المحتويات
2015/05/18
 
14813
الإمام الحسن.. القائد والأسوة

الإمام الحسن.. القائد والأسوة

الإمام الحسن عليه السلام.. القائد والأسوة

تأليف: الشيخ حسين سليمان سليمان

الفهرست

المقدمة
الفصل الأول:
مولد النور
ألقابه
زوجاته
أولاده
أوصافه
أخلاقه
عبادته
مكانة الحسن (ع) عند رسول الله (ص)
الحسن (ع) في مدرسة النبوة
إمامته (ع)
الفصل الثاني:
مراجعة تاريخية سريعة
علي والخلفاء
اعتزال الإمام
حكومة الإمام علي (ع)
مشكلات الإمام علي (ع)
خاتمة حكومة الإمام علي (ع)
الفصل الثالث:
عهد الإمام الحسن (ع) البيعة العامة
بداية الأزمة
التعبئة العسكرية في الدولة الإسلامية
الفكر الاستراتيجي عند الإمام الحسن (ع)
خيانات الجيش
مخطط اغتيال الإمام الحسن (ع)
رسائل عملاء الكوفة إلى معاوية
مطالبة الجماهير بالحل السلمي وممارسة الضغوطات على الإمام (ع)
الفصل الرابع:
اتفاقية الهدنة... الشروط والنتائج
أضواء على شروط الإمام الحسن (ع)
وقفة مع رواية الصلح، والشبهة والرد
الفصل الخامس:
الإمام الحسن وردود الفعل
التيار الجماهيري المتعاطف
موقف الإمام مع الطليعة
1ـ مع عدي بن حاتم
2ـ مع مالك بن ضمرة
3ـ مع حجر بن عدي
4ـ مع أبي سعيد عقيقا
الفصل السادس:
فصل الشهادة
المطاف الأخير تشييع جنازة الإمام (ع)
قسم التعليقات:
حول زوجات الحسن (ع)
حول مذكرة المصريين لعثمان
حول معاوية بن أبي سفيان
حول الخوارج
حول قول الإمام عند رفع المصاحف
حول استشهاد الإمام علي (ع)
الخاتمة

المقدمة

الحمد لله على نعمة الإسلام الذي جعله الله سبيلاً لإنقاذ الإنسان من التيه والغيّ والفساد والضلال وقيادته نحو الهداية والكرامة والوعي والنجاة، والصلاة والسلام على رسوله الأكرم منقذ البشرية وهادي المضلين إلى سبيل الرشاد وعلى أهل بيته الأطهار الصراط الأقوم إلى السماء وسفينة النجاة وقادة الأمة وأئمة المسلمين بالحق..
أما بعد:
في سيرة أئمة الدين (عليهم السلام) لا يوجد شك في أنّ كلٌ منهم كان يحيا في زمان، معين، وأنّ زمان ومحيط كل واحد منهم، كانت له اقتضاءات مختلفة. وحيث أنّ كل إنسان يتوجب عليه بالضرورة أن يتّبع مقتضيات زمانه، فإنّ الدين قد ترك الناس أحراراً من هذه الناحية. وفي صورة تعدد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتعاقبهم، أو طول عمر واحد منهم، فإنّ الإنسان يتمكن بشكل أفضل، من تشخيص روح التعاليم الدينية، وفرزها عما يكون ممتزجاً بها من مقتضيات الزمان، فيأخذ الروح ويترك الأمور المختصة بتلك المقتضيات تماماً كالمثال الذي يدور حول حياة الزهد، حيث كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعيش الفقر، بينما لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً: كذلك.
ولتبيان جوانب هذا الموضوع نرى في الحديث المعروف الوارد في (الكافي)(1)، وكذلك في (تحف العقول)، أن سفيان الثوري دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فرأى عليه ثياباً بيضاً... إلى أن قال: فما أنكرت يا ثوري، فوالله إني لمع ما ترى، ما أتى عليّ، قد علقت، صباح ولا مساء، ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعاً إلا وضعته.
وفي حديث آخر: (عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تزيّد السّعر بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قال: قلت، عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة، قال: أخرجه، وبعه. قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام!! قال: بعه، فلما بعته قال: اشتري مع الناس، يوماً بيوم، وقال: يا معتب، اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً، ونصفاً حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة)(2).
يريد الإمام بعمله هذا أن يبين لنا كيف أن الإسلام بشكل أساسي يفرض على المسلم أن يكون سلوكه بين الناس مقروناً بالإحسان وممزوجاً بالعدل والإنصاف ولا يهم بعد ذلك أن يضع خبزه في البيت، أو يشتريه من السوق، أو يأكل خبز القمح، أو الشعير، أو يخلط القمح بالشعير...
وهكذا فبملاحظة الاختلاف بين عمل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعمل الإمام الصادق (عليه السلام)، فإننا نتفهم روح الإسلام بشكل أعمق، ولو أن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يبين لنا هذا الأمر، ولم يوضحه، لكُنا اعتبرنا هذا الجانب من عمل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والمتعلق بعصره الذي كان يعيش فيه، جزءاً من الدين الإسلامي، وبضم الآية الكريمة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(3). وهذه الآية تأمرنا بالتأسي برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى هذا الأمر.
ونستطيع أن نقول كلمة حاسمة أن الأئمة (عليهم السلام) عندما يتحركون في الحياة فإن كل حركتهم تمثل الخط العملي لأسلوب الدعوة في القرآن الكريم، الدعوة في أخلاقيتها والدعوة في حركيتها، والدعوة في قضايا الصراع، وهذا ما يريده القرآن الكريم ويتحرك فيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو أن يكون كل واحد منا داعية بكل شخصية لتكون كل حياته دعوة في سبيل الله وتجسيداً للخط الأخلاقي الإسلامي في مسألة الدعوة إلى الله تعالى.
ومن جانب آخر لا يمكن أن نقسّم أسلوب الأئمة (عليهم السلام) بحيث مثلاً: لا يمكن أن نفكر بأن الحسين (عليه السلام) يعيش ذهنية العنف، وأن الحسن (عليه السلام) يعيش ذهنية اللين. إنّ الأسلوب الحسني ـ إذا صح التعبير ـ كان أسلوباً حسينيّاً، وإنّ الأسلوب الحُسيني، كان أسلوباً حسنياً. كيف نفسّر ذلك؟
إننا عندما نواكب مسألة حركة الإمام الحسن (عليه السلام) في خلافته فإننا نجد أنّه كان ثورياً كأعلى درجات الثورة في خطابه السياسي وعندما ندرس وندقق في مفردات كتبه إلى معاوية فإننا نجد فيه أنه كان يعيش عمق العنف فيما يمثله الجهاد في هذا المجال، وعندما يكون صالح فإنّه صالح على أساس أنّ الظروف الموضوعية كانت تقف به بين خطين:
إما أن تسقط المعارضة محلها، فلا يبقى هناك صوت للحق يعارض الباطل، وإما أن يحتفظ ببعض المعارضة التي يمكن أن تمثل استمراراً للخط في مواجهة الباطل الذي استطاع أن يفرض نفسه على مساحة كبيرة من الواقع، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنّ الحروب التي كانت تدور بين المسلمين في خلافة الإمام علي (عليه السلام) قد أتعبت المسلمين، ولذلك أتعبوا عليّاً (عليه السلام) بأسلوبهم في السير معه وحجبت الرؤيا عن فضائح الأمويين وعن سيئاتهم ووحشيتهم وضلالهم، وما إلى ذلك لأننا نعرف أن أية أمة لا يمكن أن تميّز بين اللون الأبيض واللون الأسود في حالة الحرب، لأنّ حالة الحرب تمثل الحالة الرمادية، في ما هو الوعي المنفتح على كل قضايا الواقع، فالناس في حالات الحرب يفقدون الخطوط الواضحة للمبادئ، ويستغرقون في مفردات الحرب، ليسجلوا نقطة على هذا، وليستغرقوا في هزيمة هنا ونصر هناك، وما إلى ذلك، ومن هنا كان من الصعب جداً توعية الناس بالواقع الذي يمثله الحكم الأموي، لذلك كانت المصلحة الإسلامية العليا التي تحكم مسيرة الإمام الحسن (عليه السلام) هي أن يحفظ البقية الباقية من المعارضة لتمثل الامتداد في خط المواجهة للباطل، وليعطي الناس فرصةً لتتفهم من خلال التجربة الواسعة من هم بنو أمية، وما هو الحكم الأموي لذلك كان يهيئ المجال لثورة الحسين (عليه السلام). وقد لاحظنا انه عندما ثارت ثائرة المتحمسين من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الإمام الحسن (عليه السلام)، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدافع عن موقف الإمام الحسن (عليه السلام) ويتحدث عن شرعيّته بكل قوة، وإذا صحّ أنّ الحسين (عليه السلام) وقّع وثيقة الصلح عندما طولب بذلك كما وقّعها الحسن (عليه السلام) فإنّ معنى ذلك أن الحسين (عليه السلام) كان يسجّل موافقة مباشرة على الصلح.
وربما كان هذا هو ما يفسّر أن الحسين (عليه السلام) لم يطلق الثورة في وجه معاوية ما دام معاوية حيّاً، لأنّ الالتزام بهذا الصلح كان بحكم موقفه إذا صحت الروايات وهكذا نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أعطى للسلم إمكاناته، ولو من خلال إقامة الحجّة وكان يعمل على أساس أن يقدم الحجج التي كانت بيده على شرعيته في أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان يطلب من الناس أن يشهدوا على ما سمعوا به، وكان يحاول أن يطرح بعض الحلول السليمة، ولكن القضية وصلت إلى الحد الذي عبّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام): (ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة)(4).
عندما طلب منه أن ينزل على حكم ابن زياد ويزيد بن معاوية، ومعنى ذلك إلغاء الرسالة وإلغاء كل الشرعيّة، لأن النزول على حكمهم معناه إعطاء كل شيء لهم.
لذلك كانت المسألة الحسينية تتحرك من خلال الظروف التي أوحت للحسين (عليه السلام) بالقاعدة الشرعيّة لحركته، كما كانت الظروف الموضوعية هي التي حركت الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) معه لتطبيق الخط الشرعي على مسألة الصلح، ولذلك كان الحسن حسينياً وكان الحسين حسنياً.
ليس في الإسلام شيء اسمه العنف المطلق، وليس في الإسلام شيء اسمه اللين المطلق، وإن العنف يختزن اللين في ما ينفتح به على كل وقاع الحياة واللين يختزن العنف في ذلك، باعتبار أن لكل منهما حدوداً معينة وظروفاً معينة.
فقد وقع اهتمامي على قراءة لكل ما وقع في يدي من كتابات (مؤلفات ومصادر) حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) وكنت أحاول قدر جهدي أن أدرس الفترة الممتدة من شهادة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حتى شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) خاصة وأن التحولات السياسية في الدولة الإسلامية كانت بداية لمرحلة الانهيار في نظام الحكم الإسلامي وتشكيل نظام الحكم القبلي وما رافقه من تدهور للبرنامج الإسلامي في أصعدته المختلفة، الاجتماعي والثقافي والاقتصادي و.. و...
ومن بين الاستنتاجات التي توصلت إليها من خلال قراءة هذه الفترة أن الإمام الحسن (عليه السلام)، عايش مرحلتين: مرحلة انهيار حكومة العدل الإلهي في عهد الإمام علي (عليه السلام)، ومرحلة إقامة نظام الحكم القبلي الأموي على يد معاوية بن أبي سفيان وكان على الإمام الحسن (عليه السلام) أن يبذل جهداً بالغاً في الحفاظ على المنهج الإسلامي من الضياع قبل أن يتحول إلى منهج أموي بعد دخوله مرحلة نظام الحكم.
وبطبيعة الحال إن التعامل مع مثل هذا الظرف الخطير يحتاج إلى ضريبة، فكانت هذه الضريبة: أن العظماء والقادة لابدّ أن يخسروا في فتنة التحول المكاسب الظاهرية والتي عادة ما يسيل لها لعاب المؤرخين ذكر هذا الجانب من العظمة تحديداً من تاريخهم، من جهة ثانية وجدت في كثير من الكتابات حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) إنها جمدت عند مقطع معيّن من هذا التاريخ فكانت عملية الإسهاب في الكتابة عنه قد بلغت حدّاً كبيراً بحيث أعطته اهتماماً بالغاً حتى أصبح هو الطابع العام والسمة البارزة في حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، رغم أنّ الأمر ليس كذلك لأن التاريخ كلٌ لا يتجزأ يؤثر قديمه في حديثه كما تؤثر وقائعه السالفة في أحداثه اللاحقة، إضافة إلى أن التاريخ ليس كتلة من التناقضات أو حركة من التطورات الدراماتيكية التي تنشأ بإلغاء مقطع تاريخي سابق لتقيم على أنقاضه مقطعاً جديداً يحمل في تركيبته عناصر جديدة أو مواد خام مختلفة وإنما التاريخ هو كتلة من التفاعلات المنتظمة تؤثر في بعضها البعض بصورة تدريجية وتترك آثارها على المراحل بالتوالي، وهكذا هي سنن الله في التاريخ والاجتماع التي لا تتبدل.
من هنا فإن فهم هذه الحقيقة يدفع للقول إلى أن الوقائع التي حصلت في تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) إنما هي امتداد لتاريخ ما بعد غياب الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن الحياة الدنيا وانحراف نظام الحكم بعدم إقرار الولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) على المسلمين لمدة ربع قرن من الزمان ثم إفرازات هذا الانحراف على واقع المجتمع الإسلامي في عهد الإمام علي (عليه السلام) والتصدّع الخطير في الحكومة الإسلامية بسبب انفجار الأزمات الداخلية وحركات التمرّد منذ بداية تولّي الإمام علي (عليه السلام) للخلافة ونشوب الحروب في عهده (عليه السلام) والتي كانت سبباً رئيسياً في تحطيم الكيان الرسالي الذي كان يستند عليه الإمام في إقامة حكومة العدل الإلهي، ثم نهاية هذا العهد بطريقة مأساوية بعد أن أصاب جيش الإمام (عليه السلام) التقهقر والانهيار والتعب في حروب التمرد (الجمل، صفين، الخوارج) حتى انتهت هذه الحكومة باستشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) على يد أحد عناصر التمرّد عبد الرحمن بن ملجم.
وجاء الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الحكم والأمة تعيش انهيار شاملاً، لقد جاء الإمام (عليه السلام) إلى الحكم ولكن دون مقوّمات فلم يكن يمتلك قوة عسكرية تحفظ كيان الحكومة من هجمات التمرّد وغارات العدوّ، ولم يكن يمتلك شعباً متماسكاً يسند الدولة في الظروف الصعبة بل كان المسلمون موزعين الهوى والهوية.
وجد الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه أمام أمة قد انسلخت من قيمها وغلبت عليها شهوة المال وحب الراحة فكان لابدّ أن يبدأ عملاً تغييرياً في جذور الأمة ليعيدها إلى فطرتها الصافية ويذكرها بمفاهيم الرسالة التي بُشّر بها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقد عمل الإمام الحسن (عليه السلام) على إحياء هذه المفاهيم بقوة، لأن حركة الوضع والتزوير في المفاهيم والأحاديث قد نشطت بكثافة رهيبة في عهد معاوية وهي ـ أي حركة الوضع ـ تعدّ أكبر حركة وضع في تاريخ المسلمين والتي ما زالت آثارها باقية إلى هذا اليوم حتى أصبحت المفاهيم المتناقضة أمراً اعتيادياً في مصادر التفكير لدى المسلمين حتى ليصبح معاوية وهو الذي سفك دماء رجال الإسلام العظماء أمثال عمار بن ياسر وحجر بن عدي.. وغيرهما يصبح معاوية هذا أمير المؤمنين وأمين الله على وحيه وأن الرسالة لو لم تنزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) لنزلت على معاوية!!
ولقد عمدت في فصول هذا البحث إلى تفلية الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف أحداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها (الاستراتيجي) في التاريخ ـ إذا صح هذا التعبير ـ عن أعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والى يوم الناس، لأنّها كانت ظروف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلفاء الآخرين، ولأنها بداية إقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحيّة والسلطات الزمنية في الإسلام، واللحظة التي صدّقت بأحداثها الحديث النبوي الشريف الذي أنبأ برجوع الأمر بعد ثلاثين عاماً إلى الملك العضوض، ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الإسلامية.
ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول، أن ترجع ـ بعد الجهد المرتخص في سبيلها ـ بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق ـ أبعد ما تكون تأتياً في البحث وأكثر ما تكون تفسخاً في المصادر، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الأحداث فتعرضها في هذه السطور مجلّوة على واقعها الأول، أو على أقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين أحضان جيلها المختلف الألوان.
فإذا بالحسن بن علي (عليه السلام) بعد هذا وعلى قصر عهده في خلافته من أطول الخلفاء باعاً في الإدارة والسياسة، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الأمور وسمّوه في علاج المشكلات.
وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء، أن يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم، أناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق، أو المغلوبين بسوء الطوية، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير، ثم يتحذلقون بالتطاول على الكرامات المجيدة، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث، فلا يدلون بتفريطهم في أحكامهم إلا على فرط الضعف في نفوسهم.
وليس يضر الحسن بن عليّ (عليهما السلام) أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز وأن لهذا الإمام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الأسنى من صفوة (العظماء) الخالدين.
وحسبنا في هذه السطور أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس، عظمة هذا الإمام، خالصة من كل شوب، سالمة من كل عيب، نقية من كل نقد.
وكانت النقود التي جرح فيها وُقّاح الرأي سياسة الحسن (عليه السلام)، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النصف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الإمام (عليه السلام) وكان للشهوة الحزبية من بعض، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر، وللجهل بالواقع من ثالث، أثره فيما أسف به المتسرّعون إلى أحكامهم. ونظروا إليه نظرتهم إلى زعيم أخفق في زعامته، وفاتهم أن ينظروا إلى دوافع هذا الإخفاق المزعوم، الذي كان ـ في حقيقته ـ انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته، بما كان قد طغى على هذا الجيل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس، وأي غضاضة على (الزعيم) إذا أفسد جيله، أو خانت جنوده، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا إليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه، فيضع الخطط ويقرر النتائج ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبراً قبراً، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة إلى الإصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم.
ترى، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟ وأن بحثنا هذا يضع نقاط هذه الحروف، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع، أو هي الواقع نفسه مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية، وبالدراسات النفسية، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد هذا البحث والدراسة، والقاعدة التي خرج منها إلى احكامه بسهولة ويسر، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء.
وأما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الأولين، ممّا كتب عن قضية الحسن (عليه السلام) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية، وطعمة الضياع والانقراض أخيراً.
وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح من تاريخ الإسلام، وفي المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع: كتاب صلح الحسن ومعاوية، لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة 333هـ. ولا كتاب صلح الحسن (عليه السلام) لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم) ولا كتاب قيام الحسن (عليه السلام)، لهشام بن محمد بن السائب، ولا قيام كتاب الحسن (عليه السلام) لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعيد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة 283هـ، ولا كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في أمر الحسن (عليه السلام)، ولا كتاب أخبار الحسن (عليه السلام) ووفائه للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفى سنة 207هـ. ولا كتاب أخبار الحسن (عليه السلام) لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي،(5) ولا نظائرها.
أما هذه المصادر التي قدّر لنا أن لا نجد غيرها سنداً، فيما احتاجت به هذه البحوث إلى سند ما، فقد كان أعجب ما فيها أنها تتفق جميعها في قضية الحسن (عليه السلام) على أن لا تتفق في عرض حادثة، أو رواية خطبة، أو نقل تصريح، أو الحكم على إحصاء، بل لا يتفق سندان منها ـ على الأكثر ـ في تاريخ وفق الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسن (عليه السلام) في ميادينه، أو في التعبير عن صلحه، أو في قتله أخيراً، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من أخبار الملحمة، من ألفها إلى يائها.
والمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر، عند نقاطها الحساسة أثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف، إرجاع هذه الحقائق إلى تسلسلها الصحيح الذي يجب أن يكون هو واقعها الأول، فقد كان من أيسر الوسائل إلى تحقيق هذا الغرض، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال، وتناسق الأحداث اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع.
وكان من حسن الصدف، أن لا نحرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح الذي بعثرته هذه المصادر نفسها، في أطوار رواياتها الكثيرة المضطربة، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها، أولتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور، التي لا تستسلم للنقل أكثر ممّا تحتكم للعقل، رجعنا في كثير ممّا التمسنا تدقيقه، إلى التصريحات الشخصية التي جاءت أذلّ على الغرض من روايات كثيرة من المؤرخين.
ولقد قسّمت البحث إلى ستة فصول هي: الفصل الأول تحدثنا فيه عن ولادة الإمام (عليه السلام) وزوجاته وأولاده وأوصافه وأخلاقه وعبادته ومكانته عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعن إمامته، وأما في الفصل الثاني فتحدثنا عن مراجعة تاريخية سريعة للأحداث السابقة لعهد الإمام (عليه السلام) فشملت الإمام علي (عليه السلام) والخلفاء واعتزال الإمام، وحكومة الإمام (عليه السلام) والمشكلات التي اعترضت الإمام علي (عليه السلام) والمتارك لحكومة الإمام (عليه السلام) وأما في الفصل الثالث فتحدثنا عن عهد الإمام الحسن (عليه السلام) والبيعة العامة. وبداية الأزمة والتعبئة العسكرية في الدولة الإسلامية والفكر الاستراتيجي عند الإمام الحسن (عليه السلام)، وخيانات الجيش ومخطط اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) ورسائل عملاء الكوفة إلى معاوية ومطالبة الجماهير بالحل السلمي وممارسة الضغوطات على الإمام (عليه السلام) وعالجنا في الفصل الرابع اتفاقية الهدنة والشروط والنتائج ووثيقة الهدنة والإجراء الوقائي. ووقفه مع رواية الصلح (الشبهة والرد) وأما الفصل الخامس فقد تحدثنا فيه عن ردود الفعل على الصلح مع معاوية من قبل الطليعة المؤمنة ومواقف الإمام الحسن (عليه السلام) معها، وفي الفصل السادس تحدثنا عن الشهادة والتشيع وشمل البحث قسم التعليقات التي تناولت نقاط مهمة تتعلق بالبحث.
راجين من الله سبحانه وتعالى الأجر والثواب.

حسين سليمان سليمان
يارون. قضاء بنت جبيل
في 10/10/1996م
الموافق 28/جمادي الأول/ 1417هجرية

الفصل الأول:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)(6).
مولد النور:
مكث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكة المكرمة فترة من الوقت كان يواجه خلالها حرباً إعلامية من قبل رجال قريش، بهدف إقامة جدار بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمجتمع كمحاولة لفصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اجتماعياً تحت مبررات مختلفة.
وكان من وسائل هذه الحرب القذرة بثّ الشائعات والأضاليل الباطلة والمزيفة في أوساط الرأي العام القرشي والمكّي منها: أنّ رسول الله أبتر لا عقب له ولا خلف. ولقد سرت هذه الشائعة بين المجتمع المكي ممّا ترك في نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعض الحزن والتأثر.
ولكن الله سبحانه وتعالى أبطل هذه الأكذوبة، وبشّر رسوله بأن أعطاه فاطمة سيدة نساء العالمين وسيكون أبناؤه منها وهم اللذين سيشكلون امتداد الرسالة من بعده.
وفي السنة الثالثة للهجرة في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك(7) (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، جاء الوعد الإلهي بأن ولد الإمام الحسن (عليه السلام) ممّا بعث في نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تباشير الفرح والسرور بأن حقق الله عز وجلّ وعده وبأن ردّ كيد الأعداء من مشركي مكة، ولذلك بقدر ما كان مولد الإمام الحسن (عليه السلام) يضفي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) السعادة والبشرى، كانت زعامات قريش وأقطاب مكة تعض الأنامل وتتقطع من الغيظ والحقد لفشل المؤامرة الإعلامية ضد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)..
وكانت الولادة المباركة في المدينة المنورة حيث استقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبطه الحسن سيد شباب أهل الجنة وبدا عليه الارتياح وقام من ساعته إلى بيت الصديقة فاطمة الزهراء (عليه السلام) ونادى يا أسماء أين ولدي؟ فأسرعت به أسماء بنت عميس إلى جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وقد لفّ الحسن (عليه السلام) في خرقة، فقدمته إلى جدّه (صلّى الله عليه وآله) فاستقبله والبشرى تلوح على وجهه، فأخذ ابنه برفق، وضمه إليه وراح يلثمه بعطفه وحنانه، ثم بدأ يقطر أذنيه بالإيمان، ويعصر في روحه آيات التكبير والتهليل، فكان غذاؤه الأول: الله أكبر.. الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. أذّن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أذنه اليمنى ثم أقام في اليسرى، لتكون هذه الكلمات القصار، الكثيرة والكبيرة بمحتوياتها أنشودة الإمام أبي محمد الحسن (عليه السلام) في كل مراحل حياته يحاول غرسها بكل ما لديه من جهد في أعماق النفوس لتكون أنشودة الحياة جيلاً بعد جيل. وجاء الإمام علي (عليه السلام) إلى فاطمة وسألها عن اسم المولود، أجابته: ما كنت لأسبقك، فأردف عليّ (عليه السلام) قائلاً: وما كنت لأسبق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجاء الإمام علي (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسأله عن اسم المولود، فأجاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! وما كنت لأسبق ربّي.
فنزل جبرائيل من السماء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال له: إن الجليل يقرؤك السلام ويقول لك اسمه حسن، فكان كذلك. ثم عق عنه وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضةً فكان وزنه درهمان وشيئاً،(8) وأمر فطلي رأسه طيباً، وسُنّت بذلك العقيقة والتصدّق بوزن الشعر وكنّاه (أبا محمد). ولا كنية له غيرها.
ألقابه:
أشهر ألقابه: التقي والزكي والسبط(9). وعرف غيرها كالسيد والمجتبى(10). والطيب والولي(11).
زوجاته:
تزوج (أم إسحاق) بنت طلحة بن عبيد الله، و(حفصة) بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، و(هند) بنت سهيل بن عمرو، وجعدة بنت الأشعث بن قيس، وهي التي أغراها معاوية بقتله فقتله بالسم.
وقد تحدث المؤرخون عن زوجات الإمام الحسن (عليه السلام) وأكثروا ومال أكثرهم إلى المبالغة في تعدادهن مبالغة لا تعتمد على أساس معقول..(12).
أولاده:
كان له خمسة عشر ولداً ما بين ذكر وأنثى وهم: زيد، أم الحسن، أم الحسين، أمهم أم بشير بنت أبي مسعود الخزرجية. الحسن، أمه خولة بنت منصور الفزارية. عمر والقاسم وعبد الله، أمهم أم أولد. عبد الرحمن، أمه أم ولد. الحسين الملقب بالأشرم وطلحة وفاطمة أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي. أم عبد الله وفاطمة وأم سلمة ورقية، لأمهات شتى ولم يعقب منهم غير الحسن وزيد(13).
أوصافه:
(لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الحسن بن عليّ (عليهما السلام) خلقاً وخُلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً).
بهذا وصفه واصفوه. وقالوا: (كان أبيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، كان عنقه إبريق فضة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكراديس، دقيق المسربة، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً(14). أو كما قال الشاعر:

ما دب في فطن الأوهام من حسنٍ * * * إلا وكان له الحظ الخصوصيّ
كأنّ جبهته من تحت طرّته * * * بدر يتوجّه الليل البهيميّ
قد جلّ عن طيب أهل الأرض عنبره * * * ومسكه فهو الطيب السماويّ

فالإمام الحسن (عليه السلام) حاز على صفات جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خَلقِه وخُلُقِه حتى أن المسلمين إذا اشتاقوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى ابنه الحسن (عليه السلام) يقول أبو جحيفة: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكان الحسن بن علي يشبهه)(15). ويقول أنس: (لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الحسن بن علي (عليه السلام)(16) وقد أورد الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد أنه: كان الحسن بن علي (عليهما السلام) يشبه النبي (صلّى الله عليه وآله) من صدره إلى رأسه والحسين يشبهه (صلّى الله عليه وآله) من صدره إلى رجليه).
وقال أيضاً: (كان الحسن (عليه السلام) أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً).
وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للحسن ذات مرة: (أشبهت خَلقي وخُلقي)(17) وقال واصل بن عطاء: (كان الحسن بن علي (عليهما السلام)، عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك)(18).
أخلاقه:
كان في شمائله آية الإنسانية الفضلى، ما رآه أحد إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه أن ينهي حديثه أو يسكت.
وقال محمد بن إسحاق: (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ما بلغ الحسن بن عليّ. كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس).
ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى، فما من خلق الله أحد إلا نزل ومشى حتى سعد بن أبي وقاص، فقد نزل ومشى إلى جنبه.
وروى المؤرخون عن تواضعه وكرم أخلاقه عشرات الروايات فمن ذلك انه اجتاز على جماعة من الفقراء وقد جلسوا على التراب يأكلون خبزاً كان معهم فدعوه إلى مشاركتهم فجلس معهم وقال: (إن الله لا يحب المتكبرين، ولما فرغوا من الأكل دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم وأغدق عليهم من عطائه، ومرة أخرى مر على فقراء يأكلون فدعوه إلى مشاركتهم، فنزل عن راحلته وأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وأعطاهم، وقال: (اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد ما أعطيناهم). وكان من كرمه أنه أتاه رجل في حاجة، فقال له: (أكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا). قال: فرفعها إليه فأضعفها له، فقال له بعض جلسائه: (ما كان أعظم بركة الرفعة عليه يا ابن رسول الله!). فقال: (بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً. أما علمتم أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء لا يعلم بما يرجع من حاجته ابكأية الرد، أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فإن ذلك أعظم ممّا نال من معروفك).
وأعطى شاعراً فقال له رجل من جلسائه: (سبحان الله أتعطي شاعراً يعصى الرحمن ويقول البهتان!). فقال: (يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر).
وسأله رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: (ائت بحمال يحمل لك). فأتى بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: هذا كرى الحمال).
وجاءه بعض الأعراب. فقال: (أعطوه ما في الخزانة!.. فوجد فيها عشرون ألف درهم. فدفعت إليه، فقال الإعرابي: (يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي فقال الإمام الحسن (عليه السلام):

نحن أناس نوالنا خضل * * * يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا * * * خوفاً على ماء وجه من يسل(19)

ومرّ به رجل من أهل الشام ممن غذّاهم معاوية بالحقد والكراهية لعليّ وآل عليّ فجعل للإمام الحسن (عليه السلام) السب والشتم والإمام ساكت لا يتكلم وهو يعلم بأن الشامي لا يعرف عليّا وآل عليّ إلا من خلال الصورة التي كان معاوية بن هند يصورهم بها وعندما انتهى الشامي من حديثه بما فيه من حلف وفظاظة ابتسم إليه وتكلم معه بأسلوب هادئ ينم عن سماحة وكرم متجاهلاً كل ما سمع وما رأى، وقال: (أيها الشامي أظنك غريباً فلو أنك سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، وإن كنت جائعاً أطعمناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، أو طريداً آويناك)، ومضى يتحدث إلى الشامي بهذا الأسلوب الذي يفيض بالعطف والرحمة حتى ذهل الشامي وسيطر عليه الحياء والخجل وجعل يتململ بين يديه يطلب عفوه وصفحه ويقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهكذا كان في جميع مواقفه مثالاً كريماً للخلق الإسلامي الرفيع الذي دعا إليه القرآن الكريم بقوله تعالي: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(20). لقد قابل جميع ما كان يوجه إليه من الأذى والمكروه من أخصامه وحساده بالصبر والصفح الجميل حتى اعترف له ألد أخصامه وأنكرهم بذلك، فقد روى المؤرخون أن مروان بن الحكم أسرع إلى حمل جنازته ومشى مع المشيعين والكآبة بادية عليه، فقال له أبو عبد الله الحسين (عليه السلام): (إنك لتحمل جنازته وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ، فقال: لقد كنت أفعل ذلك مع من يوازي حمله الجبال.
ورأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة فقال له: (ما حملك على هذا؟) قال: (إني استحي منه أن آكل ولا أطعمه). فقال له الحسن (عليه السلام): (لا تبرح مكانك حتى آتيك). فذهب إلى سيده، فاشتراه واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه، وملّكه الحائط.
وسأله رجل أن يعطيه شيئاً فقال له: (إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة)(21)، فقال له: ما جئتك إلا في إحداهن فأعطاه مائة دينار، ثم اتجه الرجل إلى الحسين (عليه السلام) فأعطاه تسعة وتسعين ديناراً وكره أن يساوي أخاه في العطاء، ثم ذهب الرجل إلى عبد الله بن جعفر فأعطاه أقل منهما ولما قص عليه ما جرى معهما، قال له: ويحك أتريد أن تجعلني مثلهما إنهما غرا العلم والمال غراً.
ويروي المؤرخون عن سخائه أيضاً أن جماعة من الأنصار كانوا يملكون بستاناً يتعايشون منه فاحتاجوا لبيعه فاشتراه منهم بأربعمائة ألف، ثم أصابتهم ضائقة بعد ذلك اضطرتهم لسؤال الناس، فرد عليهم البستان حتى لا يسألوا أحداً شيئاً.
وروى المؤرخون صوراً كثيرة من ألوان بره وكرمه ومعروفه التي كان يغرق بها على السائلين والفقراء والمحرومين لإنقاذهم ممّا كانوا يعانون من آلام الحاجة والبؤس ابتغاء وجه الله وثوابه لا للجاه ولا للدنيا ولا تدعيم ملك وسلطان ولا لمكافأة على المديح والثناء كما كان يصنع معاوية وغيره من الأمويين والعباسيين، ومن يتلذذون بالمديح والإطراء والجاه والسلطان. وأخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها، وهذا مقدار يسير من أحاديث الرواة عن كرمه ومعروفه وإن كان الكثير ممّا يرويه الرواة يخضع للنقد والحساب، إلا أن القليل المتفق عليه بينهم يكفي لأن يجعله في القمة بين أجواد العرب الذين لا يرون للمال وزناً ولا يحسبون له حساباً.
عبادته:
إن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم وكان إذا حجّ حجّ ماشياً وربما مشى حافياً، ولا يمر في شيءٍ من أحواله إلا ذكر الله سبحانه وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقاً وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه ويقول: الهي ضيفك ببابك يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم)(22).
وقيل أنه حج خمساً وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه، وإذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغش عليه منها، وإذا ذك