكرة الصلح نتائجها ، حيث
يذكر الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في أعلام الورى : ( أنّ أهل
العراق كتبوا إلى معاوية السمع والطاعة ، واستحثّوه على السَير
نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسَن إليه إذا شاء ، عند دُنوّه من
معسكرهم ، أو الفتْك به ) (32) .
لدرجة
أنّ الحسن ( عليه السلام ) لمّا بلَغه ذلك ، كان لا يخرج بدون لامَة
حرْبِه ( أي الدرع ) ، ولا ينزعها حتى في الصلاة ، وقد رماه أحدهم
بسهم وهو يصلّي فلم يثبت فيه .
فالإمام
الحسن ( عليه السلام ) لم يفكّر قطّ بالصلح مع معاوية أو مهادنته ،
غير أنّه بعد أن تكاثرت لديه الأخبار عن تفكّك جيشه ، وانحياز أكثر
القادة إلى جانب معاوية ، قرّر ( عليه السلام ) أن يدفع بأعظم
الضرَرَين :
أوّلهما
: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه ، وفناء أهل بيته وبقية
الصفوة الصالحة .
والثانية
: القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة
الصالحة من شيعتهم ؛ ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة ، وليصل
إليها معالم الدين .
وهكذا
اضطرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) للصلح ، في محاولة ناجحة لكشف
حقيقة معاوية ، الذي انفرد بالحكم واستأثر بإدارة شؤون الأُمّة التي
ساندته فرأت طبيعته وحكمه ، ومدى الفرْق الشاسع بينه وبين أيام
الأمير علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وبذلك يتحمّل الذين
أطاعوا معاوية مسؤولية هذه المأساة التاريخية .
فإذاً
، لم يكن الناس قبل توقيع الصلح ينظرون إلى معاوية على أنّه حاكم
جائر ، بل كانوا ينظرون إليه على أنّه رجل طالب للحياة والسلطة لا
أكثر ، والذي كشف معاوية على حقيقته للناس هو ( صُلح الإمام الحسن (
عليه السلام ) ) وشروط الإمام الحسن ( عليه السلام )
.
وقد
أثبتت الأيام غدر وخيانة معاوية ؛ وذلك عندما داس على بنود الصلح
بقدَمَيه ولم يَعُد يعني له ذلك شيئاً ، ممّا أدّى ذلك لانتشار
التململ بين أصحاب الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بحيث إنّهم
تجرّأوا على إمام زمانهم ووصفوه بمُذلِّ المؤمنين ، فصبر سلام الله
عليه صبراً جميلاً ، وطفق يُبيّن لهم الحقائق التي خفِيَت عنهم في
أجواء الانفعال والعاطفة والغضب ، الذي اعتراهم من تحدّي معاوية لهم
، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للإمام الحسن ( عليه السلام ) وأصحابه
.
فعن
الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : ( حدّثني رجُل منّا ، قال : أتيت
الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت : يا بن رسول الله ( صلّى الله
عليه وآله وسلّم ) أَذلَلْت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ، ما
بقي معك رجُل ، قال ( عليه السلام ) : ومِمّ ذلك ؟ قال : قلت :
تسليمك الأمر لهذا الطاغية ـ إشارة لمعاوية ـ قال ( عليه السلام ) :
( والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت
أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ) (33)
.
رابعاً : الشهادة المباركة
انتقل
الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد توقيع الصلح مع معاوية ، إلى
مدينة جدّه المصطفى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وودّعته الكوفة
وأهلها وهُم يرون الذلّة قد خيّمت عليهم ، وتحكّمت الفتنة بهم ،
وبوصول الإمام ( عليه السلام ) إلى المدينة بدأت نشاطاته ، وأعماله
الفكرية ، والاجتماعية تأخذ جانباً مهماً في حياة المسلمين ، فأنشأ
مدرسة وقيادة فكرية كبرى ؛ لتكون محطّة إشعاع للهدى والفكر الإسلامي
.
ولكن
أجهزة الحكم الأُمَوي لم يكن خافياً عليها ذلك ؛ ولأجل هذا عقد
أقطاب السياسة المنحرفة اجتماعاً مع معاوية لتداول أمر وضع الحسن (
عليه السلام ) ، فكان حديثهم : ( إنّ الحسن قد أحيا أباه وذِكره :
قال فصُدِّق وأمَر فأُطيع ، وخفقَت له النعال ، وإنّ ذلك لدافعه إلى
ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسـيء إلينـا ) (34)
.
وهذا
الحديث على وجازته يُعتبر أخطر تقرير قدّمه أقطاب البيت الأُمَوي
وقادته إلى زعيمهم معاوية ، حول نشاط الإمام الحسن ( عليه السلام )
، بما دفع معاوية إلى ارتكاب إحدى أكبر الجرائم البشعة بحقّ آل محمد
( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وذلك من خلال خطّته الخبيثة التي
دبّرها بالاتّفاق مع زوجة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ـ جعدة بنت
الأشعث (35) ـ التي دسّت له السم (36) ، فقضى شهيداً وكان ذلك سنة (
49 للهجرة ) .
وتشير
الروايات بأنّ هذه ليست المرّة الأُولى التي يتعرّض فيها الإمام
الحسن ( عليه السلام ) لمحاولة اغتياله بالسمّ ، حيث ورد عن
اليعقوبي : ( ولمّا حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين : ( يا أخي إنّ
هذه آخِر ثلاث مرّات سُقيت فيها السمّ ، ولم أُسقَه مثل مرّتي هذه ،
وأنا ميّت من يومي ) .
وقال
ابن سعد في طبَقاته : ( سمَّه معاوية مِراراً ) .
ومِن
ثَمّ باشر الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمر تجهيزه ، وأخرجه
ليُجدّد به عهداً بجدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ،
ولم يشكّ بنو أمية ، أنّهم سيدفنونه هناك ، فاجتمعوا لذلك ، ولبسوا
السلاح ، وأقبلوا ومعهم عائشة على بَغْل وهي تقول : ( ما لي ولكم ،
تريدون أن تُدخلوا بيتي ـ أي عند قبر الرسول ( صلّى الله عليه وآله
وسلّم ) ـ مَن لا أحبّ ) ، وكادت الفتنة أن تقع ، بين بني هاشم ،
وبني أمية ، إلاّ أنّ الحسين ( عليه السلام ) تدارك ذلك ومضى
بأخيه الحسن إلى البقيع ، ودفنوه هناك عند جدّته فاطمة بنت أسد
.
وأخيراً : الخاتمة :
مَن
ينظر في شخصية الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وسيرته العملية سواء
في عصر أبيه أو في حكمه ، يرى فيه قوّة الشخصية ، والعزيمة الراسخة
وسرعة التحرّك لحسم المواقف ، ولكنّ الظروف الموضوعية التي ألمّت
بالإمام ( عليه السلام ) أحرجَت موقفه بشكلٍ يندر نظيره في التاريخ
.
فهو
( عليه السلام ) لم يسالِم معاوية رضاً به ، ولا ترَك القتال جُبناً
وخوفاً من الموت ، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة ؛ ولكنّه
صالح حين لم يبقَ في ظرفه احتمال لغير الصُلح ، وبهذا ينفرد الحسن
عـن الحسيـن ، أي الحسن لم يبخل بنفسه ، ولم يكن الحسين أسخى منه
بها في سبيل الله ، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهادٍ صامت ، فلمّا
حان الوقت كانت الشهادة كربلاء ، شهادة حسنية ، قبل أن تكون حسينية
، وكان يوم ( ساباط ) أعرف بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أُولي
الألباب ممّن تعمّق ؛ لأنّ الحسن ( عليه السلام ) ، أعطى من البطولة
دَور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكينٍ قاعد
.
وكانت
شهادة ( الطفّ ) حسنية أوّلاً ، وحسينية ثانياً ؛ لأنّ الحسن ( عليه
السلام ) أنضَجَ نتائجها ، ومهّد أسبابها ، كان نصر الحسن الدامي
موقفاً على جَلْوِ الحقيقة التي جَلاها ـ لأخيه الحسين ـ بصبره
وحكمته ، وبجَلْوها انتصر الحسين نصرة العزيز وفتَح الله له فتْحه
المُبين .
وكانا
( عليهما السلام ) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة : أن يكون
للحسَن منها دَور الصابر الكريم ، وللحسين دَور الثائر الكريم ؛
لتتألّف من الدَورين خطّة كاملة ذات غرَض واحد (37)
.
ونحن
نرى بعد صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) الذي وقع في سنة الأربعين
للهجرة ، أنّ أهل البيت لم يلتزموا بالبقاء داخل البيت ، والاقتصار
على بيان الأحكام الإلهية فقط ، بل نجد منذ أَوّل أيام الصلح أنّ
برنامج كلّ الأئمة ( عليهم السلام ) ، كان يقوم على تهيئة المقدّمات
لإقامة الحكومة الإسلامية التي يرَونها هُم ... وهذا ما يدلّ بوضوح
على أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) كان ينظر للمستقبل ، وهذا
الآتي الذي ينظره ليس إلاّ الزوال الحتمي للحكومة الجائرة الباطلة ،
وحلول حكومة العدْل مكانها (38) .
ويشهد
على ذلك ، عندما أعلن معاوية أنّ كلّ شروط الصُلح مع الإمام الحسن (
عليه السلام ) صار تحت قدَمَيه ، فجاء بعض وجوه الشيعة إلى الإمام
الحسن ( عليه السلام ) وقالوا : يا بن رسول الله ،
لقد
أصبح اتّفاق الصلح هذا كأنّه لم يكن بعد أن نقَضه معاوية ، فما
تقولون الآن في القيام ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( كلا ، القيام ليس
الآن ، ولكن بعد معاوية ) .
فالمحصّلة
: أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) لم يمتنع عن الشهادة ، بل
الشهادة هي التي امتنعت عنه ... وانتصر الحسن ( عليه السلام )
بثورته الصامتة ؛ حيث كانت معاهدة الصلح عملية كشف للمطامع
الأُمَوية ولأحقادها الضارية ، وتعرية صريحة لواقِعها البغيض
.
ــــــــــــــــــــ
*
اقتباس وتصحيح شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر
الإسلامي ، والمقالة مقتبسة من : مجلة الكلم الطيب ، العدد 21 ،
السنة الخامسة 2005 م .
1
ـ جولة في سيرة الأئمة الأطهار ، الشهيد مطهري ، ص39
.
2
ـ الاحتجاج ، للطبرسي ، ص151 .
3
ـ المحاسن والمساوئ ، للبيهقي ، ج1 ، ص60 و 65 .
4
ـ الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت ، الإمام الخامنئي ، ص143 ـ 146
.
5
ـ البحار ، 43 ـ 263 ، ج11 .
6
ـ فرائد السمطين ، ج2 ، ص 68 .
7
ـ أمالي المفيد ، ص 217 .
8
ـ تُحف العقول ، ص 158 .
9
ـ أعلام الورى بأعلام الهدى ، ص 207 .
10
ـ الكامل في التاريخ ، ج3 ، ص 170 .
11
ـ شرح نهج البلاغة ، ج16 ، ص30 ـ 31 .
12
ـ أسد الغابة ، ج1 ، ص 491 .
13
ـ تاريخ ابن كثير ، ج8 ، ص 37 .
14
ـ تحف العقول ، ص166 .
15
ـ ابن أبي الحديد ، ج4 ، ص73 .
16
ـ بحار الأنوار ، ج43 ، ص 338 .
17
ـ وفيات الأعيان ، ج2 ، ص 99 .
18
ـ ربيع الأبرار ، ج2 ، ص 837 .
19
ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، السيد جعفر مرتضى
العاملي ، ص 7 .
20
ـ الإرشاد للمفيد ، ص 22 .
21
ـ أسد الغابة ، ج2 ، ص 13 .
(**)
هنا أشارة لصلح الحسن مع معاوية مستقبلاً .
22
ـ المباهلة من البهلية ، أي اللعنة .
23
ـ تاريخ الخلفاء ، السيوطي ، ص 80 .
24
ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) سيد جعفر العاملي ،
ص 125 ـ 126 .
25
ـ يراجع تاريخ الأمم والملوك ، ج5 ، ص 57 . والكامل لابن الأثير ج3
، ص 109 . والفتوحات الإسلامية ، ج1 ، ص 175 .
26
ـ يراجع سيرة الأئمة الاثني عشر ، للحسني ، ج1 ، ص 485 ـ 486
.
27
ـ صفّين: اسم موضع على شاطئ الفرات ، حيث كان ميدان لحروب طاحنة بين
الكوفة والشام .41
28
ـ النخيلة ، موضع قريب من الكوفة ، باتجاه الشام .
29
ـ دير عبد الرحمن : هو مفرق طرق بين معسكري الإمام ( عليه السلام )
في المدائن ومسكن .
30
ـ مَسْكن : هي تقع على نهر وجبل ، ويقصد بـ ( مسكن ) القرية الكثيرة
البساتين والشجر .
31
ـ المدائن : وهي عاصمة الساسانية ، وفيها مرقد الصحابي الجليل سلمان
الفارسي .
32
ـ المفيد ، الإرشاد ، ص 190 .
33
ـ الطبرسي ، الاحتجاج ، ج2 ، ص 291 .
34
ـ حياة الرسول وأهل بيته ، حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ص
47 .
35
ـ جَعدة بنت الأشعث : هي إحدى زوجات الإمام الحسن ( عليه السلام ) ،
أقدمت على جريمتها النكراء ... بحكم بُنوَّتها للأشعث بن قيس ـ
المنافق المعروف ـ الذي أسلم مرّتين ، وفي مقابل ذلك وعَدَها معاوية
بتزويجها ابنه يزيد ، وإعطائها مِئة ألف درهم ، ولكنّها لم تلقَ من
ذلك شيء .
36
ـ السم : وهو عبارة
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا