محنة الإمام الحسن عليه السلام
السيد زيد الحلو
بعد حروب ثلاث خاضها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ألقت بظلالها على الأُمّة الإسلاميّة، افتقدت من خلالها الرؤية الواضحة للمنهج المحمّدي، فراحت تتخبّط في داخل ذاتها محرِّفةً حقائق لا يمكن أن تُنكَر، مواجِهةً إعلاماً أمويّاً يسخِّر كلَّ طاقاته لتغطية فضائل الخمس، مستعيناً بمطامعِ ثلّةٍ لم ترَ من نفسها إلّا تبعاً وأذناباً لطغاة بني أميّة.
فالمحنة هي المحنة، والقوم هم القوم، محنةُ نبيٍّ بُعث في قوم سادهم الجهل والعناد والباطل، فلاقى منهم ما لاقى، من ظلم وتعنُّت ونفاق، فأخلفه وصيُّه عليُّ بن أبي طالب عليه السلام بمحنةٍ أكبر بنكران الوصاية وسلب الخلافة، متغاضين عن قول فاطمة عليها السلام فيهم، وتذكيرها إيّاهم بأحقّيّة ابن عمّها، فكان ردّهم على قدر بشاعتهم، لطماً وعصراً وقتلاً، متجاهلين وصيَّة نبيّهم فيها، وابنُ أبي طالب يعضُّ نواجذ الصبر مكبَّلاً بالوصيّة، كاظماً غيظه وهو يرى تراثه نهباً وكأنَّ أحقادهم التي أضمروها خرجت بكلِّ جبروتها، حتى آلت له خلافتهم، مستصغراً إيّاها وهي أهون عليه من عفطة عنزٍ، فأقام عوجها وثبَّت حدودها وأرسى قواعدها، متحملاً أعباءها، فبرز الباطل من مكامنه محقِّقاً ثنائية الدهر بينه وبين الحقّ، فجنَّد جنوده من المنافقين، فملأوا قلب الإمام قيحاً وصدره غيظاً، حتى طالت يدُ الكفر هامتَه، فرفع شعار النصر الإلهي (فُزتُ وربِّ الكعبة)، فيورِّث محنته لسبط الرسول الأوّل، والذي واكب المحن، وجارى الإحن، من غير فتور أو تواني، مواجهاً محنته بصبر أُمّه وشجاعة أبيه، مواصلاً مسيرة التحدّي للظلم والنفاق في جوٍّ مشحون بالتجاذبات العلويّة والأمويّة، والصراع الأزليّ بين الإيمان والكفر، مواجهاً أعتى رياح الجرأة على الإمامة، فتخلى عنه أقرب الناس ممّن يدعي الصحبة لجدّه والولاء لأبيه، فماجت الأرض من تحته وقدماه راسيتان وعنقه إلى أعنان السماء متصدّياً للفكر المضادّ الذي يحاول زعزعة ثقة الناس بمنهج الإسلام، مستكملاً ما بدأه سيّد الوصيّين، متقلِّداً سيفه لحرب معاوية، لا من أجل المُلك، ولكن لإثبات الحقّ، وإكمال الدين، وما يراه من تكليف، لكن القوم أبناء القوم، بالأمس خذلوا أباه، واليوم ينأون بأنفسهم عن حربٍ لا يرون لهم فيها مصلحة، سوَّلت لهم نفوسهم المريضة المتعلّقة بهواها ومطامعها الدنيوية.
إنّها حرب أُسرتين، فما لهم والدخول فيها؟ فحيَّدوا أنفسهم، متقاعسين عن نصرة إمامهم، دافعين به إلى التزام جانب السياسة على الحالة العسكرية، معلناً هدنةً قد رسم خطّتها بإحكام، لتجريد معاوية من كلّ ما نسبه إلى نفسه من الإسلام، وأنّ حربه ليست من أجل صومٍ أو صلاة، فاضحاً أقاويله وأفاعيله. بحركةٍ قصمت ظهر النفاق والكذب، ولكن لجهل أصحابه وسطحيّة عقيدتهم لم يدركوا المغزى، ولم يصلوا إلى الغاية، ناكرين على إمامهم فعله، حتّى وصلت بهم الحال إلى السلام عليه بـ (مذلِّ المؤمنين) وطعنه بالسكّين في فخذه. فقلَّ الناصر وفُقد المعين مكرّرين فعلتهم الهوجاء بطعنةٍ أخرى في صلاته، حتّى أنّ الإمام كان يلبس لامته ودرعه عند الصلاة ليأمن جانب من يصلّي خلفه، وقد صَدَقَ حَدْسُه حين رُمي بسهمٍ في الصلاة، لكنَّ درع الإمام حال دون نفاذه.
أيُّ محنةٍ قاسيت أيُّها المجتبى؟ وأيُّ مصيبة وأنت تقف وحيداً أمام تلك الوحوش الضارية؟
تريد نهش لحمك ونشب أظفارها بك، وهي تعلم أنّك ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وفلذة كبده، حتّى طالت يد الخيانة إمامنا الممتحَن بسمٍّ قطّع كبده وهو صابرٌ محتسبٌ يُهوِّنُ خطبَه لقاؤه بجدّه وأُمّه وأبيه، حتّى استشهد عليه السلام وحُمل إلى جدِّه ليجدِّد به عهداً، فيمنع من الوصول إلى قبر جدّه، وتُضرب جنازته بالسهام، لتتمّ الحجّة على قاتليه، فيورِّث محن جدّه وأبيه وأُمّه إلى أخيه الحسين عليه السلام.
يا أبا محمد، ولا زالت المحنة تعصر أفئدتنا، ونحن نطوف على قبرك الشريف، وقد هدمته يد الضلال، لنستذكر ما قاسيته من ظلمهم وحقدهم، لكنّك دحرت أباطيلهم، وسفَّهت أحلامهم، فلك أرواحنا فداء لمثواك، مصباحَ الحقِّ والحقيقة.
احدث المقالات
الشبهة الرابعة عشر: شبهة عدم ممانعة عائشة من دفن الإمام الحسن عليه السلام في بيتها عند قبر جده صلى ا