المحتويات
2015/05/17
 
11342
الإمام الحسن السبط سيرة وتاريخ

الإمام الحسن السبط سيرة وتاريخ

الإمام الحسن السبط عليه السلام سيرة وتاريخ

تأليف: سعيد كاظم العذاري
تقديم: مركز الرسالة

الفهرست

مقدمة المركز

المقدِّمة
الفصل الأوّل: الإمام الحسن عليه السلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
الفصل الثاني: الإمام الحسن عليه السلام في عهد الثلاثة
الفصل الثالث: الإمام الحسن عليه السلام في عهد أمير المؤمنين عليه السلام
الفصل الرابع: من خصائص الإمام الحسن عليه السلام القيادية
الفصل الخامس: خلافة الإمام الحسن عليه السلام
المبحث الأوّل/ المبايعة للإمام الحسن عليه السلام بالخلافة:
المبحث الثاني/ نتائج الصلح وآثاره
المبحث الثالث/ الإمام الحسن عليه السلام من الصلح حتى الشهادة

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.. وبعد.
تمثّل الرسالة الإسلامية بكل تجلّياتها الأُسس التي يبتنىٰ عليها المجتمع الإسلامي الصحيح، والتي يرتكز عليها توازن الحياة في نفس الإنسان وعلاقته بمجتمعه وبالحياة كلّها، والانفتاح الفكري والعملي على تلك الرسالة لا يكون من دون الارتباط بالقدوة الرمز من خلال التأثير المباشر بما جسدته سيرته من صور مشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف. قدوة يعيش الإسلام بروحه وعقله، ويمتلك جميع القيم الإسلامية، ويستوعب جميع امتدادات رسالة التوحيد، مع الفهم الثاقب الذي لا يشتبه في شيء منها، بحيث يكون رسالة تتحرّك على الأرض، وعلماً يتفجّر على الدوام، وحقّاً لا باطل فيه، ووعياً للرسالة وأهدافها ومقاصدها وكأنّه قرآن ناطق ليدلّ على معالم الطريق. ولا خلاف بأن تلك الصفات قد تجسّدت كلّها في شخصية الرسول القائد صلى الله عليه وآله، القدوة الفذّ الذي وقفت السماء لتؤيّده بكل قوّة، حتىٰ استطاع من خلال ذلك القضاء على كل ما خالف التصور الإسلامي الصحيح للرسالة في حياته الشريفة، ولم يكن هناك ثمة اختلاف كبير بين أصحابه صلى الله عليه وآله بفضل شخصيته الفذّة، ووحدة المرجعية آنذاك المتمثّلة في شخصه العظيم في كل شيء، فكان مناراً للهدى في كل حركاته وسكناته صلى الله عليه وآله؛ ولهذا لم يُظْهِر بعض أصحابه في حياته ما أظهروه بعد وفاته صلى الله عليه وآله، لعلمهم بأنّ إشارةً واحدةً منه كافيةٌ لإسقاطهم على مرِّ الجديدين. والدين الخاتِم الذي تكفّل ببيان شخص القدوة، وحمّله ثقل الرسالة ومسؤوليتها، وأمر الناس ـ كل الناس ـ باتّباعه، وحذّرهم من معصيته، لأجل الحفاظ على رسالته الفتية لا يعقل أن يهمل تلك الرسالة بعده، ولا يحافظ على مستقبلها، ولا يعيّن من سيكمل تلك المسيرة، ويهدم كل ما بناه القدوة بترك الأمر للناس في اختيار القدوة الجديد كيفما يشاءون حتىٰ لو لم يمتلك الحدّ الأدنى من شخصية الرسول القائد صلى الله عليه وآله. وإذا كنّا نربأ بالقائد الحكيم أن يهمل أمر رعيته، فحاشا لله أن يهملا ذلك ولرسوله، ومن هنا لم يكن أحد من الصحابة يستفسر عن هذا الأمر الخطير بعد سماعهم وفي مواطن شتّى من سيخلف النبي صلى الله عليه وآله في أُمته، بدءاً من يوم الدار وانتهاءً بمرضه الأخير الذي توفي فيه صلى الله عليه وآله. نعم.. كانوا يعرفون قادتهم بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وإنّهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وإنّهم مع القرآن الكريم ثقلان لا يفترقان حتىٰ يردا على النبي الحوض، وأنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى، وانهم كباب حطّة من دخله غفر له، وإن من مات ولم يعرف إمام زمانه منهم، أو لم تكن له بيعة لأحدهم مات ميتة جاهلية، وإن الأرض لا تخلو منهم طرفة عين، وإنهم حجج الله على عباده، وأُمناؤه على وحيه، وهم من أعلى الله تعالى ذكرهم، وأمر بولايتهم، وأوجب الصلاة عليهم، وفرض مودتهم، ومن كانوا من النبي والنبي منهم صلّى الله عليه وعليهم.
ترى فمن عساهم أن يكونوا غير من قال الله تعالى فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). بلى.. إنهم عليهم السلام أصحاب الكساء الخيبري وكفىٰ.
وبهذا يمكننا الاقتراب من معالم شخصية من نريد الحديث عنه من أهل البيت عليهم السلام وهو الإمام السبط الحسن عليه السلام، إذ لابدّ وأن تكون شخصيته مجسّدة لعناصر شخصية جده المصطفىٰ صلى الله عليه وآله، وأبعاد شخصية صاحب الولاية الكبرى أمير المؤمنين عليه السلام، وروحانية سيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد وجدنا السبط الأكبر عليه السلام يمثل الطهارة والنقاء في عقله وقلبه وحركته وقوله وفعله، فكان لا يشتكي، ولا يسخط، ولا يبرم حتىٰ من أعدائه، كان حلماً وكرماً وزهداً وتقوى، وكان علماً يتفجّر، فإذا نطق جرت الموعظة والحكمة على لسانه عفواً، وإذا سكت فبلا عيّ بل عن فكر وتأمّل، وكان صلوات الله عليه لا يقول ما لا يفعل، بل يفعل ما يقول وما لا يقول، وكأنه عليه السلام يريد للفعل أن يتحدّث عن نفسه لأنه أبلغ في النفوس من كل واعظ وخطيب. ومن معالم تلك الشخصية الفذّة الرمز أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غرس في شخصية سبطه الأكبر هيبته وسؤدده، حتىٰ أنه عليه السلام كان إذا جلس بباب داره انقطع الطريق من المارة هيبة له، وكان عليه السلام يحجّ ماشياً فإذا رآه الصحابة لم يملكوا أنفسهم إلاّ أن يترجّلوا، ويسيروا بين يديه ومن خلفه إجلالاً ومهابة له. لقد أكّدت سيرة الإمام الحسن عليه السلام شرعية إمامته وموقعها في حركة الواقع حتىٰ لم تعد بحاجة إلى تلك النصوص الكثيرة التي ألمحنا إلى بعضها، وذلك من خلال الفرص المتاحة له سواء كان في موقع السلطة أو في خارجها، إذ كان هادياً ومعلّماً ومرشداً وناصحاً لكل خير مع الانفتاح على شرائح المجتمع كلها انطلاقاً من موقع القدوة والرمز، الأمر الذي كان يشكّل أكبر خطورة على مطامح ابن آكلة الأكباد في التخطيط لمستقبل السلطة من بعده، فكان المدبّر لفاجعة سم الحسن عليه السلام وشهادته. والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ قد سلّط الأضواء على بعض الجوانب المهمة في حياة إمامنا السبط الحسن عليه السلام بعبارات واضحة مختصرة فسهّل بهذا مهمة الدخول إلى عالمه الأقدس، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّله منه، ويمهّد سبل الانتفاع به، ويجزل المثوبة لمؤلّفه إنّه سميع الدعاء.

مركز الرسالة

المقدِّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وبعد:
جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة للرسالات السماوية من أجل إقرار المنهج الإلهي في الواقع الإنساني، وتحقيق مفاهيمه وقيمه في صور عملية واقعية تترجم فيها الأفكار والنصوص إلى مشاعر وأوضاع وممارسات وارتباطات في واقع الحياة الإنسانية.
وقد جسّد رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك في أقواله وأفعاله وسيرته، فجعل المفاهيم والقيم حقيقةً واضحة ليقتدي بها المسلمون والناس جميعاً ويتوجّهوا في مسيرتهم نحو التكامل والسموّ والارتقاء، وترك فيهم أئمة وقادةٍ من أهل بيته عليهم السلام ليكونوا قدوة للأجيال في جميع مراحل الحركة الإنسانية.
وكان الإمام الحسن عليه السلام عنوانا مضيئاً في حياة الإنسانية، ومعلماً شامخاً في حركة التاريخ والمسيرة الإنسانية، نطق بتطهيره الوحي، ونطق بفضائله ومقاماته النبي، ولهج بذكره المسلمون من جميع المذاهب، وهو علم الهدى وقدوة المتّقين، عرف بالعلم والحكمة والإخلاص والوفاء والصدق والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية. استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله منذ اللحظات الأولى من ولادته فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وسمّاه بهذا الإسم، وهو اسم لم يكن معروفاً في الجاهلية، وعقّ عنه وحلق شعره، واستمرّ على ملازمته ورعايته وتعليمه وتربيته، وكان يوجّه أنظار المسلمين إلى فضائله ومقاماته. وهكذا كان السبط الأكبر ترعرع في الأجواء النبوية يستمع الوحي والحديث النبوي ويتابع حركات جدّه وسكناته؛ فكان منهجه في حياته منهجاً إيمانياً خالصاً.
وقف عليه السلام مسانداً للحق منذ صباه، وعاش الأجواء السياسية التي غُمطت فيها حقوق أهل البيت عليهم السلام وضح النهار، ابتداءً من اقصاء أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام عن حقه في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، وانتهاءً بموقف الطلقاء منه في خلافته عليه السلام. ومع كل ذلك كان حريصاً على رفعة الإسلام وسموِّه متعالياً على جراحاته، جاعلاً مصلحة الإسلام هي العليا في سياسته والحاكمة على جميع خطواته، حتى قاده ذلك إلى أن يكون الشجى المعترض في حلق معاوية حتى بعد تنازله عن السلطة؛ لكي لا تفهم الأمة أنه عليه السلام وجد الباغي للخلافة أهلاً فسلّمها إليه، وهكذا كان السبط ميزان عدلٍ للحكم على أفكار وممارسات السلطة الباغية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؛ لأنه مرجع الأمة وإمامها الحق في زمانه.
ولهذا خطّطت السلطة لتغييبه بدسّ السمّ إليه، فاستشهد مسموماً مظلوماً بعد أن أدّى مسؤوليّاته في بناء قاعدة شعبية تواصل مسيرة التكامل والسموّ بقيادة وإمامة ثالث أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وسوف نقف في هذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ على معالم شخصية الإمام الحسن السبط عليه السلام مع استجلاء صفحات سيرته العطرة وتاريخه المشرق بالتضحية والعطاء.

الفصل الأوّل: الإمام الحسن عليه السلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله

ولد الإمام الحسن عليه السلام في حياة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وعاش في ظلّ رعايته وتربيته سبع سنوات وستّة أشهر، وكانت هذه الفترة كافية للسموّ والتكامل والارتقاء إلى أعلى قمم الإيمان والتقوى والصلاح. حيث تلقّى رعاية خاصّة من جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ابتدأت من اللحظات الأولى لولادته. حيث أذّن رسول الله صلى الله عليه وآله في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ولهذه الممارسة نتائج إيجابية على شخصية الإنسان المستقبلية كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (من ولد له مولود فيؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في اليسرى؛ فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم)(1). ومن الطبيعي أن تصل هذه العصمة إلى قمّتها حينما يكون رسول الله صلى الله عليه وآله هو من يفعل ذلك، وبمن؟ بسبطه ابن علي وفاطمة صلوات الله عليهم. وهكذا أحيط الحسن عليه السلام منذ نعومة أظفاره بجميع مقوّمات التربية والتعليم والرعاية النفسية والروحية؛ فأصبح بهذه المقوّمات ـ ومن قبلها الرعاية الإلهيّة ـ معصوماً بإرادته.
التقدير والتكريم والاهتمام: دلّت الدراسات العلمية والنفسية على دور التقدير والتكريم في مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان في جميع مقوّماتها الفكرية والعاطفية والسلوكية، وقد ثبت (أنّ نموّ الطفل متكيّفاً تكيّفاً حسناً وكينونته راشداً صالحاً يتوقّف على ما إذا كان الطفل محبوباً مقبولاً شاعراً بالاطمئنان في البيت)(2). وكلّما وجد الطفل التقدير والاهتمام والتكريم كان منقاداً لمن يقدّره ويهتمّ به ويكرّمه. ويتوقّف تأثير ذلك على شخصيّة المربّي وشخصية المراد تربيته والمحيط الاجتماعي الذي يعيشان فيه، وفي مقامنا هذا نرى أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد تلقّى ذلك من قبل جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله، في مواقع عديدة أمام مرأى ومسمع الصحابة، وكلّ ذلك أسهم ـ مع بقيّة المقوّمات على أن يكون الإمام عليه السلام معصوما بإرادته التي تطابقت مع الإرادة الإلهيّة، فالله تعالى هيّأ هذه المقوّمات وهي الوراثة الصالحة والتربية الصالحة والرعاية الروحية والنفسية. وهذا النوع من الرعاية تعدّى رعاية الجدّ لحفيده، وتعدّى الرعاية العاطفية المحضة بل كانت مظاهرها العديدة تنبيهاً للأمة على دور الإمام الحسن عليه السلام الريادي ودوره كقدوة وأسوة وإمام مفترض الطاعة، ولولا هذا الإشعار لأمكن له صلى الله عليه وآله أن يقدّره ويكرّمه بشكل آخر كما يفعل الأجداد والآباء، وقد تجلّى ذلك في ممارسات عديدة.
عن البرّاء بن عازب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله حامل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عاتقه وهو يقول: اللهمّ إنّي أحبّ حسناً فأحبّه)(3). فقد أشار صلى الله عليه وآله إلى هذا الحبّ وهو حامل الإمام الحسن عليه السلام على عاتقه؛ ليُشْعِر المسلمين بأهمية وضرورة هذا الحبّ؛ وهو الذي لا ينطق عن الهوى، فهو حبّ عقائدي يفرض على المسلمين أن يقتدوا بهذا المحبوب المكرّم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعن جابر قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهو يقول: نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما)(4).
وعن عبدالله بن مسعود، قال: (حمل رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين على ظهره، الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى، ثمّ مشى وقال: نعم المطيّ مطيّكما، ونعم الراكبان أنتما وأبوكما خير منكما)(5).
وهذه الممارسة قد يستهجنها البعض في تلك المرحلة القريبة من الجاهلية، ولكنها مداليل عظيمة تبيّن عظمة هذين السبطين من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله؛ فهي ليست ممارسة عاطفية محضة؛ بل هي ممارسة تربوية لتربية المسلمين على أهميّة هذين السبطين في الحياة الإسلامية والإنسانية؛ هذه الأهمية دفعت برسول الله صلى الله عليه وآله إلى أداء هذه الممارسة. ليوجه أنظار الصحابة إلى الدور الذي سيقوم به الحسن عليه السلام بعد رحيل جدّه وأبيه.
وفي مقام آخر نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يقطع خطبته وينزل عن منبره ليحتضن الحسن والحسين عليهما السلام ويأخذهما معه إلى المنبر؛ لكي يستشعر الصحابة ويستشعر المسلمون مقام هذين السبطين. قال ابن كثير: (وقد ثبت في الحديث أنّه عليه السلام بينما هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتظنهما وأخذهما معه إلى المنبر، وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(6)، إنّي رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما، ثمّ قال: إنّكم لمن روح الله وإنّكم لتبجلون وتحبّبون)(7).
ومن مصاديق ومظاهر الاهتمام ما ورد عن أبي هريرة أنّه قال لمروان بن الحكم: (أشهد لخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله حتى إذ كنّا ببعض الطريق سمع رسول الله صلى الله عليه وآله صوت الحسن والحسين وهما يبكيان مع أمّهما، فأسرع السير حتى أتاهما فسمعته يقول لها: ما شأن ابْنَيَّ، فقالت: العطش، قال: فاختلف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى شنة يبتغي فيها ماء، وكان الماء يومئذ أغدار، والناس يريدون الماء، فنادى: هل أحد منكم معه ماء؟ فلم يبقَ أحد أخلف بيده إلى كلاَّبه يبتغي الماء في شنة، فلم يجد أحد منهم قطرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ناوليني أحدهما، فناولته إيّاه من تحت الخدر، فأخذه فضمّه إلى صدره وهو يطغو ما يسكت، فأدلع له لسانه فجعل يمصّه حتى هدأ أو سكن، فلم أسمع له بكاء، والآخر يبكي كما هو ما يسكت، فقال: ناوليني الآخر، فناولته إيّاه ففعل به كذلك، فسكتا)(8). ومن خلال هذه الرواية نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد أشبع حاجات الحسن والحسين بنفسه، وأبدى عناية واهتماما بهما أمام مرأى الصحابة ليبيّن عظمة هذين السبطين ومكانتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله.
الحُبّ: الحاجة إلى المحبّة أو الشعور بها حاجة أساسية للإنسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة، والحبّ الذي يشعر به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب شخصيّته الفكرية والعاطفية والسلوكية، ويكون تأثير المحبّة أكثر إيجابية حينما يكون المحبّ هو رسول الله صلى الله عليه وآله ومن فوقه الله تعالى، ويكون المحبوب هو الحسن عليه السلام المنحدر من سلالة طاهرة، والمهيّأ من قبل الله تعالى ورسوله ليكون إماماً مفترض الطاعة وحجّة على الإنسانية إلى يوم القيامة. وقد تواترت الروايات على تأكيد هذا الحبّ بعد التصريح به من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله في مناسبات عديدة.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال للحسن: (اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه وأحبب من يحبّه)(9).
وعن أسامة بن زيد قال: (طرقت النبي صلى الله عليه وآله ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي صلى الله عليه وآله وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو، فلمّا فرغت من حاجتي، قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه، فقال: هذان إبناي وإبنا إبنتي اللهمّ إنّي أحبُّهما فأحبَّهُما واحبب من يحبُّهما)(10).
وعن سلمان رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله للحسن والحسين: من أحبّهما أحببته، ومن أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله جنّات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله عذاب جهنّم وله عذاب مقيم)(11).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ الحسن والحسين، فقال: من أحبّ هذين، وأباهما وأمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة)(12). والدعوة لحبّ أهل البيت عليهم السلام دعوة رسالية لتوجيه المسلمين إلى الارتباط بهم فكرياً وعاطفياً ومن ثمّ الاقتداء بهم والالتزام بأوامرهم وتوجيهاتهم لتكون مفاهيمهم وقيمهم هي الحاكمة على حركة الإنسان والمجتمع المسلم.
المناغاة والتربية البدنية: تُعدُّ المناغاة في مراحل الإنسان الأولى من الممارسات الضرورية له ولهذا نرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد مارسها مع حفيده الحسن عليه السلام فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقّص الحسن والحسين عليهما السلام ويقول: حزقّة حزقّة ترقّ عين بقّة. وفي رواية أنّه أخذ يديه جميعاً بكتفي الحسن والحسين وقَدَماهما على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله ويقول: ترقّ عين بقّة(13). وكانت فاطمة عليها السلام ترقص ابنها حسنا وتقول:

(أشبه أباك يا حسن * * * واخلع عن الحقّ الرسن
واعبد إلها ذا منن * * * ولا توال ذا الإحن)

وكانت أمّ سلمة ترقّص الحسن وتقول:

(بأبي ابن علي * * * أنت بالخير مليّ
كن كأسنان حليّ * * * كن ككبش الحولي)(14)

التربية والتعليم: التربية والتعليم من المسؤوليّات العظيمة التي تساهم في إعداد الإنسان للدخول في الحياة الاجتماعية؛ ليكون عنصراً فعّالاً في إصلاحها وبنائها، والأسرة هي نقطة البدء التي تتبنّى إنشاء وتنشئة الشخصية بجميع مقوّماتها: الفكرية والعاطفية والسلوكية، وهي نقطة البدء المؤثّرة في جميع مراحل الحياة إيجاباً وسلباً؛ وفي مقامنا هذا نجد إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أدّى مسؤوليّته في أسرته ومجتمعه؛ فقد ربّى هذه الأسرة الكريمة على أساس مفاهيم وقيم القرآن، وقد أبدى عناية تربوية وتعليمية استثنائية وعظيمة لعظم الشخصّيات المراد تربيتها وتعليمها لأنّها عدل للقرآن الكريم ولأنّها القرآن الناطق، ومنها الإمام الحسن عليه السلام، فقد كان يصطحبه إلى المسجد وإلى المواقع المتعدّدة التي يتواجد فيها صلى الله عليه وآله، ومن يتتبع الروايات وأخبار المؤرّخين يجد أنّ أسرة علي وفاطمة عليهما السلام أقرب الأسر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من حيث اللقاءات والزيارات، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لقاءاته مع هذه الأسرة الكريمة تكاد تكون أكثر من لقاءاته مع زوجاته؛ فالإمام علي عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام كان يصحبونه إلى المسجد أو يلتقون به في المسجد، إضافة إلى اللقاءات المستمرّة في دارهم تارة وفي دار رسول الله صلى الله عليه وآله تارة أخرى؛ ولهذا كانت الصحبة أدوم وأكثر نوعاً وكمّاً، وكان تأثير التربية واضحاً على أفراد هذه الأسرة الكريمة لدوام ارتباطهم برسول الله صلى الله عليه وآله ودوام تلقّيهم لتوجيهاته وإرشاداته وتعاليمه. وقد دلّت الأخبار على هذا القرب المكاني، فقد ورد أنّ عليّاً عليه السلام أصاب منزلاً مستأخراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله قليلاً، فقال له صلى الله عليه وآله: (إنّي أريد أن أحوّلك إليّ). فحوّله بجنبه(15). ولم تنقطع العلاقة بهذه الأسرة يوماً ما، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى به ركعتين ثمّ يأتي فاطمة، ثمّ يأتي أزواجه(16). ومن الطبيعي أن يكون الحسن عليه السلام قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله ومصاحباً له في أغلب أوقاته، ومن خلال هذا القرب وهذه المصاحبة أحاط الإمام الحسن عليه السلام بالعلوم والمعارف والمفاهيم والقيم، من طرق شتّى، ويأتي التسديد الإلهي والإلهام في طليعتها؛ باعتباره من الصفوة المختارة من قبل الله عزّ وجلّ، زيادة على التعلّم المباشر والاستماع إلى توجيهات رسول الله صلى الله عليه وآله مباشرة، وقد صرّح الإمام الحسن عليه السلام بذلك وهذا واضح من خلال أقواله وتصريحاته، فتارة يقول: (علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله)، وأخرى يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله).
ففي مجال الدعاء ورد عنه عليه السلام أنّه قال: (علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله كلمات أقولهنّ في الوتر: اللهمّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذلّ من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت)(17).
وفي مجال العبادة وما يتعلّق بها من مندوبات ورد عن عمير بن مأمون، قال: (سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من صلى الغداة فجلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار)(18).
وفي المجال الاجتماعي والأخلاقي يجيب عليه السلام عن تساؤلات البعض، فقد ورد عن أبي الحوراء، قال: (قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: مثل من كنت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وما عقلت عنه؟ قال: عقلت عنه أنّي سمعته يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الشرّ ريبة، والخير طمأنينة، وعقلت عنه الصلوات الخمس، وكلمات أقولهنّ عند انقضائهنّ قال: اللهمّ اهدني...)(19). وقال عليه السلام: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيّب بأجود ما نجد، وأن نضحّي بأسمن ما نجد، البقرة عن سبعة، والجزور عن عشرة، وأن نظهر التكبير، وعلينا السكينة والوقار)(20).
وفي مجال الفقه والتشريع كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتدخّل ـ أحياناً ـ ليعلّم الحسن عليه السلام بعض الأحكام عن طريق الموقف العملي، فقد ورد عن ربيعة بن شيبان قال: (قلت للحسن بن علي رضي الله عنه: ما تعقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: صعدت معه غرفة الصدقة، فأخذت تمرة فلكتها، فقال النبي صلى الله عليه وآله: القها فإنّا لا تحلّ لنا الصدقة)(21).
وفي مجال الثواب والتعويض يوم القيامة، قال الأصبغ بن نباتة: (دخلت مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحسن بن علي نعوده، فقال له عليّ رضي الله عنه: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال: أصبحت بحمد الله بارئاً، قال: كذلك إن شاء الله، ثمّ قال الحسن رضي الله عنه: أسندوني، فأسنده علي رضي الله عنه إلى صدره، فقال: سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان، ولا ينصب لهم ميزان، يُصبّ عليهم الأجر صبّا)(22). وكان الحسن عليه السلام يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن سبع سنين، فيسمع الوحي فيحفظه فيأتي أمّه فيلقي إليها ما حفظه، وكلّما دخل عليّ عليه السلام وجد عندها علماً بالتنزيل، فيسألها عن ذلك، فتقول: (من ولدك الحسن)(23). وهذا الحضور وفي عمر مبكّر يؤهّل صاحبه لأنّ يكون قمّة في العلم والمعرفة، فقد كان الحسن عليه السلام يستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله برغبته ويصغي إليه فيحفظ ما يقوله من آيات قرآنية ومن أحاديث شريفة، ولم يكتف بهذا الحفظ، بل يلقي إلى أمّه فاطمة الزهراء عليها السلام ما حفظه، فتأخذ به مسلمة بصحّة صدوره، لمعرفتها وثقتها بالقدرة العلمية لولدها لأنّه ذو شأن عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله. وكان الحسن عليه السلام يبادر رسول الله صلى الله عليه وآله بالأسئلة ليتعلّم منه ما يحتاجه من علوم ومعارف في مختلف جوانب الحياة الإنسانية ومنها الارتباط الروحي برسول الله صلى الله عليه وآله وآثاره الإيجابية. قال الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام (بينا الحسن بن علي عليهما السلام ذات يوم في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله إذ رفع رأسه فقال: يا أبة ما لمن زارك بعد موتك، قال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة)(24).
حضور الحسنين عليهما السلام بيعة الرضوان: من أساسيّات المنهج الإسلامي الاعتماد على الأمّة في إنجاح المسيرة التكاملية لحركة الإسلام الواقعية، ومسؤوليّة إنجاح المسيرة تكليف عام يشمل جميع المكلّفين القادرين على العمل والنشاط والفاعلية، ومن هنا جاءت البيعة تعبيراً عن توزيع المسؤولية بين القائد وبين الأمّة، وكان لها دور كبير في انطلاقة المسلمين في العهد النبوي، ولأهميّتها عمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله، وطلب من المسلمين أن يبايعوه في مواقف عديدة ومنها بيعة الرضوان، وكان جابر بن عبد الله يقول: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفرّ)(25). ولا فرق كبير بين الاثنين، فمن يبايع على الموت يكون قد بايع على عدم الفرار؛ لأنّ الإنسان غالباً ما يفرّ من المعركة إن أصابه الخوف من الموت؛ فهي بيعة على الجهاد والثبات والتضحية.
وقد شارك كبار الصحابة في هذه البيعة كما شارك في البيعة جمع من الصحابة الشباب، ولم يشارك من صغار السنّ إلاّ الحسن والحسين عليهما السلام كما ورد في قول الإمام محمد الجواد عليه السلام مخاطباً المأمون والعباسيين في أحد المجالس: (أما علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنّه غيره. وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الستّ سنين، ولم يبايع صبيّاً غيرهما ...)(26). وبيعتهما لرسول الله صلى الله عليه وآله تعبّر عن النضوج والمعرفة الرشيدة والإرادة الصلبة لمن يحسنون اليقين بالله تعالى والتوكّل عليه والاتّجاه نحوه، ويحسنون العمل والسلوك والتصرّف مع القائد ومع المسلمين، وتعبّر تلك البيعة عن الشجاعة الفائقة والثبات المنقطع النظير على تكاليف الرسالة؛ وهي ليست بيعة يراد منها التشجيع، ولا بيعة عاطفية؛ بل هي بيعة رسالية حقيقية بين القائد وأتباعه لا بين الجدّ وأحفاده، وهي بيعة يراد منها توجيه أنظار وعقول المسلمين إلى عظم شخصية الحسن والحسين عليهما السلام وإلى دورهم الريادي في المجتمع الإنساني؛ لأنّ ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يكون عبثاً بل حكمة يراد منها أمر هام في حياة المسلمين.
شهادة الإمام الحسن عليه السلام على كتاب ثقيف: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ثقيف كتاباً بيّن فيه بعض الأمور المتعلّقة بحقوقهم، وقد جاء فيه: (هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله لثقيف، كتب: أنّ لهم ذمّة الله الذي لا إله إلاّ هو، وذمّة محمد بن عبدالله النبي، على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة: أنّ واديهم حرام محرّم لله كلّه: عضاهه، وصيده وظلم فيه، وشرق فيه أو إساءة، وثقيف أحقّ الناس بوجّ، ولا يعبر طائعهم، ولا يدخله عليهم أحد من المسلمين يغلبهم عليه ... وشهد على نسخة هذه الصحيفة: علي بن أبي طالب وحسن بن علي وحسين بن علي، وكتب نسختها لمكان الشهادة). قال أبو عبيد: (وفي هذا الحديث من الفقه: إثباته صلى الله عليه وآله شهادة الحسن والحسين)(27). واثباته صلى الله عليه وآله شهادتهما عليهما السلام وهما في ذلك السن لم يكن نابعاً عن هوى أو نزوة أو رغبة عاطفية لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله معصوم من جميع ذلك، فكلّ عمل أو ممارسة تصدر منه إنّما تصدر عن وحي يوحى وعن تسديد إلهي، بل هو إشارة واضحة إلى تكاملهما في جميع مقوّمات الشخصية، خصوصاً وأن تلك الشهادة قد جاءت في قضية مهمّة تتحدّد فيها علاقات رسول الله صلى الله عليه وآله مع ثقيف وهي من العشائر الكبيرة في عدّتها وعددها. ومن الأمور الملفتة للنظر إنّ الطرف الآخر وهو ثقيف لم يعترض على هذه الشهادة باعتبار صغر سن الحسنين عليهما السلام، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على قناعة ثقيف بأهليتهما الكاملة للشهادة وهما في هذا العمر المبكر.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب النبوي الفذ من إلفات النظر إلى تصحيح مواقف الحسن عليه السلام المستقبلية والاعتراف بسلامتها العقائدية والتشريعية، ومن هذه المواقف ـ التي سيأتي البحث عنها ـ شهادته لأمّه فاطمة عليها السلام في مسألة فدك، ومنها قوله لأبي بكر ومن ثمّ لعمر بن الخطّاب (إنزل عن منبر أبي)، فهي لم تكن شهادة صبي ولا اعتراض صبي، بل هي شهادة رسالية واعتراض رسالي يعبّر عن إدراك كامل لما يجري من أحداث ومواقف ومدى سلامتها الفكرية والشرعية.
موقف الإمام الحسن عليه السلام من أبي سفيان: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله قادة قريش على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، إلاّ أنّ قادة قريش نقضت بعض بنود الصلح بالاعتداء على خزاعة الذين كانوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وعهده، فقرّر رسول الله صلى الله عليه وآله التوجّه إلى مكّة، وحينما سمع أبو سفيان بالأمر توجّه إلى المدينة، وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله فكلّمه في تجديد العهد، فلم يردّ عليه شيئاً، ثمّ كلّم بعض الصحابة فلم يستجيبوا له، فتوجّه إلى الإمام علي عليه السلام فدخل عليه فقال: (يا أبا الحسن تمشي معي إلى ابن عمّك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً، فقال: يا أبا سفيان لقد عقد لك رسول الله عقداً لا يرجع عنه أبداً)، وكانت فاطمة عليها السلام من وراء الستر والحسن يدرج بين يديها وهو من أبناء أربعة عشر شهراً، فقال لها: (يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جدّه فيسود بكلامه العرب والعجم، فأقبل الحسن إلى أبي سفيان وضرب احدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته، ثم أنطقه الله عزّ وجلّ بأن قال: يا أبا سفيان قل: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله؛ حتى أكون شفيعاً)(28). وفي هذه الواقعة يتّضح شأن الحسن عليه السلام وإدراكه العميق للأشخاص والأحداث، فقد مارس عملية تأديب لأبي سفيان كان مستحقّاً لها لنقضه عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد دعاه إلى الإسلام لأنه العلاج الأساسي للأزمة التي حدثت، فجعل شفاعته مشروطة بإسلامه.
فضائل الإمام الحسن عليه السلام وإمامته:
أولاً ـ من القرآن الكريم:
أهل البيت عليهم السلام عنوان مضيء في حياة الإنسانية وحركة التاريخ والمسيرة الإسلامية، أراد الله تعالى لهم أن يكونوا أعلام الهدى وقدوة المتّقين ومأوى أفئدة المسلمين، وروّاد الحركة الإصلاحية والتغييرية في المسيرة الإنسانية؛ ولهذا أبدى القرآن الكريم عناية فائقة بذكر دورهم وفضائلهم وسموّ مكانتهم، وفيما يلي نستعرّض جملة من آيات القرآن الكريم التي تطرّقت إلى ذلك لكونها شاملة للإمام الحسن عليه السلام كواحد من أهل البيت عليهم السلام.
1 ـ آية التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(29): تظافرت التفاسير والروايات إلى أنّ المقصود بأهل البيت عليهم السلام هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وهم: رسول الله صلى الله عليه وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. فقد روي عن أمّ سلمة وبطرق عديدة أنّها قالت: (لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليّا وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت أمّ سلمة: ألست منهم؟ فقال: أنت إلى خير)(30). وهذه الآية الكريمة تدلّ على عصمة أهل البيت عليهم السلام ومنهم الحسن عليه السلام كما ورد في تفسيرها عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (أنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب)(31). وقال الإمام الحسن عليه السلام في بعض خطبه: (وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا، ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)(32). وآية التطهير تؤكّد العناية والرعاية الإلهيّة الخاصّة والاستثنائية وذلك بإبعادهم عن الزلل والخطأ والإنحراف وهكذا أصبح أهل البيت عليهم السلام الميزان الثابت الذي توزن به الأفكار والعواطف والممارسات، وتقوّم من خلاله الإشخاص والكيانات والأحداث والمواقف، فهم المرجع العلمي والسياسي والاجتماعي للناس جميعاً.
2 ـ آية المودّة: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)(33): أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس، قال: (لمّا نزلت هذه الآية ... قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودّتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدها)(34). وفي رواية أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قالوا: (يا رسول الله من هؤلاء الذين نودّهم؟ قال: علي وفاطمة وأبناؤهما). وعلّق القرطبي على ذلك قائلاً: (وكفى قبحاً بقول من يقول: إنّ التقرّب إلى الله بطاعته ومودّة نبيّه صلى الله عليه وآله وأهل بيته منسوخ، وقال: قال النبي صلى الله عليه وآله: من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً، ومن مات على حبّ آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس اليوم من رحمة الله، ومن مات على بغض آل محمد لم يرَ رائحة الجنّة، ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي)(35). وهذا يوجِّه العقول والقلوب نحو أهل البيت عليهم السلام ويشدّها لهم، ويؤكّد على أنّ أجر الرسالة هو محبّتهم الحقيقية، وهي دعوة للارتباط بهم فكرياً وعاطفياً وسلوكياً.
3 ـ آية الصلاة: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(36): أخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف نصلّي عليك؟ قال: (قولوا اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وآل محمد كما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)(37). والصلاة بتلك الكيفية جعلت أهل البيت عليهم السلام مناراً وقدوة للأمّة، فمنهم يتلقّى المسلمون مفاهيم العقيدة وقيم السلوك وموازين التقييم، وهذا التلقّي هو مصداقٌ واقعي للصلاة عليهم؛ لأنّ الصلاة واجبة كما ورد في آراء الكثير من العلماء، حتى قال الشافعي: (من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له)(38). وقال الديلمي: (الدعاء محجوب حتى يُصَلَّىٰ على محمد وأهل بيته)(39).
4 ـ آية آل ياسين: (سَلامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ)(40): ورد في الكثير من التفاسير: إنّ المراد من (ياسين) النبي محمد صلى الله عليه وآله(41). وورد عنه صلى الله عليه وآله أنّه قال: (إنّ الله سمّاني في القرآن بسبعة أسماء: محمّد وأحمد وطه ويس والمزمّل والمدثّر وعبدالله)(42). وتظافرت التفاسير على انّ المقصود من (آل ياسين) هم (آل محمد عليهم السلام). وعن الإمام علي عليه السلام قال: (يس محمد، ونحن آل يس)(43). وهنالك قولان في قراءة آل (يس) مفصولة:
الأوّل: إنّه آل هذا النبي المذكور وهو يدخل فيهم. والثاني: إنّهم آل محمد صلى الله عليه وآله(44). وهذا السلام الصادر من الله تعالى إلى آل رسول الله صلى الله عليه وآله هو توجيه للبشرية نحو دورهم الريادي في حركة التاريخ، وهو توجيه نحو مفاهيمهم وقيمهم وسيرتهم الممتدّة في كلّ زمان ومكان، وهو توجيه للارتباط بهم فكرياً وعاطفياً وسلوكياً.
5 ـ سورة الإنسان وآية الإطعام: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا)(45): عن ابن عباس رضي الله عنه: (أنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة ـ جارية لهما ـ أن برءا ممّا بهما: أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوا بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صياماً؛ فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك؛ فلمّا أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة)(46)