الكوفة ايّام بَيعة الامام الحسن عليه السلام
الكوفة
كما يصفها صعصعة بن صوحان العبدي: «قبة الاسلام وذروة الكلام، ومصان)
بفتح اوله غلاف القوس) ذوي الاعلام، الا ان بها أجلافاً(الجلف هو
الغليظ الجافي) تمنع ذوي الامر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق
ذوي الهيئة والقناعة».(1)
مصّرها المسلمون في السنة السابعة عشرة للهجرة بعد فتح العراق مباشرة. (2)
وكان بناؤها الاول بالقصب، فأصابها حريق، فبنيت باللبن وكانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعاً - بذراع اليد -، وأزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع. وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذراعاً، والفطايع وهي بسعة ستين ذراعاً.
وكان المسجد أول شيء خطّوة فيها. فوقف في وسط الرقعة التي أريدت للمدينة. رجل شديد النزع، رمى الى كل جهة بسهم، ثم اقيمت المباني فيما وراء السهام، وترك ما دونها للمسجد وساحته. وبنوا في مقدمة المسجد رواقاً، أقاموه على أساطين من رخام كان الاكاسرة قد جلبوها من خرائب الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان.
وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة، حين هاجر اليها أمير المؤمنين عليه السلام، فاتخذها مقراً له بعد وقعة الجمل سنة 36 للهجرة وكان دخوله اليها في الثاني عشر من شهر رجب.
وكان من بواعث هذه البادرة - هجرة الامام علي علیه السلام الى الكوفة - ضعف موارد الحجاز، واعتماده في موارده على غيرها، وما من علة تتعرض لها دولة أضرّ من اعتمادها في الموارد على غيرها، وكانت الكوفة وبلاد السواد تكفي نفسها وتفيض. وهذا عدا الاسباب العسكرية التي اضطرته لها الثورات المسلحة التي كانت تتخذ من بلاد الرافدين ميادين لاعمالها العدوانية.
وتقاطر على الكوفة - اذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين من مختلف الآفاق. وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز، والجاليات الفارسية من المدائن وايران. وعمرت فيها الاسواق التجارية. وزهت فيها الدراسات العلمية. وأنشئت حولها الحدائق والبساتين والارباض والقريات. وأغفت على ذراعها أمجاد التاريخ والآداب والعلوم زمناً طويلاً.
وغلب على الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيّع لعلي واولاده عليهم السلام، ثم لم يزل طابعها الثابت اللون. ووجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد أهواء مناوئه اخرى، كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في اكثر ما عصف بالكوفة من الزعازع التاريخية والرجّات العنيفة لها وعليها.
وجاءت بيعة الامام الحسن عليه السلام يوم بايعته الكوفة، عند ملتقى الآراء من سائر العناصر الموجودة فيها يوم ذاك، على أنها كانت قلَّ ما تلتقي على رأي.
وكان للحسن عليه من اسلوب حياته في هذه الحاضرة، مدى اقامته فيها، ما جعله قبلة الانظار ومهوى القلوب ومناط الآمال، وملأ أجواء المدينة الجديدة «عاصمة ابيه» بكرائم المكرمات التي تنتقل في آل محمد بالارث: جود يد، وسجاحة خلق، ونبل شعور، وظرف شمائل، وسعة حلم، ورجاحة عقل وعلم وزهادة وعبادة. وضحك منبر الخلافة - في بحران حزنه على الامام الراحل - بما شاع في أكنافه من شيم الانبياء الموروثة في خليفته الجديد، ولم يكن ثمة أعمل بالتقوى، ولا أزهد بالدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه، لذلك كان الشخصية الفذة التي تتفق عليها الآراء المختلفة عن رغبة وعمد، وتجتمع فيها عناصر الزعامة كما يجب في قائد أمة أو امام قوم.
وانتهت مهرجانات البيعة في الكوفة على خير ما كان يرجى لها من القوة والنشاط والتعبئة، لولا ان للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول، ولا تسير على رغائب الانفس، فكان الجوّ السياسي في الحاضرة التي تحتفل لاول مرة في تاريخها بتنصيب خليفة، لا يزال راكداً متلبداً مشوباً بشيء كثير من التبليل المريب، وذلك هو ما ورثته الكوفة من مخلّفات الحروب الطاحنة التي كانت على مقربة منها في البصرة والنهروان وصفين. وفي الكوفة يومئذ انصار كثيرون لشهداء هذه الحروب وضحاياها من الفريقين يشاركونهم الرأي، ويتمنون لو يسّر لهم اخذ الثار، ويعملون ما وسعهم العمل لتنفيذ اغراضهم.
ومن هذه الاغراض، الاغراض الصالحة المؤاتية، ومنها الفاسدة المبرقعة الاهداف التي لا تفتأ تخلق ذرائع الخلاف في المجموع.
اما الحسن - وهو في مستهل خلافته - فقد كانت القلوب كلها معه لانه ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، ولان من شرط الايمان مودته، ومن شرط البيعة طاعته.
قال ابن كثير: «وأحبوه أشد من حبهم لابيه(3)
وكان لا يزال بمنجاة من هؤلاء وهؤلاء، ما دام لم يباشر عملاً ايجابياً يصطدم بأهداف البعض، أو يمس الوتر الحساس من عصبيات البعض الآخر. ذلك لان الوسائل التي أصبح يعيش بها الاسلام يومئذ، كانت تخضع في أمثال هؤلاء المسلمين للاهداف الشخصية تارة، وللعصبيات اخرى.
وخيل للكثيرين من اولئك الذين تتحكم فيهم الانانية والنفعية حتى تتجاوز بهم حدود العقيدة، أنهم اذ يبايعون الحسن بالخلافة، انما يتسورّون بهذه البيعة الى اسناد قضاياهم، وارضاء مطامعهم، عن طريق الخلق الثري الواسع، الذي ألفوه في الحسن بن علي منذ عرفوه بين ظهرانيهم، والذي كان يذكّرهم - دائماً - بخلق جده الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكانوا يحفظون من صحابة الرسول أن الحسن أشبه آله به خلقاً وخلقاً.
والواقع انهم فهموا هذا الخلق العظيم على غير حقيقته.
وتسابق على مثل هذا الظن كثير من ذوي المبادئ التي لا تتفق والحسن في رأي ولا عقيدة، فبايعوه راغبين، كما يبايعه المخلصون من المؤمنين. ثم كان هؤلاء - بعد قليل من الزمن - أسرع الناس الى الهزيمة من ميادينه لا يلوون على شيء، ذلك لانهم حين عركوا مواطن طمعهم من ليونة الحسن عليه السلام، وجدوها بعد تسلّمه الحكم واضطلاعه بالمسؤولية، أعنف من زبر الحديد، حتى ان كلاً من أخيه وابن عمه وهما اقرب الناس اليه وأحظاهم منزلة عنده عجز ان يعدل به عن رأي أراده، ثم مضى معتصماً برأيه في غير تكلّف ولا اكتراث.
ولهذا، فلم يكن عجيباً أن تدب روح المعارضة وئيدةً في الجماعات القلقة من هؤلاء الرؤساء والمترئسين في الكوفة، ولم يكن عجيباً ان يعودوا متدرجين الى سابق سيرتهم مع الامام الراحل الذي «ملأوا قلبه غيظاً وجرّعوه نغب التهمام انفاساً»، وهكذا تنشأت - في هذا الوسط الموبوء - الحزبية الناقمة التي لا تعدم لها نصيراً قوياً في الخارج. وهكذا انبثقت مع هذه الحزبية المشاكل الداخلية بمختلف الوانها.
واستغل هذه المرحلة الدقيقة فئات من النفعيين، تمكنوا ان يخلقوا من أنفسهم همزة وصل بين الكوفة والشام، بما في ذلك من تمرد على الواجب. وخروج على الخلق، وخيانة للعهد الذي فرضته البيعة في أعناقهم.
وقديماً مرن هذا النمط من «أشباه الرجال» على الشغب والقطيعة والنفور، منذ انتقلت الخلافة الاسلامية الى الحاضرة الجديدة في العراق بما تحمله معها من الصراحة في الحكم والصرامة في العدل. وكان قلق هؤلاء وتبرمهم ونفورهم، نتيجة اليأس من دنيا هذه الخلافة، لانها لم تكن خلافة دنيا ولكن خلافة دين. وعلموا أنها لن تقرهم على ما هم عليه من سماحة التصرفات في الشؤون العامة والاستئثار بالدنيا، وأنها ستأخذ عليهم الطريق دون آمالهم واعمالهم ومختلف تصرفاتهم.
ووجد هؤلاء من نشوء الخلافة الجديدة في الكوفة، ومن استمرار معاوية على الخلاف لها في الشام، ظرفاً مناسباً لبعث النشاط واستئناف أعمال الشغب واستغلال الممكن من المنافع العاجلة، ولو من طريق اللعب على الجانبين، فاما أن يحتلوا من الامارة الجديدة أمكنتهم التي ترضي طموحهم، واما أن يعملوا على الهدم ويتعاونوا على الفساد. وكانت خزائن الشام لا تفتأ تلوح بالمغريات من الاموال والمواعيد، وكانت الاموال والمواعيد أمضى أسلحة الشام في مواقفها من الكوفة على طول الخط.
وهكذا فتَّ في أعضاد كوفة الامام الحسن عليه السلام تقلّب الهوى وتوزّع الرأي وتداعي الخلق وتوقح الخصومة في الكثير الكثير من أهلها.
وكان على هذه الشاكلة من عناصر الكوفة ابان بيعة الحسن عليه السلام أقسام من الناس.
لنا ان نصنّفهم كما يلي:
وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي الاتباع والنفوذ، كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الحسن من دعاوات ومؤامرات وشقاق.
«فكتبوا الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ، واستحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به»(4)
وفيما يحدثنا المسعودي في تاريخه: «أن أكثرهم اخذوا يكاتبونه - يعني معاوية - سراً، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي».(5)
«ودس معاوية الى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسةً، وآثر كل واحد منهم بعين من عيونه، انك اذا قتلت الحسن، فلك مائة الف درهم، وجند من اجناد الشام، وبنت من بناتي. فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلأم (لبس اللامة) ولبس درعاً وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة»(6)
ومثلٌ واحد من هذه النصوص يغني عن أمثال كثيرة.
وهكذا كان يعمل هؤلاء عامدين، شر ما يعمله خائن يتحين الفرص، وكانت محاولاتهم اللئيمة، لا تكاد تختفي تحت غمائم الدجل والنفاق، حتى تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب.
وهكذا كانوا - على طول الخط - قادة السخط، وأعوان الثورة، وأصابع العدو في البلد.
ومالأهم «الخوارج» على حياكة المؤامرات الخطرة، بحكم ازدواج خطة الفئتين، على مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين. ودل على ذلك اشتراك كل من الاشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الاخير من هذه الامثلة الثلاث، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة.
وأقطاب هؤلاء في الكوفة: عبد اللّه بن وهب الراسبي، وشبث بن ربعي، وعبد اللّه بن الكوّاء، والاشعث بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن.
وكان الخوارج أكثر اهل الكوفة لجاجة على الحرب، منذ يوم البيعة، وهم الذين شرطوا على الامام الحسن عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين - أهل الشام -، فقبض الحسن يده عن بيعتهم على الشرط، وأرادها (على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم)، فأتوا الامام الحسين عليه السلام أخاه، وقالوا له: «ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه، وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام». فقال الامام الحسين عليه السلام: «معاذ اللّه أن ابايعكم ما دام الحسن حياً». فانصرفوا الى الامام الحسن ولم يجدوا بداً من بيعته على شرطه(7)
أقول: وما من ظاهرة عداء للحسن عليه السلام، فيما اقترحه هؤلاء الخوارج لبيعتهم اياه، ولا في اصرارهم على الحرب، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح على الحرب، ولكنك سترى فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسن عليه السلام، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها. ورأيت فيما مرّ عليك - قريباً - أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.
وللخوارج في دعاوتهم الى «الخروج» أساليبهم المؤثرة المخيفة، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سرّ انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة على شواطئ النهروان.
وكان زياد بن ابيه يصف دعوة الخوارج بقوله: «لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع(اليراع: القصب)». وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم: «انهم لم يقيموا ببلد يومين الا افسدوا كل من خالطهم»(8)
والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعتمد على اللّه ولا يتصل اليه بسبب مشروع.
وسنعود الى ذكرهم في مناسبة اخرى عند الكلام على «عناصر الجيش».
ورأيت المرتضى في أماليه (ج 3 ص 93) يذكر «الشكاك» استطراداً ويلوّح بكفرهم، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين.
وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر، ولكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً وعوناً على الفساد وآلة «مسخرة» في أيدي المفسدين.
والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة 51 وحواليها، وكانوا من اولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم، فهم على الاكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين.
وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مرّ عليها تاريخ الكوفة مع القرن الاول. وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها اليهم فقالوا «كوفة الحمراء».
وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجَّنين الحمر. وخشي زياد (وكان والي البصرة اذ ذاك) قوّتهم فحاول استئصالهم، ولكن الاحنف بن قيس منعه عما أراد.
ووهم بعض كتّاب العصر، اذ نسب هؤلاء الى التشيع، أبعد ما يكونون عنه آثاراً ونكالاً بالشيعيين وأئمتهم. ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيّع، ولكن القليل لا يقاس عليه.
وكان الى جنب هذه العناصر العدوّة في الكوفة «شيعة الحسن» وهم الاكثر عدداً في عاصمة علي عليه السلام، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والانصار، لحقوا علياً الى الكوفة، وكان لهم من صحبتهم الرسول صلى اللّه عليه وآله ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس.
وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة على اخلاصهم لاهل البيت عليهم السلام، منذ نودي بالحسن للخلافة، ومنذ نادى - بعد خلافته - بالجهاد، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدّر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا - يومئذ - بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين، لكانوا العدّة الكافية لدرء الاخطار التي تعرّضت لها الكوفة من الشام، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها، وتعطيها الاهمية المطلوبة في حلولها.
وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الانصاري وحُجر بن عديّ الكندي، وعمرو بن الحمِقِ الخزاعي، وسعيد بن قيس الهمداني، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وعديّ بن حاتم الطائي، والمسيّب بن نجية، وزياد بن صعصعة، وآخرين من هذا الطراز.
اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة، والاصابع المأجورة الهدامة، فقد كانت تعمل دائماً، لتغلب هذه القابليات، ولتغيرّ من هذا التقدير.
ولم يخف على الحسن عليه السلام ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالى في الجوّ المسحور بشتى النزعات، والمتكهرب بشواجر الفتن والوان الدعاوات. وكان لا بدّ له - وهو في مطلع خلافته - أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معاً.
وكان معاوية هو العدو «الخارج» الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده لها من انواع الكيد، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام. وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسن عليه السلام، أن يتغاضى عن أمره، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضى عنه، وكان الحسن - في حقيقة الواقع - أحرص بشر على سحق معاوية والكيل له بما يستحق، لو أنه وجد الى ذلك سبيلاً من ظروفه.
واما في «الداخل» فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامام عليه السلام موقف المعارضة المركزة، القريبة منه مكاناً، والبعيدة عنه روحاً ومعنى وأهدافاً.
ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته، ناس من هؤلاء الناس، الذين استأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معنى، ولا للدين ذمة، ولا للجوار حقاً. نشزوا بأخلاقهم، فاذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد. ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب. وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات.
وهكذا كان للعراق - منذ القديم - قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.
وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف، عبقرياته التي كانت على الدوام بشائر ظفرٍ لامع، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل على موقفه كما ينزل القضاء من السماء.
وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها، وكان يمنعه الاحتياط للوضع، من الاصحار بنبوءته، فيلمح اليها الماحاً. وعلى هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة، التي اقتبسها من الآي الكريم، والتي قصد لها الغموض عن ارادة وعمد، وهي قوله في خطبته الاولى - يوم البيعة -: «اني أرى ما لا ترون».
ترى، هل كان بين يديه يومئذ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شيء، على عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد ؟ فما بال الخليفة الجديد لا يرى منهم الا دون ما يرون ؟.
انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع اعدائه ومع اصدقائه.
وعلى أن الموسوعات التاريخية لم تُعنَ بذكر الامثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخيّ عن سياسة الحسن، ولا سيما في الدور الاول من عهده القصير، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقّطناها من سيرته، ما زادنا وثوقاً ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها. فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من اوله الى آخره، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة اخرى لمثل هذا الوضع.
وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي:
1- أنه وضع لبيعته صيغةً خاصة، وقبض يده عما أريد معها من قيود، وأرادها هو على السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم. فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضى الفريقين من أحزاب الكوفة - دعاة الحرب، والمعارضين -. وكان لديه من الوضع العام (في كوفته) ما يكفيه نذيراً لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقتٍ ما.
2- أنه زاد المقاتلة مائةً مائةً، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه(9)
وللانعاش في ترفيع مخصصات الجيش سلطانه المحبَّب على النفوس، وله أثره في تأليف العدد الاكبر من الناس للخدمة في الجهاد.
وكانت ظاهرةً تحتمل الاستعداد للحرب، ولكنها - مع ذلك - غير صريحة بالتصميم عليه، ما دامت ظاهرة انعاش في عهدٍ جديد. وهي على هذا الاسلوب، من التصرفات التي تجمع الكلمة ولا تثير خلافاً، في حين أنها استعداد حكيم للمستقبل الذي قد يضطرّه الى حرب قريبة.
3- أنه امر بقتل رجلين كانا يتجسّسان لعدوّه عليه. وهدّد بتنفيذ هذا الحكم روح الشغب التي كان يستجيب لها عناصر كثيرة في المِصرين (الكوفة والبصرة).
قال المفيد رحمه اللّه: «فلما بلغ معاوية وفاه أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة، ورجلاً من بني القين الى البصرة، ليكتبا اليه بالاخبار، ويفسدا على الحسن الامور. فعرف بذلك الحسن، فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة، فأخرج، وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه(10)
وروى أبو الفرج الاصفهاني نحواً مما ذكره المفيد، ثم قال: «وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد فانت دسست اليَّ الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء اللّه، وبلغني انك شمتَّ بما لم يشمت به ذوو الحجى (يشير الى ما تظاهر به معاوية من الفرح بوفاة أمير المؤمنين عليه السلام)، وانما مثَلك في ذلك كما قال الاول:
فانّا ومن قد مات منا لكالذي***يروح ويمسي في المبيت ليغتدي
فقل للذي يبغي الخلاف الذي مضى***تجهَّز لاخرى مثلها فكأن قَدِ
4- تمهّله عن الحرب رغم الحاح الاكثرين ممن حوله على البدار اليها،منذ تسنّمه الحكم في الكوفة.
5- استدراجه معاوية من طريق التبادل بالرسائل، الى نسيان موقفه المتأرجح الذي لم تقو على دعمه الدعاوى الفارغة الكثيرة، فاذا باضمامة من الغلطات هي أجوبة معاوية للحسن وهي التي كشفت للناس معاوية المجهول، ومهدت للحسن معذرته تجاه الرأي العام في حربه لمعاوية، واذا بمعاوية الفريق المغلوب في منطق العقلاء، وان يكن الغالب بعد ذلك في منطق القوة.
ومثلٌ واحدٌ من هذه التدابير اللبقة التي أملى فيها الامام الحسن عليه السلام خطته السياسية في العهد القصير، بين وفاة أبيه عليه السلام وبين تصميمه على الحرب، كاف عن كثير.
المصادر:
1- - المسعودي هامش ابن الاثير ج 6 ص 118
2- البلاذري في فتوح البلدان والبراقي في تاريخ الكوفة، وذكره الحموي في المعجم ثم ناقض نفسه اذ قال في مادة «البصرة»: «وكان تمصير البصرة في السنة الرابعة عشرة قبل الكوفة بستة أشهر »
3- البداية والنهاية ج 8 ص 41
4- المفيد في الارشاد (ص 170) - والطبرسي في اعلام الورى.
5- هامش ابن الاثير (ج 6 ص 42). البيهقي في المحاسن والمساوي (ج 2 ص 200) ، الى اليعقوبي (ج 3 ص 12(.
6- علل الشرائع ص 84.
7- يراجع كتاب الامامة والسياسة ص 150
8- الطبري ج 6 ص 109
9- شرح النهج لابن ابي الحديد ج 4: ص 12
10- الارشاد (ص 168) والبحار وكشف الغمة
مصّرها المسلمون في السنة السابعة عشرة للهجرة بعد فتح العراق مباشرة. (2)
وكان بناؤها الاول بالقصب، فأصابها حريق، فبنيت باللبن وكانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعاً - بذراع اليد -، وأزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع. وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذراعاً، والفطايع وهي بسعة ستين ذراعاً.
وكان المسجد أول شيء خطّوة فيها. فوقف في وسط الرقعة التي أريدت للمدينة. رجل شديد النزع، رمى الى كل جهة بسهم، ثم اقيمت المباني فيما وراء السهام، وترك ما دونها للمسجد وساحته. وبنوا في مقدمة المسجد رواقاً، أقاموه على أساطين من رخام كان الاكاسرة قد جلبوها من خرائب الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان.
وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة، حين هاجر اليها أمير المؤمنين عليه السلام، فاتخذها مقراً له بعد وقعة الجمل سنة 36 للهجرة وكان دخوله اليها في الثاني عشر من شهر رجب.
وكان من بواعث هذه البادرة - هجرة الامام علي علیه السلام الى الكوفة - ضعف موارد الحجاز، واعتماده في موارده على غيرها، وما من علة تتعرض لها دولة أضرّ من اعتمادها في الموارد على غيرها، وكانت الكوفة وبلاد السواد تكفي نفسها وتفيض. وهذا عدا الاسباب العسكرية التي اضطرته لها الثورات المسلحة التي كانت تتخذ من بلاد الرافدين ميادين لاعمالها العدوانية.
وتقاطر على الكوفة - اذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين من مختلف الآفاق. وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز، والجاليات الفارسية من المدائن وايران. وعمرت فيها الاسواق التجارية. وزهت فيها الدراسات العلمية. وأنشئت حولها الحدائق والبساتين والارباض والقريات. وأغفت على ذراعها أمجاد التاريخ والآداب والعلوم زمناً طويلاً.
وغلب على الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيّع لعلي واولاده عليهم السلام، ثم لم يزل طابعها الثابت اللون. ووجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد أهواء مناوئه اخرى، كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في اكثر ما عصف بالكوفة من الزعازع التاريخية والرجّات العنيفة لها وعليها.
وجاءت بيعة الامام الحسن عليه السلام يوم بايعته الكوفة، عند ملتقى الآراء من سائر العناصر الموجودة فيها يوم ذاك، على أنها كانت قلَّ ما تلتقي على رأي.
وكان للحسن عليه من اسلوب حياته في هذه الحاضرة، مدى اقامته فيها، ما جعله قبلة الانظار ومهوى القلوب ومناط الآمال، وملأ أجواء المدينة الجديدة «عاصمة ابيه» بكرائم المكرمات التي تنتقل في آل محمد بالارث: جود يد، وسجاحة خلق، ونبل شعور، وظرف شمائل، وسعة حلم، ورجاحة عقل وعلم وزهادة وعبادة. وضحك منبر الخلافة - في بحران حزنه على الامام الراحل - بما شاع في أكنافه من شيم الانبياء الموروثة في خليفته الجديد، ولم يكن ثمة أعمل بالتقوى، ولا أزهد بالدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه، لذلك كان الشخصية الفذة التي تتفق عليها الآراء المختلفة عن رغبة وعمد، وتجتمع فيها عناصر الزعامة كما يجب في قائد أمة أو امام قوم.
وانتهت مهرجانات البيعة في الكوفة على خير ما كان يرجى لها من القوة والنشاط والتعبئة، لولا ان للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول، ولا تسير على رغائب الانفس، فكان الجوّ السياسي في الحاضرة التي تحتفل لاول مرة في تاريخها بتنصيب خليفة، لا يزال راكداً متلبداً مشوباً بشيء كثير من التبليل المريب، وذلك هو ما ورثته الكوفة من مخلّفات الحروب الطاحنة التي كانت على مقربة منها في البصرة والنهروان وصفين. وفي الكوفة يومئذ انصار كثيرون لشهداء هذه الحروب وضحاياها من الفريقين يشاركونهم الرأي، ويتمنون لو يسّر لهم اخذ الثار، ويعملون ما وسعهم العمل لتنفيذ اغراضهم.
ومن هذه الاغراض، الاغراض الصالحة المؤاتية، ومنها الفاسدة المبرقعة الاهداف التي لا تفتأ تخلق ذرائع الخلاف في المجموع.
اما الحسن - وهو في مستهل خلافته - فقد كانت القلوب كلها معه لانه ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، ولان من شرط الايمان مودته، ومن شرط البيعة طاعته.
قال ابن كثير: «وأحبوه أشد من حبهم لابيه(3)
وكان لا يزال بمنجاة من هؤلاء وهؤلاء، ما دام لم يباشر عملاً ايجابياً يصطدم بأهداف البعض، أو يمس الوتر الحساس من عصبيات البعض الآخر. ذلك لان الوسائل التي أصبح يعيش بها الاسلام يومئذ، كانت تخضع في أمثال هؤلاء المسلمين للاهداف الشخصية تارة، وللعصبيات اخرى.
وخيل للكثيرين من اولئك الذين تتحكم فيهم الانانية والنفعية حتى تتجاوز بهم حدود العقيدة، أنهم اذ يبايعون الحسن بالخلافة، انما يتسورّون بهذه البيعة الى اسناد قضاياهم، وارضاء مطامعهم، عن طريق الخلق الثري الواسع، الذي ألفوه في الحسن بن علي منذ عرفوه بين ظهرانيهم، والذي كان يذكّرهم - دائماً - بخلق جده الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكانوا يحفظون من صحابة الرسول أن الحسن أشبه آله به خلقاً وخلقاً.
والواقع انهم فهموا هذا الخلق العظيم على غير حقيقته.
وتسابق على مثل هذا الظن كثير من ذوي المبادئ التي لا تتفق والحسن في رأي ولا عقيدة، فبايعوه راغبين، كما يبايعه المخلصون من المؤمنين. ثم كان هؤلاء - بعد قليل من الزمن - أسرع الناس الى الهزيمة من ميادينه لا يلوون على شيء، ذلك لانهم حين عركوا مواطن طمعهم من ليونة الحسن عليه السلام، وجدوها بعد تسلّمه الحكم واضطلاعه بالمسؤولية، أعنف من زبر الحديد، حتى ان كلاً من أخيه وابن عمه وهما اقرب الناس اليه وأحظاهم منزلة عنده عجز ان يعدل به عن رأي أراده، ثم مضى معتصماً برأيه في غير تكلّف ولا اكتراث.
ولهذا، فلم يكن عجيباً أن تدب روح المعارضة وئيدةً في الجماعات القلقة من هؤلاء الرؤساء والمترئسين في الكوفة، ولم يكن عجيباً ان يعودوا متدرجين الى سابق سيرتهم مع الامام الراحل الذي «ملأوا قلبه غيظاً وجرّعوه نغب التهمام انفاساً»، وهكذا تنشأت - في هذا الوسط الموبوء - الحزبية الناقمة التي لا تعدم لها نصيراً قوياً في الخارج. وهكذا انبثقت مع هذه الحزبية المشاكل الداخلية بمختلف الوانها.
واستغل هذه المرحلة الدقيقة فئات من النفعيين، تمكنوا ان يخلقوا من أنفسهم همزة وصل بين الكوفة والشام، بما في ذلك من تمرد على الواجب. وخروج على الخلق، وخيانة للعهد الذي فرضته البيعة في أعناقهم.
وقديماً مرن هذا النمط من «أشباه الرجال» على الشغب والقطيعة والنفور، منذ انتقلت الخلافة الاسلامية الى الحاضرة الجديدة في العراق بما تحمله معها من الصراحة في الحكم والصرامة في العدل. وكان قلق هؤلاء وتبرمهم ونفورهم، نتيجة اليأس من دنيا هذه الخلافة، لانها لم تكن خلافة دنيا ولكن خلافة دين. وعلموا أنها لن تقرهم على ما هم عليه من سماحة التصرفات في الشؤون العامة والاستئثار بالدنيا، وأنها ستأخذ عليهم الطريق دون آمالهم واعمالهم ومختلف تصرفاتهم.
ووجد هؤلاء من نشوء الخلافة الجديدة في الكوفة، ومن استمرار معاوية على الخلاف لها في الشام، ظرفاً مناسباً لبعث النشاط واستئناف أعمال الشغب واستغلال الممكن من المنافع العاجلة، ولو من طريق اللعب على الجانبين، فاما أن يحتلوا من الامارة الجديدة أمكنتهم التي ترضي طموحهم، واما أن يعملوا على الهدم ويتعاونوا على الفساد. وكانت خزائن الشام لا تفتأ تلوح بالمغريات من الاموال والمواعيد، وكانت الاموال والمواعيد أمضى أسلحة الشام في مواقفها من الكوفة على طول الخط.
وهكذا فتَّ في أعضاد كوفة الامام الحسن عليه السلام تقلّب الهوى وتوزّع الرأي وتداعي الخلق وتوقح الخصومة في الكثير الكثير من أهلها.
وكان على هذه الشاكلة من عناصر الكوفة ابان بيعة الحسن عليه السلام أقسام من الناس.
لنا ان نصنّفهم كما يلي:
الحزب الاموي:
واكبر المنتسبين اليه عمرو بن حريث، وعمارة بن الوليد بن عقبة، وحجر بن عمرو، وعمر بن سعد بن ابي وقاص، وأبو بردة بن أبي موسى الاشعري، واسماعيل واسحق ابنا طلحة بن عبيد اللّه، واضرابهم.وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي الاتباع والنفوذ، كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الحسن من دعاوات ومؤامرات وشقاق.
«فكتبوا الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ، واستحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به»(4)
وفيما يحدثنا المسعودي في تاريخه: «أن أكثرهم اخذوا يكاتبونه - يعني معاوية - سراً، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي».(5)
«ودس معاوية الى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسةً، وآثر كل واحد منهم بعين من عيونه، انك اذا قتلت الحسن، فلك مائة الف درهم، وجند من اجناد الشام، وبنت من بناتي. فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلأم (لبس اللامة) ولبس درعاً وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة»(6)
ومثلٌ واحد من هذه النصوص يغني عن أمثال كثيرة.
وهكذا كان يعمل هؤلاء عامدين، شر ما يعمله خائن يتحين الفرص، وكانت محاولاتهم اللئيمة، لا تكاد تختفي تحت غمائم الدجل والنفاق، حتى تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب.
وهكذا كانوا - على طول الخط - قادة السخط، وأعوان الثورة، وأصابع العدو في البلد.
ومالأهم «الخوارج» على حياكة المؤامرات الخطرة، بحكم ازدواج خطة الفئتين، على مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين. ودل على ذلك اشتراك كل من الاشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الاخير من هذه الامثلة الثلاث، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة.
الخوارج:
وهم أعداء الامام علي عليه السلام منذ حادثة التحكيم، كما هم اعداء معاوية.وأقطاب هؤلاء في الكوفة: عبد اللّه بن وهب الراسبي، وشبث بن ربعي، وعبد اللّه بن الكوّاء، والاشعث بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن.
وكان الخوارج أكثر اهل الكوفة لجاجة على الحرب، منذ يوم البيعة، وهم الذين شرطوا على الامام الحسن عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين - أهل الشام -، فقبض الحسن يده عن بيعتهم على الشرط، وأرادها (على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم)، فأتوا الامام الحسين عليه السلام أخاه، وقالوا له: «ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه، وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام». فقال الامام الحسين عليه السلام: «معاذ اللّه أن ابايعكم ما دام الحسن حياً». فانصرفوا الى الامام الحسن ولم يجدوا بداً من بيعته على شرطه(7)
أقول: وما من ظاهرة عداء للحسن عليه السلام، فيما اقترحه هؤلاء الخوارج لبيعتهم اياه، ولا في اصرارهم على الحرب، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح على الحرب، ولكنك سترى فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسن عليه السلام، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها. ورأيت فيما مرّ عليك - قريباً - أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.
وللخوارج في دعاوتهم الى «الخروج» أساليبهم المؤثرة المخيفة، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سرّ انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة على شواطئ النهروان.
وكان زياد بن ابيه يصف دعوة الخوارج بقوله: «لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع(اليراع: القصب)». وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم: «انهم لم يقيموا ببلد يومين الا افسدوا كل من خالطهم»(8)
والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعتمد على اللّه ولا يتصل اليه بسبب مشروع.
وسنعود الى ذكرهم في مناسبة اخرى عند الكلام على «عناصر الجيش».
الشكاكون
ورأينا ذكر هؤلاء فيما عرضه المفيد (رحمه اللّه) من عناصر جيش الامام الحسن عليه السلام. والذي يغلب على الظن، أن تسميتهم بالشكاكين ترجع الى تأثرهم بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، فهم المذبذبون لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.ورأيت المرتضى في أماليه (ج 3 ص 93) يذكر «الشكاك» استطراداً ويلوّح بكفرهم، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين.
وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر، ولكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً وعوناً على الفساد وآلة «مسخرة» في أيدي المفسدين.
الحمراء
وهم عشرون الفاً من مسلحة الكوفة (كما يحصيهم الطبري في تاريخه). كانوا عند تقسيم الكوفة في السبع الذي وضع فيه أحلافهم من بني عبد القيس، وليسوا منهم، بل ليسوا عرباً، وانما هم المهجّنون من موالٍ وعبيد، ولعل اكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي اخذن في «عين التمر» و«جلولاء» من سنة 12 - 17 فهم حملة السلاح سنة 41 وسنة 61 في ازمات الامام الحسن والامام الحسين (عليهما السلام) في الكوفة .والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة 51 وحواليها، وكانوا من اولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم، فهم على الاكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين.
وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مرّ عليها تاريخ الكوفة مع القرن الاول. وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها اليهم فقالوا «كوفة الحمراء».
وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجَّنين الحمر. وخشي زياد (وكان والي البصرة اذ ذاك) قوّتهم فحاول استئصالهم، ولكن الاحنف بن قيس منعه عما أراد.
ووهم بعض كتّاب العصر، اذ نسب هؤلاء الى التشيع، أبعد ما يكونون عنه آثاراً ونكالاً بالشيعيين وأئمتهم. ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيّع، ولكن القليل لا يقاس عليه.
وكان الى جنب هذه العناصر العدوّة في الكوفة «شيعة الحسن» وهم الاكثر عدداً في عاصمة علي عليه السلام، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والانصار، لحقوا علياً الى الكوفة، وكان لهم من صحبتهم الرسول صلى اللّه عليه وآله ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس.
وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة على اخلاصهم لاهل البيت عليهم السلام، منذ نودي بالحسن للخلافة، ومنذ نادى - بعد خلافته - بالجهاد، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدّر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا - يومئذ - بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين، لكانوا العدّة الكافية لدرء الاخطار التي تعرّضت لها الكوفة من الشام، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها، وتعطيها الاهمية المطلوبة في حلولها.
وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الانصاري وحُجر بن عديّ الكندي، وعمرو بن الحمِقِ الخزاعي، وسعيد بن قيس الهمداني، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وعديّ بن حاتم الطائي، والمسيّب بن نجية، وزياد بن صعصعة، وآخرين من هذا الطراز.
اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة، والاصابع المأجورة الهدامة، فقد كانت تعمل دائماً، لتغلب هذه القابليات، ولتغيرّ من هذا التقدير.
ولم يخف على الحسن عليه السلام ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالى في الجوّ المسحور بشتى النزعات، والمتكهرب بشواجر الفتن والوان الدعاوات. وكان لا بدّ له - وهو في مطلع خلافته - أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معاً.
وكان معاوية هو العدو «الخارج» الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده لها من انواع الكيد، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام. وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسن عليه السلام، أن يتغاضى عن أمره، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضى عنه، وكان الحسن - في حقيقة الواقع - أحرص بشر على سحق معاوية والكيل له بما يستحق، لو أنه وجد الى ذلك سبيلاً من ظروفه.
واما في «الداخل» فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامام عليه السلام موقف المعارضة المركزة، القريبة منه مكاناً، والبعيدة عنه روحاً ومعنى وأهدافاً.
ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته، ناس من هؤلاء الناس، الذين استأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معنى، ولا للدين ذمة، ولا للجوار حقاً. نشزوا بأخلاقهم، فاذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد. ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب. وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات.
وهكذا كان للعراق - منذ القديم - قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.
وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف، عبقرياته التي كانت على الدوام بشائر ظفرٍ لامع، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل على موقفه كما ينزل القضاء من السماء.
وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها، وكان يمنعه الاحتياط للوضع، من الاصحار بنبوءته، فيلمح اليها الماحاً. وعلى هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة، التي اقتبسها من الآي الكريم، والتي قصد لها الغموض عن ارادة وعمد، وهي قوله في خطبته الاولى - يوم البيعة -: «اني أرى ما لا ترون».
ترى، هل كان بين يديه يومئذ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شيء، على عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد ؟ فما بال الخليفة الجديد لا يرى منهم الا دون ما يرون ؟.
انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع اعدائه ومع اصدقائه.
وعلى أن الموسوعات التاريخية لم تُعنَ بذكر الامثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخيّ عن سياسة الحسن، ولا سيما في الدور الاول من عهده القصير، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقّطناها من سيرته، ما زادنا وثوقاً ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها. فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من اوله الى آخره، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة اخرى لمثل هذا الوضع.
وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي:
1- أنه وضع لبيعته صيغةً خاصة، وقبض يده عما أريد معها من قيود، وأرادها هو على السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم. فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضى الفريقين من أحزاب الكوفة - دعاة الحرب، والمعارضين -. وكان لديه من الوضع العام (في كوفته) ما يكفيه نذيراً لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقتٍ ما.
2- أنه زاد المقاتلة مائةً مائةً، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه(9)
وللانعاش في ترفيع مخصصات الجيش سلطانه المحبَّب على النفوس، وله أثره في تأليف العدد الاكبر من الناس للخدمة في الجهاد.
وكانت ظاهرةً تحتمل الاستعداد للحرب، ولكنها - مع ذلك - غير صريحة بالتصميم عليه، ما دامت ظاهرة انعاش في عهدٍ جديد. وهي على هذا الاسلوب، من التصرفات التي تجمع الكلمة ولا تثير خلافاً، في حين أنها استعداد حكيم للمستقبل الذي قد يضطرّه الى حرب قريبة.
3- أنه امر بقتل رجلين كانا يتجسّسان لعدوّه عليه. وهدّد بتنفيذ هذا الحكم روح الشغب التي كان يستجيب لها عناصر كثيرة في المِصرين (الكوفة والبصرة).
قال المفيد رحمه اللّه: «فلما بلغ معاوية وفاه أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة، ورجلاً من بني القين الى البصرة، ليكتبا اليه بالاخبار، ويفسدا على الحسن الامور. فعرف بذلك الحسن، فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة، فأخرج، وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه(10)
وروى أبو الفرج الاصفهاني نحواً مما ذكره المفيد، ثم قال: «وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد فانت دسست اليَّ الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء اللّه، وبلغني انك شمتَّ بما لم يشمت به ذوو الحجى (يشير الى ما تظاهر به معاوية من الفرح بوفاة أمير المؤمنين عليه السلام)، وانما مثَلك في ذلك كما قال الاول:
فانّا ومن قد مات منا لكالذي***يروح ويمسي في المبيت ليغتدي
فقل للذي يبغي الخلاف الذي مضى***تجهَّز لاخرى مثلها فكأن قَدِ
4- تمهّله عن الحرب رغم الحاح الاكثرين ممن حوله على البدار اليها،منذ تسنّمه الحكم في الكوفة.
5- استدراجه معاوية من طريق التبادل بالرسائل، الى نسيان موقفه المتأرجح الذي لم تقو على دعمه الدعاوى الفارغة الكثيرة، فاذا باضمامة من الغلطات هي أجوبة معاوية للحسن وهي التي كشفت للناس معاوية المجهول، ومهدت للحسن معذرته تجاه الرأي العام في حربه لمعاوية، واذا بمعاوية الفريق المغلوب في منطق العقلاء، وان يكن الغالب بعد ذلك في منطق القوة.
ومثلٌ واحدٌ من هذه التدابير اللبقة التي أملى فيها الامام الحسن عليه السلام خطته السياسية في العهد القصير، بين وفاة أبيه عليه السلام وبين تصميمه على الحرب، كاف عن كثير.
المصادر:
1- - المسعودي هامش ابن الاثير ج 6 ص 118
2- البلاذري في فتوح البلدان والبراقي في تاريخ الكوفة، وذكره الحموي في المعجم ثم ناقض نفسه اذ قال في مادة «البصرة»: «وكان تمصير البصرة في السنة الرابعة عشرة قبل الكوفة بستة أشهر »
3- البداية والنهاية ج 8 ص 41
4- المفيد في الارشاد (ص 170) - والطبرسي في اعلام الورى.
5- هامش ابن الاثير (ج 6 ص 42). البيهقي في المحاسن والمساوي (ج 2 ص 200) ، الى اليعقوبي (ج 3 ص 12(.
6- علل الشرائع ص 84.
7- يراجع كتاب الامامة والسياسة ص 150
8- الطبري ج 6 ص 109
9- شرح النهج لابن ابي الحديد ج 4: ص 12
10- الارشاد (ص 168) والبحار وكشف الغمة
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا