الامام الحسن عليه السلام
كان
مولد سبط الرسول الاول في منتصف شهر الخير رمضان المبارك من السنة
الثالثة للهجرة ، فأقر الله عيون والديه ، فشب هذا الوليد ودرج في
حجور طهرت وطابت ، فكان زهرة هذا المنزل وبدر سمائه . وكان شبيهاً
بجده رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومما يروي عنه ان الرسول
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كان يُدلع لسانه للحسن( يخرجه ) فإذا
رأى الصبي حمرة اللسان يهشى اليه ( أي يسر وتنبسط اساريره ) ، وقد بذل
الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الشيء الكثير من العناية
والرعاية لاولاده .
ومن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحسن : عن ابي زهير بن الارقم رجل من الازد قال : سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول للحسن بن علي : من احبني فليحبه فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ولو لا عزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثتكم . اخرجه احمد (1) .
وفي مناقب ابن شهر اشوب : كانت فاطمة ترقص ابنها حسناً تقول : اشبه اباك يا حسن واعبد الهاً ذا منن واخلع عن الحق الرسن ولا توال ذا الأحن (2)
يروي العلامة المجلسي فيقول : دعي النبي الى صلاة والحسن متعلق به ، فوضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابل جنبه وصلى ، فلما سجد أطال السجود ، يقول الراوي : فرفعت رأسي من بين القوم فإذا بالحسن على كنف الرسول فلما سلم قال له القوم : يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، كانما يوحى اليك ، فقال لم يوح اليَّ ، ولكن ابني كان على كتفي ، فكرهت ان اعجله حتى نزل (3) .
وروي عن ابراهيم بن علي الرافعي عن ابيه عن جدته زينب بنت ابي رافع وشبيب بن ابي الرافع عمن حدثه قالت : اتت فاطمة عليها السلام بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفى فيها ، فقالت : يا رسول الله هذان ابناك فوّرثهما شيئاً ، فقال : اما الحسن فان له هيبتي وسؤددي ، واما الحسين فان له وجودي وشجاعتي . وكان الحسن بن علي عليهما السلام وصي ابيه امير المؤمنين عليه السلام على اهله وولده واصحابه ، ووصاه بالنظر في وقوفه وصدقاته ، وكتب اليه عهداً مشهوراً ووصيته ظاهرة في معالم الدين وعيون الحكمة والاداب ، وقد نقل هذه الوصية جمهور العلماء ، واستبصر بها في دينه ودنياه كثير من الفقهاء ، ولما قبض امير المؤمنين عليه السلام خطب الناس الحسن وذكر حقه فبايعه اصحاب ابيه على حرب من حارب وسلم من سالم (4) .
فالحسن عليه السلام هو فرع الدوحة الهاشمية وربيب النبوة والامامة ، سليل الحق والعدل والفضيلة ، هو واخوه الحسين ( سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة ) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيهما : ( أي هذان امامان قاما او قعدا ) .
فأبو محمد الحسن المجتبى هذا هو الامام الصابر كريم اهل البيت ، وروي عن الترمذي مرفوعاً الى ابن عباس رضي الله عنه انه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حامل الحسن ابن علي عليهما السلام ، فقال رجل : نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ونعم الراكب هو . وروي عن الحافظ ابي نعيم فيما اورده في حليته عن ابي بكر قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا فيجيئ الحسن عليه السلام وهو ساجد وهو اذ ذاك صغير فيجلس على ظهره ، ومرة على رقبته فيرفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفعاً رفيقاً ، فلما فرغ من الصلاة ، قالوا : يا رسول الله انك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ان هذا ريحانتي وان ابني هذا سيد وعسى ان يصلح الله تعالى به بين فئتين من المسلمين .
وروى البخاري ومسلم بسنديهما عن ابي هريرة قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكلمني ولا اكلمه حتى اتى سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى اتى مخبأة وهو المخدع فقال : يعني حسناً عليه السلام . فظننا انما حبسته امه لأن تغسله او تلبسه ثوباً فلم يلبث اذ جاء يسعى واعتنق كل واحد منهما صاحب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اني احبه واحب من يحبه ، وفي رواية اخرى اللهم اني احبه واحب من يحبه ، قال ابو هريرة : فما كان احد احب الي من الحسن بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5) .
وحكى عنه انه اغتسل وخرج من داره في بعض الايام وعليه حلة فاخرة ووفرة ظاهرة ومحاسن سافرة بنفحات طيبات عاطرة ووجهه يشرق حسناً وشكله قد كمل صورة ، ومعنى السعد يلوح على اعطافه ونضرة النعيم تعرف من اطرافه ، وقد ركب بغلة فارهة غير عسوفة وسار وقد اكتنفه من حاشيته صفوف ، فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود وعليه مسح من جلود وقد انهكته العلة والذلة وشمس الظهيرة قد شواه وهو حامل جرة ماء على قفاه ، فاستوقف الحسن فقال : يا ابن رسول الله سؤال ، فقال له : ما هو ، قال : جدك يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وانت المؤمن وانا الكافر فما ارى الدنيا الا جنة لك تنعم فيها وانت مؤمن وتستلذ بها ، وما أراها الا سجناً قد اهلكني جرها واجهدني فقرها ، فلما سمع الحسن عليه السلام كلامه اشرق عليه نور التأييد واستخرج الجواب من خزانة علمه واوضح لليهودي خطأ ظنه وخطل زعمه وقال : يا شيخ لو نظرت الى ما اعد الله لي وللمؤمنين في دار الآخرة مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لعلمت قبل انتقالي اليه في هذه الحالة في سجن ، ولو نظرت الى ما اعد الله لك ولكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار جهنم ونكال العذاب الاليم المقيم لرأيت قبل مصيرك اليه في جنة واسعة ونعمه جامعة ، فانظر الى هذا الجواب الصادع بالصواب (6) .
ولما استشهد الامام امير المؤمنين عليه السلام قام باعباء الامامة ولده الامام الحسن المجتبى عليه السلام ، واستقر على منصة الخلافة الالهية ، الا ان معاوية بن ابي سفيان اوجس منه خيفة فحسده كما حسد اباه من قبل ، واخذ يدس الدسائس ويلقي الاشواك في طريق الامام تارة بالوعد واخرى بالوعيد وثالثة بالرشوة وهكذا ، حتى استطاع من استمالة جماعة من اصحاب الامام وجيشه ، فتمكن ان يؤثر على دينهم المال ، فانحازوا نحو معاوية ، وتركوا الامام وحيداً بلا ناصر .
فاضطر الامام ان يصالح معاوية ويهادنه حفظاً على كيان الدين الاسلامي لئلا يتداعى ، وحقنا للمؤمنين عن الالقاء بهم في اتون حروب بائسة ، كل ذلك وفق شروط هامة لم يف بواحد منها معاوية . ولا شك ان معاوية كان يريد الهدنة والصلح ، فانه كتب الى الامام الحسن عليه السلام في ذلك ، والامام عليه السلام لم يجد بداً من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانقاذ الهدنة ، فتوثق عليه السلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجة عليه والاعذار فيما بيّنه ، وبينه عند الله تعالى وعند كافة المسلمين ، واشترط عليه بشروط ، فأجابه ابن آكلة الاكباد الى الشروط كلها ، وعاهده عليها وحلف له بالوفاء له ، ولكن غدر معاوية بما وعد وقال في خطبته بالنخيلة : اني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا . . ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون ، الا واني كنت منيت الحسن واعطيته اشياء وجميعها تحت قدمي لا افي بشيء منها له .
وقد ذكر المترجمون للامام الحسن عليه السلام صوراً كثيرة من مناقب الامام وبره واحسانه للفقراء والمعوزين اسداها عليهم كانت خالصة لوجه الله ، وان كتب السير استعرضت جلائل اعماله وكرمه وسخائه . ونحن اذ نذكر هنا شذرات من هذا الاحسان المتناهي .
قيل للامام الحسن عليه السلام : لأي شيء لا نراك ترد سائلاً قط ـ ولم تصدر منه كلمة (لا) لسائل ابداً ـ ؟
فأجاب عليه السلام : ( اني لله سائل ، وفيه راغب ، وانا استحي ان اكون سائلاً وارد سائلاً ) .
وان الله عودني عادة ان يفيض نعمه علي ، وعودته ان افيض نعمه على الناس . فأخشى ان قطعت العادة ان يمنعني العادة ، وانشأ يقول : اذا ما اتاني سـائل قلت مرحبـاً ومن فضله فضل على كل فاضل بمن فضله فرض علي معجل وافضل ايام الفتى حين يسأل
ونسبت له عليه السلام الابيات التالية وهي في السخاء :
لله يقرأ في كتاب محكم وأعد للبخلاء نار جهنم
من كان لا تندى يداه بنائل للراغبين فليس ذاك بمسلم
جاء اعرابي الى الامام الحسن عليه السلام فقال عليه السلام : ( اعطوه ما في الخزانة ) وكان فيها عشرة الاف درهم ، فقال الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي ؟
فأجابه الامام عليه السلام : نحن اناس نوالنا خضـل نجود قبل السؤال انفسنـا لو علم البحر فضل نائلنا يرتـع فيه الرجـاء والامـل خوفاً على ماء وجه من يَسل لفاض من بعد فيضه حجـل
اجتاز الامام عليه السلام على غلام اسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ، ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى . فقال له الامام عليه السلام : ( ما حملك على ذلك ؟ ) فقال الغلام : اني لاستحي ان آكل ولا اطعمه ، رأى الامام عليه السلام فيه خصلة من احب الخصال عنده فأحب ان يجازيه على صنعه ويقابل احسانه باحسان ، فقال له : ( لا تبرح مكانك ) ثم انطلق فاشتراه من مولاه ، واشترى الحائط أي ( البستان ) الذي هو فيه ، فأعتقه وملكه اياه .
اجتاز الامام عليه السلام يوماً في بعض ازقة المدينة فسمع رجلاً يسأل الله ان يرزقه عشرة الاف درهم ، فانطلق عليه السلام الى بيته ، وارسلها اليه في الوقت .
خرج الامام عليه السلام هو واخوه الحسين وابن عمهما عبد الله بن جعفر من ( المدينة ) قاصدين الحج ، وفي اثناء الطريق اصابهم جوع وعطش ، وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب اطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا الى البيت لم يروا فيه الا عجوزاً فطلبوا منها شراباً وطعاماً . فتقدمت اليهم بشاة قائلة : دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها . فلما فعلوا ذلك تقدمت اليهم مرة اخرى قائلة : اقسم عليكم الا ما ذبحها احدكم حتى اهيئ لكم الحطب لشيئها . ففعلوا ذلك ، وهيأت العجوز الحطب ، وبعدما اكلوا وفرغوا تقدموا اليها قائلين :
( يا أمة الله ، انا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام ، فإذا رجعنا سالمين فهلمي الينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ) مضت الايام والليالي والشهور والسنوات حتى اذا اعترى البادية ازمة شديدة على اثر انقطاع المطر وفقدان العشب والقوت . . رحلت العجوز بصحبة رب البيت الى (المدينة) ولم يجدا عملاً يحيطان به خبراً سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما . وفي يوم من الايام ـ وهما على عملهما ـ لمح الامام الحسن عليه السلام العجوز فعرفها ، فأمر غلامه ان يأتي بها اليه ، فلما مثلت بين يديه قال لها الامام عليه السلام : ( اتعرفيني يا امة الله ؟ ) قالت : لا ، قال عليه السلام : انا احد ضيوفك يوم كذا سنة كذا . قالت : لست اعرفك . فقال عليه السلام : ان لم تعرفيني فانا اعرفك . ثم امر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة ، واعطاها الف دينار . ثم امر الغلام ان بها الى اخيه الحسين عليه السلام ويعرّفه بها . فأتى بها الغلام ، ولما دخلت عرفها الحسين عليه السلام ، فقال للغلام : كم اعطاها اخي ؟ قال الغلام : الف شاة والف دينار ، ثم بعث الحسين عليه السلام بها الى عبد الله بن جعفر ، ولما دخلت عليه عرفها عبد الله ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار ، فحملت العجوز كل ذلك ، وانصرفت وقد تغير حالها من فقرٍ مدقع الى غناءٍ وثروة حسدها عليه كل من عرفها .
جاء الى الامام عليه السلام شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال عليه السلام للرجل : ( ما هذا حق لسؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر لدي ويدي تعجز عن نيلك بما انت اهله ، والكثير في ذات الله قليل ، وما في ملكي وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ورفعت عنا مؤونة الاحتفال والاهتمام فعلت ) فأجابه الرجل : يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقبل القليل ، واشكر العطية ، واعذر على المنع . فاحضر عليه السلام وكيله وحاسبه وقال له : ( هات الفاضل ) وكان خمسين الف درهم فدفعها اليه ، ولم يكتف عليه السلام بذلك بل قال لوكيله : ( ما فعلت بالخمسمائة دينار التي عندك ؟ ) فقال له : هي عندي . فأمره باحضارها ، ثم دفعها الى الرجل وهو يعتذر .
حيته جارية له بطاقة ريحان قدمتها اليه . فقال عليه السلام لها : ( انت حرة لوجه الله ) ، فلامه ( أنس ) على ذلك . فأجابه الامام عليه السلام : ادبنا الله فقال تعالى : ( واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ) . وكان احسن منها اعتاقها .
اتاه عليه السلام رجل فسأله ان يعطيه شيئاً فقال عليه السلام : ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح او فقر مدقع او حمالة مقطعة فقال : ما جئت الا في احداهن ، فأمر له عليه السلام بمائة دينار . . الخ الحديث .
هكذا ارخص الامام عليه السلام في سبيل مرضاة الله كل غالٍ ورخيص حتى انه خرج عن جميع ما يملكه مرتين وقسم امواله ثلاث مرات حتى انه اعطى نعلاً وامسك اخرى (7) .
صفا الجو لمعاوية بن ابي سفيان ، وحقق امانيه ، وجعل الخلافة الاسلامية ملكاً يتوارثه بنوه واسرته من بعده ، كيف السبيل الى ذلك والامام الحسن عليه السلام لا يزال حياً يرزق ، فلابد من القضاء عليه . عن عمر بن اسحاق قال : دخلت انا ورجل على الحسن بن علي نعوده ، فقال : يا فلان سلني فقلت : لا والله لا اسألك حتى يعافيك الله ثم اسألك قال : لقد القيت طائفة من كبدي واني سقيت السم مراراً فلم أسقه مثل هذه المرة ، ثم دخلت عليه من الغد فوجدت أخاه الحسين عند رأسه ، فقال له الحسين : من تتهمها يا أخي ؟ قال : لم لأن تقتله ؟ قال : نعم ، قال : ان يكن الذي اظنه فالله اشد بأساً وتنكيلاً وان لم يسكنه فما احب ان يقتل بي برئ (8) ثم قضى نحبه عليه السلام وذلك لخمس خلون من ربيع الاول سنة خمسين من الهجرة وصلى عليه الحسين عليه السلام ودفن بالبقيع عند جدته فاطمة بنت اسد عليها السلام وعمره آنذاك سبع واربعون سنة .
تلك هي الشخصية الفذة التي حقنت دماء المسلمين ووطدت اركان الدين وحافظت على بيضته ودرأت عنه غوائل المعتدين الذين امعنوا بكل ما اوتوا من قوة وبأس على درس آثاره ومحو اخباره .
المصادر :
1- ذخائر العقبى / للطبري ص 123 .
2- المناقب / ابن شهر اشوب / ج3 / ص159 .
3- بحار الانوار للمجلسي / ج10 / ص 82 .
4- الارشاد للشيخ المفيد ص 187 و 188 .
5- الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي ص 138 .
6- المصدر السابق / ص 140 .
7- بحار الانوار / للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 10 / ص 94 .
8- الفصول المهمة / لابن الصباغ المالكي ص 150 .
ومن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحسن : عن ابي زهير بن الارقم رجل من الازد قال : سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول للحسن بن علي : من احبني فليحبه فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ولو لا عزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثتكم . اخرجه احمد (1) .
وفي مناقب ابن شهر اشوب : كانت فاطمة ترقص ابنها حسناً تقول : اشبه اباك يا حسن واعبد الهاً ذا منن واخلع عن الحق الرسن ولا توال ذا الأحن (2)
يروي العلامة المجلسي فيقول : دعي النبي الى صلاة والحسن متعلق به ، فوضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابل جنبه وصلى ، فلما سجد أطال السجود ، يقول الراوي : فرفعت رأسي من بين القوم فإذا بالحسن على كنف الرسول فلما سلم قال له القوم : يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، كانما يوحى اليك ، فقال لم يوح اليَّ ، ولكن ابني كان على كتفي ، فكرهت ان اعجله حتى نزل (3) .
وروي عن ابراهيم بن علي الرافعي عن ابيه عن جدته زينب بنت ابي رافع وشبيب بن ابي الرافع عمن حدثه قالت : اتت فاطمة عليها السلام بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفى فيها ، فقالت : يا رسول الله هذان ابناك فوّرثهما شيئاً ، فقال : اما الحسن فان له هيبتي وسؤددي ، واما الحسين فان له وجودي وشجاعتي . وكان الحسن بن علي عليهما السلام وصي ابيه امير المؤمنين عليه السلام على اهله وولده واصحابه ، ووصاه بالنظر في وقوفه وصدقاته ، وكتب اليه عهداً مشهوراً ووصيته ظاهرة في معالم الدين وعيون الحكمة والاداب ، وقد نقل هذه الوصية جمهور العلماء ، واستبصر بها في دينه ودنياه كثير من الفقهاء ، ولما قبض امير المؤمنين عليه السلام خطب الناس الحسن وذكر حقه فبايعه اصحاب ابيه على حرب من حارب وسلم من سالم (4) .
فالحسن عليه السلام هو فرع الدوحة الهاشمية وربيب النبوة والامامة ، سليل الحق والعدل والفضيلة ، هو واخوه الحسين ( سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة ) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيهما : ( أي هذان امامان قاما او قعدا ) .
فأبو محمد الحسن المجتبى هذا هو الامام الصابر كريم اهل البيت ، وروي عن الترمذي مرفوعاً الى ابن عباس رضي الله عنه انه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حامل الحسن ابن علي عليهما السلام ، فقال رجل : نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ونعم الراكب هو . وروي عن الحافظ ابي نعيم فيما اورده في حليته عن ابي بكر قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا فيجيئ الحسن عليه السلام وهو ساجد وهو اذ ذاك صغير فيجلس على ظهره ، ومرة على رقبته فيرفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفعاً رفيقاً ، فلما فرغ من الصلاة ، قالوا : يا رسول الله انك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ان هذا ريحانتي وان ابني هذا سيد وعسى ان يصلح الله تعالى به بين فئتين من المسلمين .
وروى البخاري ومسلم بسنديهما عن ابي هريرة قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكلمني ولا اكلمه حتى اتى سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى اتى مخبأة وهو المخدع فقال : يعني حسناً عليه السلام . فظننا انما حبسته امه لأن تغسله او تلبسه ثوباً فلم يلبث اذ جاء يسعى واعتنق كل واحد منهما صاحب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اني احبه واحب من يحبه ، وفي رواية اخرى اللهم اني احبه واحب من يحبه ، قال ابو هريرة : فما كان احد احب الي من الحسن بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5) .
وحكى عنه انه اغتسل وخرج من داره في بعض الايام وعليه حلة فاخرة ووفرة ظاهرة ومحاسن سافرة بنفحات طيبات عاطرة ووجهه يشرق حسناً وشكله قد كمل صورة ، ومعنى السعد يلوح على اعطافه ونضرة النعيم تعرف من اطرافه ، وقد ركب بغلة فارهة غير عسوفة وسار وقد اكتنفه من حاشيته صفوف ، فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود وعليه مسح من جلود وقد انهكته العلة والذلة وشمس الظهيرة قد شواه وهو حامل جرة ماء على قفاه ، فاستوقف الحسن فقال : يا ابن رسول الله سؤال ، فقال له : ما هو ، قال : جدك يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وانت المؤمن وانا الكافر فما ارى الدنيا الا جنة لك تنعم فيها وانت مؤمن وتستلذ بها ، وما أراها الا سجناً قد اهلكني جرها واجهدني فقرها ، فلما سمع الحسن عليه السلام كلامه اشرق عليه نور التأييد واستخرج الجواب من خزانة علمه واوضح لليهودي خطأ ظنه وخطل زعمه وقال : يا شيخ لو نظرت الى ما اعد الله لي وللمؤمنين في دار الآخرة مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لعلمت قبل انتقالي اليه في هذه الحالة في سجن ، ولو نظرت الى ما اعد الله لك ولكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار جهنم ونكال العذاب الاليم المقيم لرأيت قبل مصيرك اليه في جنة واسعة ونعمه جامعة ، فانظر الى هذا الجواب الصادع بالصواب (6) .
ولما استشهد الامام امير المؤمنين عليه السلام قام باعباء الامامة ولده الامام الحسن المجتبى عليه السلام ، واستقر على منصة الخلافة الالهية ، الا ان معاوية بن ابي سفيان اوجس منه خيفة فحسده كما حسد اباه من قبل ، واخذ يدس الدسائس ويلقي الاشواك في طريق الامام تارة بالوعد واخرى بالوعيد وثالثة بالرشوة وهكذا ، حتى استطاع من استمالة جماعة من اصحاب الامام وجيشه ، فتمكن ان يؤثر على دينهم المال ، فانحازوا نحو معاوية ، وتركوا الامام وحيداً بلا ناصر .
فاضطر الامام ان يصالح معاوية ويهادنه حفظاً على كيان الدين الاسلامي لئلا يتداعى ، وحقنا للمؤمنين عن الالقاء بهم في اتون حروب بائسة ، كل ذلك وفق شروط هامة لم يف بواحد منها معاوية . ولا شك ان معاوية كان يريد الهدنة والصلح ، فانه كتب الى الامام الحسن عليه السلام في ذلك ، والامام عليه السلام لم يجد بداً من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانقاذ الهدنة ، فتوثق عليه السلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجة عليه والاعذار فيما بيّنه ، وبينه عند الله تعالى وعند كافة المسلمين ، واشترط عليه بشروط ، فأجابه ابن آكلة الاكباد الى الشروط كلها ، وعاهده عليها وحلف له بالوفاء له ، ولكن غدر معاوية بما وعد وقال في خطبته بالنخيلة : اني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا . . ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون ، الا واني كنت منيت الحسن واعطيته اشياء وجميعها تحت قدمي لا افي بشيء منها له .
وقد ذكر المترجمون للامام الحسن عليه السلام صوراً كثيرة من مناقب الامام وبره واحسانه للفقراء والمعوزين اسداها عليهم كانت خالصة لوجه الله ، وان كتب السير استعرضت جلائل اعماله وكرمه وسخائه . ونحن اذ نذكر هنا شذرات من هذا الاحسان المتناهي .
قيل للامام الحسن عليه السلام : لأي شيء لا نراك ترد سائلاً قط ـ ولم تصدر منه كلمة (لا) لسائل ابداً ـ ؟
فأجاب عليه السلام : ( اني لله سائل ، وفيه راغب ، وانا استحي ان اكون سائلاً وارد سائلاً ) .
وان الله عودني عادة ان يفيض نعمه علي ، وعودته ان افيض نعمه على الناس . فأخشى ان قطعت العادة ان يمنعني العادة ، وانشأ يقول : اذا ما اتاني سـائل قلت مرحبـاً ومن فضله فضل على كل فاضل بمن فضله فرض علي معجل وافضل ايام الفتى حين يسأل
ونسبت له عليه السلام الابيات التالية وهي في السخاء :
لله يقرأ في كتاب محكم وأعد للبخلاء نار جهنم
من كان لا تندى يداه بنائل للراغبين فليس ذاك بمسلم
جاء اعرابي الى الامام الحسن عليه السلام فقال عليه السلام : ( اعطوه ما في الخزانة ) وكان فيها عشرة الاف درهم ، فقال الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي ؟
فأجابه الامام عليه السلام : نحن اناس نوالنا خضـل نجود قبل السؤال انفسنـا لو علم البحر فضل نائلنا يرتـع فيه الرجـاء والامـل خوفاً على ماء وجه من يَسل لفاض من بعد فيضه حجـل
اجتاز الامام عليه السلام على غلام اسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ، ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى . فقال له الامام عليه السلام : ( ما حملك على ذلك ؟ ) فقال الغلام : اني لاستحي ان آكل ولا اطعمه ، رأى الامام عليه السلام فيه خصلة من احب الخصال عنده فأحب ان يجازيه على صنعه ويقابل احسانه باحسان ، فقال له : ( لا تبرح مكانك ) ثم انطلق فاشتراه من مولاه ، واشترى الحائط أي ( البستان ) الذي هو فيه ، فأعتقه وملكه اياه .
اجتاز الامام عليه السلام يوماً في بعض ازقة المدينة فسمع رجلاً يسأل الله ان يرزقه عشرة الاف درهم ، فانطلق عليه السلام الى بيته ، وارسلها اليه في الوقت .
خرج الامام عليه السلام هو واخوه الحسين وابن عمهما عبد الله بن جعفر من ( المدينة ) قاصدين الحج ، وفي اثناء الطريق اصابهم جوع وعطش ، وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب اطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا الى البيت لم يروا فيه الا عجوزاً فطلبوا منها شراباً وطعاماً . فتقدمت اليهم بشاة قائلة : دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها . فلما فعلوا ذلك تقدمت اليهم مرة اخرى قائلة : اقسم عليكم الا ما ذبحها احدكم حتى اهيئ لكم الحطب لشيئها . ففعلوا ذلك ، وهيأت العجوز الحطب ، وبعدما اكلوا وفرغوا تقدموا اليها قائلين :
( يا أمة الله ، انا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام ، فإذا رجعنا سالمين فهلمي الينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ) مضت الايام والليالي والشهور والسنوات حتى اذا اعترى البادية ازمة شديدة على اثر انقطاع المطر وفقدان العشب والقوت . . رحلت العجوز بصحبة رب البيت الى (المدينة) ولم يجدا عملاً يحيطان به خبراً سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما . وفي يوم من الايام ـ وهما على عملهما ـ لمح الامام الحسن عليه السلام العجوز فعرفها ، فأمر غلامه ان يأتي بها اليه ، فلما مثلت بين يديه قال لها الامام عليه السلام : ( اتعرفيني يا امة الله ؟ ) قالت : لا ، قال عليه السلام : انا احد ضيوفك يوم كذا سنة كذا . قالت : لست اعرفك . فقال عليه السلام : ان لم تعرفيني فانا اعرفك . ثم امر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة ، واعطاها الف دينار . ثم امر الغلام ان بها الى اخيه الحسين عليه السلام ويعرّفه بها . فأتى بها الغلام ، ولما دخلت عرفها الحسين عليه السلام ، فقال للغلام : كم اعطاها اخي ؟ قال الغلام : الف شاة والف دينار ، ثم بعث الحسين عليه السلام بها الى عبد الله بن جعفر ، ولما دخلت عليه عرفها عبد الله ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار ، فحملت العجوز كل ذلك ، وانصرفت وقد تغير حالها من فقرٍ مدقع الى غناءٍ وثروة حسدها عليه كل من عرفها .
جاء الى الامام عليه السلام شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال عليه السلام للرجل : ( ما هذا حق لسؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر لدي ويدي تعجز عن نيلك بما انت اهله ، والكثير في ذات الله قليل ، وما في ملكي وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ورفعت عنا مؤونة الاحتفال والاهتمام فعلت ) فأجابه الرجل : يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقبل القليل ، واشكر العطية ، واعذر على المنع . فاحضر عليه السلام وكيله وحاسبه وقال له : ( هات الفاضل ) وكان خمسين الف درهم فدفعها اليه ، ولم يكتف عليه السلام بذلك بل قال لوكيله : ( ما فعلت بالخمسمائة دينار التي عندك ؟ ) فقال له : هي عندي . فأمره باحضارها ، ثم دفعها الى الرجل وهو يعتذر .
حيته جارية له بطاقة ريحان قدمتها اليه . فقال عليه السلام لها : ( انت حرة لوجه الله ) ، فلامه ( أنس ) على ذلك . فأجابه الامام عليه السلام : ادبنا الله فقال تعالى : ( واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ) . وكان احسن منها اعتاقها .
اتاه عليه السلام رجل فسأله ان يعطيه شيئاً فقال عليه السلام : ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح او فقر مدقع او حمالة مقطعة فقال : ما جئت الا في احداهن ، فأمر له عليه السلام بمائة دينار . . الخ الحديث .
هكذا ارخص الامام عليه السلام في سبيل مرضاة الله كل غالٍ ورخيص حتى انه خرج عن جميع ما يملكه مرتين وقسم امواله ثلاث مرات حتى انه اعطى نعلاً وامسك اخرى (7) .
صفا الجو لمعاوية بن ابي سفيان ، وحقق امانيه ، وجعل الخلافة الاسلامية ملكاً يتوارثه بنوه واسرته من بعده ، كيف السبيل الى ذلك والامام الحسن عليه السلام لا يزال حياً يرزق ، فلابد من القضاء عليه . عن عمر بن اسحاق قال : دخلت انا ورجل على الحسن بن علي نعوده ، فقال : يا فلان سلني فقلت : لا والله لا اسألك حتى يعافيك الله ثم اسألك قال : لقد القيت طائفة من كبدي واني سقيت السم مراراً فلم أسقه مثل هذه المرة ، ثم دخلت عليه من الغد فوجدت أخاه الحسين عند رأسه ، فقال له الحسين : من تتهمها يا أخي ؟ قال : لم لأن تقتله ؟ قال : نعم ، قال : ان يكن الذي اظنه فالله اشد بأساً وتنكيلاً وان لم يسكنه فما احب ان يقتل بي برئ (8) ثم قضى نحبه عليه السلام وذلك لخمس خلون من ربيع الاول سنة خمسين من الهجرة وصلى عليه الحسين عليه السلام ودفن بالبقيع عند جدته فاطمة بنت اسد عليها السلام وعمره آنذاك سبع واربعون سنة .
تلك هي الشخصية الفذة التي حقنت دماء المسلمين ووطدت اركان الدين وحافظت على بيضته ودرأت عنه غوائل المعتدين الذين امعنوا بكل ما اوتوا من قوة وبأس على درس آثاره ومحو اخباره .
المصادر :
1- ذخائر العقبى / للطبري ص 123 .
2- المناقب / ابن شهر اشوب / ج3 / ص159 .
3- بحار الانوار للمجلسي / ج10 / ص 82 .
4- الارشاد للشيخ المفيد ص 187 و 188 .
5- الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي ص 138 .
6- المصدر السابق / ص 140 .
7- بحار الانوار / للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 10 / ص 94 .
8- الفصول المهمة / لابن الصباغ المالكي ص 150 .
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا