أنجال الإمام الحسن (عليه السلام)
تأليف: محمد تقي المدرسي
الفهرس
المقدمة
ميراث الشهادة
عاشوراء ملحمة تتكرر
طلائع الشهادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الهداة الميامين.
وبعد:
المدرسة الأولى والأهم للبشرية هي مدرسة التجربة، وتجربة الأجيال السابقة المتلاحقة تتراكم لتخلق للباقين زخماً فكرياً وثقافياً وعلمياً.
والذين يستمدون من التجارب التأريخية، هم الذين ينهلون من نمير التراث علماً وأدباً وعواطف خيرية، وهم الذين يسيطرون على الحياة وينعمون بحياة طيبة.
والعقل والتراث هما مصدر حركة الإنسان في الحياة. العقل يميز ما في التراث من غث و سمين، ومن حق وباطل؛ بينما التراث يغذي الإنسان حيوية، ويثير فيه الحوافز الإنسانية.
وفي تراثنا - نحن المسلمين - زخم هائل من التجارب الغنية التي تستطيع - لو استفاد الإنسان منها - صياغة حياتنا صياغة جديدة.
واليوم، ونحن نواجه تياراً زاحفاً من الثقافات الدخيلة، علينا: ان نعتمد ما لدينا من تراث ومن أفكار وتجارب؛ ليس لكي نتحدى بها الثقافات الأخرى فقط، وانما لكي نستطيع ان نتداخل معها وان نستفيد منها وان نغنيها بدورنا اغناءاً.
ومن الابعاد الحيوية في حياة البشر بُعد الدفاع. فالأمة التي تعرف كيف تدافع عن نفسها وعن قيمها وعن مصالحها هي الجديرة بالحياة.
وفي تجاربنا - نحن المسلمين - الكثير مما يمكننا ان نستفيد منه في اغناء روح الدفاع، وفي إثارة حوافز التضحية في نفوس الأجيال الصاعدة. وملحمة كربلاء التي أورثت البشرية اعظم واسمى آيات الدفاع عن القيم لا تزال هي الملهمة لنا روح الدفاع عن القيم المثلى، وفي هذه الملحمة آفاق لم تدرس - بصورة كافية -. فلقد كانت لتلك الملحمة التي وقعت في سنة احدى وستين هجرية، كانت لها تموجات هائلة في النفوس، ولا تزال تلك التموجات تهز ضمائر البشر. بيد ان تموجاتها الأولى كانت الأقرب إلى روحها هذه، فهي تعكس افاقها بصورة افضل. ونحن لا زلنا نفتقر إلى دراسة التموجات القريبة من ملحمة كربلاء؛ كثورة التوابين وحركة المختار وثورة صاحب الفخ وعشرات الثورات التي انشعبت من كربلاء، ومنها الحركات التي كانت بقيادة أولاد السبط الاول الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، الذين سجلوا ملاحم رائعة في التاريخ. ولقد كانت هذه السلالة؛ من ذرية الحسن والحسين معاً حيث انها كانت من اولاد الحسن المثنى من جهة الاب ومن فاطمة بنت الحسين من جهة الام سلام الله عليهم جميعاً. هذه الأسرة الكريمة التي كانت تنتمي إلى رسول الله؛ إلى فاطمة وعلي عليهم السلام من بُعدين؛ من الاب والام، كانت من الشجرة الميمونة المباركة التي غذت الثورات الرسالية عبر التاريخ.
ونحن اذ ندرس في هذه الاوراق المتواضعة حياة اولاد الحسن في كربلاء، فإنما لكي نقتبس منها درساً لحياتنا وطريقا للدفاع عن قيمنا ومصالحنا بحول الله وقوته، اذ انا نتحسس بالحاجة الماسة إلى روح الدفاع وحماسة المقاومة في يوم تتكالب الامم علينا، وفي يوم تستضعفنا القوى الكبرى، وتحاول القوى المفسدة في الارض ان تسحقنا وتسحق قيمنا ومبادئنا.
نسأل الله أن يتقبل منا هذا الجهد المتواضع، وأن يدخره ليوم الفاقة الكبرى، ليوم القيامة، انه ولي التوفيق.
محمد تقي المدرسي
مشهد المشرفة
15 / ربيع الثاني / 1418هـ
انطبعت ملحمة كربلاء في فؤاد فاطمة بنت الحسين سلام الله عليه، التي شاركت في كل فصول ملحمة الشهادة. وكانت منذ خروجها من المدينة المنورة الى ان دخلت مكة المكرمة برفقة أبيها، ثم الى أن وردت أرض الملاحم البطولية، ارض كربلاء المطهرة، كانت رقيبة ومساهمة في كل الحوادث. كانت الى جنب عمتها زينب عليها السلام عندما وقعت الواقعة في يوم عاشوراء، وكانت تراقب وتلاحق وكذلك تتعاون في مختلف مجالات الصراع.
كانت تتفاعل نفسياً مع كل الحوادث؛ شهادة اصحاب أبيها وبتلك الصورة الفجيعة، ثم شهادة سبعة عشرة من اخوتها واعمامها وبني اعمامها، ثم واخيراً شهادة أبي عبد الله الحسين ومعه الطفل الرضيع وبتلك الصورة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. كل ذلك انطبع في ضمير هذه العلوية التي ورثت ايمان وصبر واستقامة الذرية الطيبة، ذرية الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، ثم أضحت كربلاء بالنسبة إليها رسالة لا بد أن تحملها إلى الاجيال الصاعدة.
فكيف حملت هذه الرسالة؟
اننا نعرف ان زينب الكبرى عمة فاطمة حملت الرسالة بطريقتها الخاصة، حيث نشرت ظلامة أبي عبد الله الحسين في كل افق، في كل عصر وفي كل مصر، ولكن فاطمة أدت هذه الرسالة بطريقة اخرى. لكي نعرف ذلك دعنا نتحدث قليلاً عن الجانب الاخر من الصورة، حيث نجد الشاب الرشيد العلوي الهاشمي الحسن ابن الحسن والذي يلقب بالحسن المثنى يقبل على عمه الحسين عليه السلام ذات يوم ويخطب منه احدى ابنتيه. لعل الحسن كان يعلم في قرارة نفسه ان فاطمة هي الفتاة التي يجدر به ان يخطبها من عمه، ولكنه استحى ان يحددها بالذات. بينما الامام الحسين سلام الله عليه كان يعرف ماذا يجري في نفس ابن اخيه، لذا اختار له فاطمة ابنته. وهكذا اقترن الحسن المثنى أي ابن الحسن المجتبى سلام الله عليه، اقترن بعقد قران مع ابنة عمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام. وكان الحسن كسائر الهاشمين والعلويين وابناء فاطمة الزهراء قد خرج من المدينة المنورة برفقة عمه الحسين سلام الله عليه الى كربلاء المطهرة، حيث شارك في ملحمة كربلاء وابلى بلاءاً حسناً وسقط على الارض جريحاً. لعل الحسن المثنى كان من اواخر من شارك في المعركة، بعد ان استشهد أبو عبد الله وكل أصحابه وفتيان بني هاشم، وظل الحسن المثنى في جانب من المعركة ينزف دماً ويئن من جراحاته. ولما انتشر جيش يزيد لقطع رؤوس اولاد رسول الله، ووصلوا إلى مطرح الحسن المثنى وجدوا به رمقاً من الحياة، فأراد أحدهم ان يجهز عليه، الا ان ابناء أخواله كانوا حاضرين فطلبوا من القائد أن يسمح لهم بأخذ الحسن المثنى لتضميد جراحاته. وهكذا أُخذ الحسن اسيراً، ثم أعيد الى المدينة المنورة، حيث عادت إليه زوجته فاطمة بنت الحسين.
وهكذا اشترك الحسن المثنى في ملحمة كربلاء وابلى بلاءاً حسناً، وكان قد شاهد كل فصول المعركة، وانطبعت ملحمة الرسالة بكل ما فيها من قيم البطولة والشهامة والشهادة، انطبعت في قلبه الشريف وصاغته شخصية جديدة.
تلك فاطمة وهذا الحسن اشتركا في المعركة، اشتركا في الملحمة وساهما فيها، ووجدا ما وجدا فيها. الآن عليهما ان ينقلا إلى العصور القادمة، الى الاجيال الصاعدة قيم الملحمة، ماذا فعلا؟ انما انجبا ذرية طيبة حملت كربلاء في عمقها، حملت القيم التي ناضل من اجلها اولئك الابطال في ضمائرها.. فكانت هذه الذرية الطيبة منشأ العديد من الحركات الثورية الجهادية الملتزمة بالخط الرسالي، والمتمسكة بأهداف القيم الايمانية. واليك بعض التفصيل عن ذرية هذين الزوجين الكريمين:
جاء في مقاتل الطالبين؛ ان الحسن ابن الحسن خطب الى عمه الحسين، وسأله ان يزوجه احدى ابنتيه. فقال له الحسين: اختر يا بني احبهم إليك. فاستحى الحسن ولم يحر جواباً. فقال له الحسين: فاني قد اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي الاكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وجاء فيه ايضاً: كان اهل الشرف وذووا القدر لا ينوطون(1) بعبد الله ابن الحسن احداً. وكان عبد الله ابن الحسن قد استشهد في محبسه في الهاشمية، وهو ابن خمس وسبعين، وذلك عام 145 بعد الهجرة النبوية الشريفة. وكان عبد الله هذا هو الذي حرَّض ابنيه محمد وابراهيم الذين خرجا على الحكم العباسي واستشهدا، وسمى ابنه محمد ذو النفس الزكية. واما الابن الاخر لهذه الذرية الطيبة فهو الحسن ابن الحسن ابن الحسن السبط الامام (عليه السلام)، وكان متألها فاضلاً ورعاً يذهب بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى مذهب الزيدية - كما يدعيه كتاب مقاتل الطالبين -. وينقل عن الحرث قال: كان الحسن ابن الحسن ابن الحسن ينزل منزلاً بذي الاثل فحضر المدينة وعبد الله ابن الحسن محبوس فلم يبرحها، ولبس خشن الثياب وغليظ الكرابيس. وكان ابو جعفر يسميه الحاد، وكان عبد الله ربما استبطأ رسل اخيه الحسن فيرسل إليه؛ انك وولدك آمنون في بيوتكم، وانا وولدي بين اسير وهارب. لقد مللت معونتي فآنسني برسلك. وكان ذلك اذ أتى حسن بكى، وقال: بنفس ابو محمد؛ انه لم يزل يحشد الناس بالأئمة.(2)
وأما الأخ الاخر لهذين الشبلين، فهو ابراهيم ابن الحسن ابن الحسن. وكان ابراهيم اشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد توفي في الحبس في الهاشمية في شهر ربيع الاول سنة 145، وهو اول من توفي منهم في الحبس عن عمر يناهز السبعة وستين. توفي هو وابنه محمد وكان هؤلاء الاخوة الثلاثة الذين اعتبروا رموز الثورة الرسالية في عصرهم هم اولاد السبطين الشهيدين. فهم أحفاد الامام الحسن المجتبى من ابنه الحسن المثنى وأحفاد الامام الحسين من ابنته فاطمة سلام الله عليهم جميعاً.
وكان للحسن ابن الحسن المعروف بالمثنى اولاد آخرون من امهات اخريات، وكان من أحفاده علي ابن الحسن ابن الحسن الذي كان يعتبر من أعبد وأزهد اهل زمانه، وكان يقال له علي الخير وعلي الأغر وعلي العابد، وكان يقال له ولزوجته زينب بنت عبد الله ابن الحسن الزوج الصالح. وقد حدّث بعضهم انه رأى علي ابن الحسن قائماً يصلي في طريق مكة فدخلت افعى في ثيابه من تحت ذيله حتى خرجت من ذيقته، فصاح به الناس: الافعى في ثيابك، وهو مقبل على صلاته. ثم انسابت فمرت فما قطع صلاته ولا تحرك ولا رأى اثر ذلك في وجهه.
بلى؛ ان الرجل الذي يتربى في حضن الحسن المثنى
ابن كربلاء، ابن الشهادة، ابن الملحمة وابن الرسالة ينبغي ان يكون في هذا المستوى من العبادة والتواصل مع رب العباد. ولما وقعت ثورة أولاد الحسن وما سمي بحركة محمد ذي النفس الزكية، واقدم العباسيون على اعتقال كل اولاد الحسن، كان قد افلت منهم علي ابن الحسن، فيقول الرواة:
ان السجان الذي كان يسمى برياح كان اذا صلى الصبح ارسل الى ندمائه ليحدثهم ساعة.. يقول بعض ندمائه وهو عيسى ابن عبد الله، يقول: وإنا لعنده يوماً فلما اسحرنا فاذا برجل ملتقف وشاحاً له، فقال له رياح: مرحباً بك واهلاً، ما حاجتك؟
قال: جئتك لتحبسني مع قومي. فاذا هو علي ابن الحسن.
فقال له رياح: اما والله ليعرفنها لك امير المؤمنين، فحبسه معهم.
هكذا كانوا يتنافسون على المكرمات، وكان السجن بالنسبة إليهم قضية طبيعية، والسجن الذي سجن اولاد الحسن، سجناً عجيباً.
يقول موسى ابن عبد الله، وهو احد احفاد هؤلاء الاخوة الرساليين، يقول: حبسنا في المطبخ، فما كنا نعرف اوقات الصلاة الا بأجزاء (من القرآن) يقرأها علينا علي ابن الحسن ابن الحسن، وقد توفي علي ابن الحسن وهو ساجد في سجن ابي جعفر. فقال عبد الله ايقظوا ابن اخي فاني أراه قد نام في سجوده. قال: فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا. فقال: رضي الله عنك.
وكانوا في السجن مقيدين بقيود، فضجر عبد الله ضجرة، فقال: يا علي؛ اما ترى ما نحن فيه من البلاء، ألا تطلب الى ربك عز وجل انه يخرجنا من هذا الضيق والبلاء. فسكت عنه طويلاً ثم قال له: يا عم ان لنا في الجنة درجة لم نكن نبلغها الا بهذه البلية او بما هو اعظم منها، وان لأبي جعفر (يقصد المنصور الدوانيقي الطاغية الذي سجنهم) في النار موضعاً لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منا هذه البلية او اعظم منها. فإن تشأ أن تصبر فما أوشك فيما اصبنا ان نموت فنستريح من هذا الغم كأن لم يكن شيء، وان تشأ ان ندعوا ربنا ان يخرجك من هذا الهم وان يقصر بأبي جعفر نهايته التي له في النار فعلنا. قال: لا؛ بل أصبر. فما مكثوا إلاّ ثلاثة حتى قبضهم الله إليه، وهكذا توفي علي ابن الحسن وهو ابن خمسة واربعين سنة لسبع بقين من المحرم سنه 146 هـ.
عاشوراء ملحمة تتكرر
عبد الله ابن الحسن (هو سبط السبطين الحسن والحسين عليهما السلام) وهو الشيخ الذي كان وراء الثورات التي وقعت في عهد المنصور الدوانيقي.
وقد إفتتح هذا السيد الفاطمي عهد الثورات المتلاحقة التي ما هدأت عواصفها ضد الحكم العباسي، والتي لم تخل من هنات وهفوات، وإلاّ ان مرادنا من سرد قصة هذا السيد الرسالي بيان امرين:
الامر الاول: مدى انعكاس ملحمة كربلاء على نفوس الجيل الناشيء الذي جاء بعد هذه الملحمة في احضان الذين شهدوا آفاق تلك الملحمة، حيث كان عبد الله ولداً للحسن المثنى الذي كان من جرحى ملحمة كربلاء، كما كانت أمه فاطمة بنت الحسين عليها الصلاة والسلام. من اللاتي شهدن تلك الملحمة.
الامر الثاني: ان صلح الامام الحسن لم يكن إلا مرحلة من مراحل جهاد الامام الحسن السبط المجتبى سلام الله عليه. فأولاد الامام الحسن واحفاده وسلالته كانوا هم حملة راية الجهاد في سبيل الله ضد طغاة العصر، ولا يكون ذلك الا بتأثير مباشر من هدى الامام الحسن السبط ومن تعاليمه، كما من روحه الوثابة التي انسابت في سلالته.
اما قصة عبد الله ابن الحسن فانه كان يعد العدة للحركة ضد بني امية وقد جمع قيادة الخط الهاشمي في منطقة تسمى بالابواء، وهي منطقة بين مكة والمدينة، حيث اجتمع جماعة من بني هاشم - حسب نقل مقاتل الطالبين - فيهم ابراهيم ابن محمد ابن علي ابن عبد الله ابن العباس وابو جعفر المنصور وصالح ابن علي وعبد الله ابن الحسن ابن الحسن وابناه محمد وابراهيم ومحمد ابن عبد الله ابن عمر ابن عثمان. وكان هؤلاء هم القيادات الاساسية لبني هاشم وللمعارضة، فقال احدهم وهو صالح ابن علي: قد علمتم انكم تمد الناس اعينهم اليكم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع. فأعقدوا بيعة لرجل منكم، تعطونه اياها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.(3)
نستوحي من هذا النص: ان الاوضاع السياسية في الامة الاسلامية كانت تبشر بزوال حكم بني امية وكانت الأمة تتطلع الى البيت الهاشمي كبديل لذلك النظام المهتريء. فقام عبدالله بن الحسن، واشار الى ابنه محمد واثنى، عليه ثم قال: قد علمتم ان ابني هذا هو المهدي فهلموا فلنبايعه. وكان أبو جعفر المنصور حاضراً ووافق على هذه الفكرة، وقال: لأي شيء تخدعون انفسكم، والله لقد علمتم ليس الناس الى أحد أطول أعناقاً ولا اسرع اجابة منهم الى هذا الفتى، وهو يريد محمد ابن عبد الله وهكذا بايعوه. الا ان الامام جعفر الصادق ابن محمد ابن علي عليهم السلام رفض البيعة بعد ما أخبر بها، لان الامام سلام الله عليه كان يعلم بأن الأمر لا يتم.
فقد جاء في بعض الروايات؛ انه جاء جعفر ابن محمد (الامام الصادق) فأوسع له عبد الله ابن الحسن الى جانبه، فتكلم مثل ذلك الكلام، فقال ابو جعفر (عليه السلام): لا تفعلوا فإن هذا الامر لم يأت بعد. ثم وجه الخطاب الى عبد الله بن الحسن وقال: ان كنت ترى ان ابنك هذا هو المهدي فليس به، ولا هذا أوانه. وان كنت انما تريد ان تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فانا والله لا ندعك - وانت شيخنا - ونبايع ابنك.
بهذا رد الامام الصادق (عليه السلام) عبد الله عن البيعة لأبنه محمد ذو النفس الزكية، مما اغضب عبد الله وهو رجل كبير في السن واتهم الامام بالحسد. وكان هذا من أخطائه الكبيرة.
فقال الامام: والله ما ذلك يحملني، ثم ضرب بيده على ظهر ابن العباس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله ابن الحسن، ثم قال: انها والله ما هي إليك ولا الى ابنيك، ولكنها لهم (أي لبني العباس).
واضاف الامام: ان ابنيك لمقتولان. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز ابن عمران الزهري، فقال: أرأيت صاحب الرداء الاصفر، يعني ابا جعفر المنصور. قال: نعم. قال: فانا والله نجده يقتله، قال له عبد العزيز: أيقتل محمداً؟ قال: نعم. قال: فقلت في نفسي حسده ورب الكعبة.
ان هذا الرجل الذي اخبره الامام لم يستوعب الحديث، وكيف تكون القيادات يجتمعون لبيعة محمد والامام يخبر بأنه يقتل بيد واحد من الحاضرين كان قد بادر الى بيعته.
قال عبد العزيز ابن عمران الزهري: ثم والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.
هذه كانت بداية لمأساة طويلة، كانت قد وقعت لاولاد الحسن المجتبى بعد ان حكم العباسيون الامة.
اولاد الامام الحسن المجتبى وقعوا في ازمة حقيقية، فمن جهة هم بايعوا محمد ذو النفس الزكية، وفي جهة اخرى رأوا العباسيين يحكمون البلاد. وشخص ابو جعفر المنصور بايع محمد ذو النفس الزكية مرتين، ولعل بيعته له انما كانت عملية خداعية للوصول الى الحكم، ولعله كان يخدع كثيراً من القوى السياسية المناهضة الاخرى أيضاً بذات الطريقة.
وبعد ما حكم العباسيون وبايع الجميع لهم؛ فلما آل الأمر الى المنصور، كان ممن حضر عنده وبايعه عبد الله ابن الحسن. ولكن المنصور لم يقتنع بذلك، لأنه كان يبحث عن محمد ابنه الذي اختفى.
ولاريب ان اختفائه كان ينذره بالخطر، يقول عبد الله ابن عبيده ابن محمد ابن عمار ابن ياسر: لما استخلف ابو جعفر (المنصور) لم يكن همّه إلاّ طلب محمد والمسألة عنه وعما يريد، فدعا بني هاشم رجلاً رجلاً يسألهم في خلوة، فكلهم يقول: يا أمير المؤمنين انك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل هذا اليوم، وهو يخافك على نفسه ولا يريد لك خلافاً ولا يرضى لك معصية، إلاّ الحسن ابن زيد فانه أخبره، قال: والله ما آمن وثوبه عليك، والله لا ينام عنك الحسن ابن زيد من بني هاشم. وهكذا كان رأي الحسن ابن زيد في تلك المجموعة رأياً معارضاً لمحمد ابن عبد الله ذي النفس الزكية.
ومن هنا فان المنصور الدوانيقي سأل عبد الله ابن الحسن عن ابنيه - محمد وابراهيم - وذلك في العام الذي حج فيه، فقال له عبد الله فيهما مقالة الهاشميين، ولكن المنصور اخبره بأنه غير راضىِ عنه او يأتيه بهما.
وبدأت المعركة بين السلطة العباسية وبين الهاشميين، حيث بعث المنصور الدوانيقي ببعض ثقاته لكي يتجسس على الحركة الهاشمية، فتلطف ذلك الرجل حتى توصل الى الخبر اليقين من عبد الله بن الحسن، حيث قال له: ان اخبر الناس ان ابني خارج في وقت كذا او كذا، فلما رجع الى المنصور سأل عبد الله ابن الحسن عن ابنيه ابراهيم ومحمد مرة اخرى، فقال: لا علم لي بهما. وظل يسأله حتى تغالظا فأمصه ابو جعفر وعاب عليه امهاته.
فقال عبد الله ابن الحسن: يا ابا جعفر؛ بأي امهاتي تمصني، أبفاطمة بنت رسول الله، ام بفاطمة بنت الحسين، ام بخديجة بنت خويلد، أم بأم اسحاق بنت طلحة؟
قال: ولا بواحدة منهن. فوثب المسيب ابن ابراهيم فقال: يا امير المؤمنين دعني اضرب عنق ابن الفاعلة.
فقام زياد ابن عبد الله، فألقى عليه رداؤه، وقال: يا أمير المؤمنين، هبه لي فإني استخرج لك ابنيه، فخلصه منه.
وفي النهاية قال المنصور لعبد الله: لتأتيني به أي بمحمد.
فقال عبد الله: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه.
فقال المنصور: يا ربيع قم به الى الحبس. فحبس عبد الله في دار مروان في البيت الذي عن يمين الداخل، والقي تحته ثلاث حقائب الابل محشوة تبناً. فبقى في السجن ثلاثة سنين.
وبدأت معاناة عبد الله ابن الحسن، فأرسل محمد الى ابيه في السجن رسالة بيد ام يحيى يقول له فيها: لأن يقتل رجل من آل محمد خير من ان يقتل بضعه عشر رجلاً. وكان محمد يستأذن بذلك أباه بأن يسلم نفسه للسلطة حتى يقتل ويخلص سائر الهاشميين من القتل.
فلما دخلت ام يحيى على عبد الله رأته متكئاً على برذعة في رجله سلسلة، فجزعت من ذلك. فقال عبد الله لها: مهلاً يا ام يحيى، فلا تجزعي، فلا بت ليلة مثلها.
قالت: فأبلغت مقالة محمد له، فاستوى جالساً، ثم قال: حفظ الله محمداً. لا؛ ولكن قولي له ليأخذ الى الارض مذهباً. فو الله ما يحتج عند الله غداً إلاّ انا خلقنا وفينا من يطلب هذا الأمر(4). يعني بذلك انا معاشر الهاشميين لازلنا نطالب الحكم في كل زمان، وهذه حجة له على سلامة منهاجه في المطالبة بالحكم.
وقال عبد الله بن الحسن لبعض من جاءوا إليه يطالبونه بتسليم ابنيه للسلطات، قال: لبليتي اعظم من بلية ابراهيم (عليه السلام). ان الله عز وجل أمر ابراهيم الخليل بأن يذبح ابنه وهو لله طاعة، وانكم جئتموني تكلموني في ان آتي بأبنيّ لهذا الرجل ليقتلهما وهو لله جل وعز معصية. فو الله يا ابن اخي لقد كنت على فراشي فما يأتيني النوم، واني على ما ترى اطيب نوماً.
وكان محمد وابراهيم يأتيان أباهما في السجن متنكرين بهيئة الاعراب، فيستأذنانه بالخروج، فيقول: لا تعجلا حتى تملكا، ثم يخاطبهما بالقول: ان منعكما ابو جعفر (المنصور الحاكم العباسي) ان تعيشا كريمين، فلا يمنعكما ان تموتا كريمين.
بهذه النفسية العالية كان عبد الله يربي ابنيه محمداً وابراهيم ان يعيشا او يموتا كريمين.
وهكذا لقي عبد الله ابن الحسن واخوته ما لقوا من الاذى، سواءاً قبل قيام محمد وابراهيم او بعد قيامهما. وكان موقف الامام جعفر ابن محمد الصادق (عليه السلام) موقفاً مخالفاً لمحمد وحركته العاجلة لمعرفته بواقع الامور، ولكنه كان يتعاطف معهم، فقد نقل بعضهم قائلا: اني لواقف بين القبر والمنبر اذ رأيت بني الحسن يخرج بهم من دار مروان مع ابي الازهر يراد، بهم الربذة، فأرسل اليَّ جعفر ابن محمد الصادق (عليه السلام) فقال: ما وراءك؟ قلت: رأيت بني العباس يخرج بهم في محامل. فقال لي: اجلس. فجلست، فدعا غلاماً له ثم دعا ربه كثيراً، ثم قال لغلامه اذهب فإذا حملوا فأتي فاخبرني.
قال: فأتاه الرسول، فقال: قد اقبل بهم. فقام جعفر سلام الله عليه فوقف وراء ستر شعر ابيض، فطلع بعبد الله ابن الحسن وابراهيم من الحبس وجميع اهلهم. فلما نظر اليهم جعفر ابن محمد هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم اقبل عليّ فقال: يا ابا عبد الله، والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا، والله ما وفت الانصار ولا ابناء الانصار لرسول الله لما اعطوه من البيعة على العقبة. ثم قال جعفر حدثني ابي عن ابيه عن جده عن علي ابن ابي طالب؛ ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: خذ عليهم البيعة في العقبة فقال: كيف آخذ عليهم؟ قال: خذ عليهم يبايعون الله ورسوله على ان تمنعوا رسول الله وذريته كما تمنعون انفسكم وذراريكم. قال الامام الصادق (عليه السلام): فو الله فما وفوا حتى خرج من بين اظهرهم، ثم لا احد يمنعه.
اللهم اشدد وطأتك على الانصار. وهنا دعى الامام الصادق (سلام الله عليه) على الذين سمحوا للمنصور الدوانيقي ان يجمع اولئك الرجال من بني هاشم ويبعث بهم إلى الربذة، حيث يُبعد المؤمنون في التأريخ.
فقال احدهم: كنت في الربذة فأوتي بأبناء الحسن مغلولين معهم العثماني.(5) فقال رجل: هذا العثماني كأنه خلق من فضه(6)، فأقعدوا. فما لبثوا ان خرج رجل من عند ابي جعفر المنصور فقال: اين محمد ابن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم نلبث حتى سمعنا وقع سياط. قال: فأخرج كأنه زنجي قد غيرت السياط لونه وأسالت دمه، واصاب سوط منها احدى عينيه فسالت(7). واقعد إلى جنب اخيه عبد الله ابن الحسن فعطش فاستسقى، فقال عبد الله ابن الحسن: من يسقي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاءه خراساني بماء فسلمه إليه، فشرب ثم لبث هنيئة، فخرج ابو جعفر في محمل والربيع معاد له. فقال عبد الله ابن الحسن: يا ابا جعفر والله ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر.(8)
وكان السجن الذي سجن فيه عبد الله ابن الحسن، وهو آنئذ شيخ كبير، سجناً قاسياً، وكان هذا قبل ان يقوم وينهض بالثورة المعروفة. يقول بعضهم: حدثني اسحاق ابن عيسى عن ابيه انه قال: ارسل اليّ عبد الله ابن الحسن وهو محبوس، فاستأذنت ابا جعفر في ذلك، فأذن لي فلقيته، فطلب مني ان اسقيه ماءاً بارد. فأرسلت الى منزلي فأتوني بقلة فيها ماء وثلج ليشربه، فأعطيته لعبد الله ابن الحسن ليشرب، اذ دخل ابو الازهر السجان سجنه فأبصره يشرب القلة وهي على فيه، فضرب القلة برجله فألقى ثنيه.
هكذا بهذه الطريقة الوحشية كان يتعامل مع هذا الرجل الكبير في السن، علماً بأن اسحق ابن عيسى ووالده استأذنوا المنصور بالدخول على عبد الله والتلطف معه. يقول الرجل فأخبرت أبا جعفر، فقال لي: اله عن هذا يا أبا العباس؛ أي لا تحدثني عن هذا الأمر.
من هنا نعرف ان أمر الارهاب واستخدام العنف مع بني الحسن كان صادراً من المنصور نفسه لعنة الله عليه.
وقال رجل: مات رجل من آل الحسن وهم بالهاشمية محبوسون، فأخرج ابن الحسن يرسف في قيوده ليصلي عليه. وهكذا لم يدعوه حتى عند الصلاة على الميت بان يضع عن نفسه القيود.
وذكر محمد ابن علي ابن حمزة ان سمع من يذكر ان يعقوب واسحاق ومحمد وابراهيم ابن الحسن قتلوا في الحبس بضروب من القتل، وان ابراهيم ابن الحسن دفن حياً، وطرح على عبد الله ابن الحسن البيت رضوان الله عليهم.(9)
كان عبد الله ابن الحسن واحداً من الذين ربتهم فاطمة بنت الحسين في حجرها، وغذاهم الحسن المثنى الذي كان وريث كربلاء. وكانت هذه الصفاة المتجلية في عبد الله ابن الحسن قد تناقلتها الاجيال الصاعدة من بني الحسن ومن غير بني الحسن من المؤمنين.
وهكذا كانت ملحمة كربلاء تشع اشعاعها في النفوس، وتخلق المزيد من الرساليين المتفانين في سبيل الله.
طلائع الشهادة
اختلف المؤرخون في عدد اولاد الامام الحسن (عليه السلام)، ذكوراً واناثاً فمنهم من قال: ان الامام المجتبى (عليه السلام) استشهد عن ثمانية ذكور واربع اناث، بينما قال آخرون بأنه ترك احد عشر ذكوراً وخمسة اناث، وقال آخرون غير ذلك. إلاّ ان الذين اشتركوا منهم في ملحمة كربلاء كان - حسب ما يبدو - خمس من الذكور، وهم الحسن المثنى وقد ذكرنا قصته في الفصل الاول، والقاسم ابن الحسن وابو بكر ابن الحسن وعبد الله ابن الحسن. ومن الاسرى من اولاد الحسن (سلام الله عليه)، كان عمر ابن الحسن وكان فتى، فلما ادخل الاسرى على الطاغية يزيد لعنه الله، قال له يزيد: اتصارع ابني هذا يعني خالداً. فقال له عمر ابن الحسن. ما فيّ قوة للصراع، ولكن أعطني سكينا، وأعطه سكيناً فأما ان يقتلني فألحق بجدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابي علي ابن ابي طالب (سلام الله عليه)، واما ان اقتله فألحقه بجده ابي سفيان وابيه معاوية. فتأمل يزيد، وقال: شنشنة اعرفها من اخزمي هل تلد الحيّة إلا الحيّة.(10)
وقد استشهد من ابناء الامام الحسن (عليه السلام) في كربلاء، كل من ابو بكر بن الحسن، والقاسم بن الحسن، وعبد الله بن الحسن. وفيما يلي نستعرض جانباً من بطولاتهم.
أبو بكر بن الحسن
كان لأبي بكر بن الحسن (عليه السلام) من العمر 16 سنة، حسب ما ذكره المؤرخون. وكان صبيح المنظر حسن الوجه، وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح، فبرز وهو يقول:
• اني انا نجل الامام ابن علي نحن - وبيت الله - اولى بالنبي اطعنكم بالرمح وسط القسطل
• اضربكم بالسيف حتى يفلل اطعنكم بالرمح وسط القسطل اطعنكم بالرمح وسط القسطل
فقلب الميمنة على الميسرة، والميسرة على الميمنة، حتى قتل منهم مجموعة كبيرة، ثم عاد الى عمه الحسين وقد غارت عيناه من العطش ونادى: يا عماه هل من شربة ماء ابرد بها كبدي، واتقوى بها على اعداء الله ورسوله؟ فقال له الحسين: يا ابن اخي اصبر قليلا حتى تلقى جدك رسول الله يسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها ابداً. خرج الغلام الى القوم فحمل عليهم وأنشأ يقول:
• اصبر قليلاً فالمنى بعد العطش لا ارهب اذا الموت وحش ولم اكن عند اللقاء ذا رعش
• فان روحي في الجهاد تنكمش ولم اكن عند اللقاء ذا رعش ولم اكن عند اللقاء ذا رعش
ثم حمل على القوم فقتل منهم مجموعة كبيرة وهو يرتجز ويقول:
واجتمع عليه الناس وقتلوه. وكان ابو جعفر الباقر سلام الله عليه يذكر ان حرملة ابن كاهل الاسدي هو الذي قتل أبا بكر. وقال بعضهم ان عبد الله ابن عقبة الغنوي هو الذي قتله.
القاسم ابن الحسن
تهوى أفئدة الملايين من البشر هذا الفتى الهاشمي، وتذرف الدموع الساخنة عليه كلما مرت مناسبة عاشوراء على المسلمين، مما يثير التساؤل التالي: لماذا؟
هل لأنه كان فتى وسيماً جميلاً في ريعان الشباب واقتحم غمار الموت دون ان يأبه لشيء؟ بلى؛ واكثر من ذلك.
هل لآنه ابن السبط الشهيد الامام الحسن الذي يكنّ المسلمون والموالون احتراماً بالغاً له كما يكنّون ولاءاً حقيقياً لمقام امامته، لأنه سبط الرسالة وسيد شباب اهل الجنة؟ بلى؛ واكثر من ذلك.
ان الانسان قد فطر على حب البطولة، ولولا ذلك لما كانت بطولة ولما كانت هذه المآثر للأبطال. وحين نستعرض سيرة القاسم ابن الحسن نجد نمطاً رائعاً من البطولة الفائقة، ولذلك يستهوينا هذا النمط، لان هذا الفتى لما سمع عمه الحسين سلام الله عليه في ليلة العاشر من شهر محرم ينعى نفسه وينعى اصحابه ويخبر الحاضرين بأنهم لمقتولون غداً جميعاً، هنالك انبرى سائلاً: يا عماه هل اكون انا ايضاً ممن يقتل غداً؟
وقبل ان يجيبه سلام الله عليه، سأله كيف الموت عندك؟
قال بكل عفوية: يا عماه في نصرتك احلى من العسل. ثم اخبره بانه ممن يقتل، واضاف بأنه حتى ابنه الرضيع عبد الله ممن يقتل. فانتفض الفتى وسأله:
يا عماه هل يصل العدو إلى المخيم؟
انظروا إلى هذين الموقفين؛ اولاً: طلبه للشهادة ولمّا تقع الواقعة، وكلمته الرائعة بأنه في نصرة الحسين الموت أحلى من العسل. الموت مر وأشد مرارة من أي شيء اخر، ولكن نصرة الحسين (عليه السلام) والدفاع عن القيم تجعل مرارة هذا الحدث ليست فقط مقبولة، وانما تجعلها مطلوبة حتى تصبح أحلى من العسل.
ثانياً: انتفاضته امام الخبر الذي وصل إليه بأن عبد الله الرضيع يقتل. إنه لم يتأثر فقط لشهادة ابن عمه الصغير، بالرغم من ان ذلك حدث كبير ويثير الماً شديداً. ولكن انتفض غيرة على النساء، وانه كيف يصلون إلى المخيم. وهكذا كانت نفسية هذا الفتى الهاشمي تتلخص في كلمتين؛ في نصرة الحق، وفي الغيرة على الحق.
وفي يوم عاشوراء اذن ابو عبد الله سلام الله عليه حسب بعض الروايات لأخوة قاسم، وبالذات لأبي بكر الذي يبدو انه استشهد قبل القاسم، وكان شقيقاً للقاسم من امه. ولكن تباطأ الامام الحسين عليه السلام في الاذن للقاسم، لا نعرف لماذا؟ انما حسب هذه الرواية انه قال له: لأتسلى بك.
ولعل الحسين كان يكن لهذا الفتى حباً عميقاً، وكان يتسلى به ويراه علامة اخيه الحسن، لأنه كان للحسن المجتبى عليه السلام عظيم الحب في قلوب المسلمين، فكيف بقلب الحسين (سلام الله عليه)؟ وكان الامام الحسين يقول عن أخيه بأنه خير منه. ومعروف ان الامام الحسن (عليه السلام) استشهد غيلة بعد ما اضطر الى الصلح مع معاوية، وذلك في الاربعينات من عمره. ورافق شهادته بعض الحوادث المرة، كمنع جسده من الطواف حول قبر النبي صلى الله عليه وآله، ورمي جثمانه المبارك بالسهام.. كل ذلك عمّق الحزن في قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) على أخيه، وعبر عن ذلك الحزن العميق في بيتين من الشعر بعد ان وارى اخاه الثرى قال:
• أأدهن رأسي ام تطيب مجالسي وليس حريبا من اصيب بماله ولكن من وارى اخاه حريب
• ووجهك مدفون وانت تريب ولكن من وارى اخاه حريب ولكن من وارى اخاه حريب
وهكذا لما نظر الى القاسم تداعت في نفسه علائم الحسن سلام الله عليه، فكيف يأذن للقاسم بأن تقطعه حراب بني امية أمام عينيه. ولعله لذلك قال للقاسم حسب الرواية: يا ابن الاخ؛ انت من أخي علامة، واريد ان تبقى لي لأتسلى بك.
اما القاسم الذي كان من جهة متعبداً بولاية عمه وامامه الحسين سلام الله عليه، ومن جهة ثانية كان متحفزاً للبراز والجهاد بين يديه وطالباً للشهادة في سبيل الله ونصرة عمه الحسين سلام الله عليه؛ فقد انتحى جانباً وجلس مهموماً مغموماً، باكي العين، حزين القلب، ووضع رأسه على رجليه ثم تذكر ان أباه قد ربط له عوذةً في كتفه الايمن، وقال له اذا اصابك ألماً وهماً، فعليك بحل العوذة وقرائتها وفهم معناها، واعمل بكل ما تراه مكتوباً فيها. فقال القاسم في نفسه: مضت سنون ولم يصبني من مثل هذا الالم، فحل العوذة وفضها ونظر إلى كتابتها واذا فيها: يا ولدي اوصيك انك اذا رأيت عمك الحسين (عليه السلام) في كربلاء وقد احاطت به الاعداء فلا تترك الجهاد والبراز لأعداء الله واعداء رسول الله، ولا تبخل عليه من روحك ومن دمك، وكلما نهاك عن البراز عاوده ليأذن لك للبراز لتحظى بالسعادة الابدية. فقام القاسم من ساعته واتى الحسين وعرض ما كتب الحسن على عمه الحسين (عليهما السلام)، فلما قرأ الحسين العوذة بكى بكاءاً شديداً، و قال: يا ولدي أتمشي برجلك الى الموت؟
قال: فكيف لا يا عم، وانت بين الاعداء بقيت وحيداً فريداً لم تجد حامياً ولا صديقاً. روحي لروحك الفداء، ونفسي لنفسك الوقاء.
ثم ان الحسين سلام الله عليه قطع عمامة القاسم نصفين ثم ادلاها على وجهه كأنه اراد ان يصون وجه القاسم، ثم البسه ثيابه وشد سيفه وسط القاسم، ثم أركبه على فرسه وارسله.
وقد جاء في رواية ان الحسين (سلام الله عليه) اعتنق القاسم وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما، ثم انحدر القاسم الى المعركة وهو يرتجز قائلاً:
• ان تنكروني فأنا ابن الحسن هذا حسين كالأسير المرتهن بين أناس لا سقوا صوب المزن
• سبط النبي المصطفى المؤتمن بين أناس لا سقوا صوب المزن بين أناس لا سقوا صوب المزن
وكان وجهه كفلقة قمر، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل على صغر سنه خمسة وثلاثين رجلاً. قال ابو مخنف الذي روى حوادث يوم الطف؛ قتل سبعين فارساً. وقال حميد ابن مسلم: كنت في عسكر ابن سعد (أعداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام) فكنت انظر الى هذا الغلام عليه ازار وقميص ونعلان قد انقطع شسع احداهما، ما انسى كان الايسر، فقال لي عمر بن سعد الأزدي والله لأشدن عليه، فقلت سبحان الله ما تريد بذلك، والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي. يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.
قال: والله لا فعلن. فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه.
وقال ابو مخنف: وكمن له ملعون فضربه على ام رأسه ففجر هامته وخر صريعاً ونادى: يا عماه ادركني. وجاء في الرواية: فجاءه الحسين كالصقر المنقض فتخلل الصفوف، وشد شدة الليث المغضب، فضرب عمر (قاتله) بالسيف فاتقاه بيده فأطناها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحى عنه. وحملت خيل اهل الكوفة لتستنقذ عمر قاتل القاسم من الحسين (سلام الله عليه)، فاستقبلته الخيل بصدورها وجرحته بحوافرها ووطأته حتى مات. فأنجلت الغبرة فإذا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه، فقال الحسين: يعز والله على عمك ان تدعوه فلا يجيبك، او يجيبك فلا يعينك، او يعينك فلا يغني عنك. بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدك وابوك، هذا يوم كثر والله واتره وقل ناصره.
ثم احتمله على صدره، وكما يقول حميد ابن مسلم: فكأني انظر الى رجليّ الغلام يخطان في الارض، فقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي ما يصنع به، فجاء به فألقاه بين القتلى من اهل بيته مع ولده علي الاكبر، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم احداً، ولا تغفر لهم ابداً. صبراً يا بنو عمومتي، صبراً يا اهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم ابداً.
واستشهد القاسم ابن الحسن وطارت روحه الى الملكوت، ولكن بقيت مآثره وبطولته تحفز الفتيان من موالي اهل البيت ومن المسلمين جميعاً على ضرورة التحدي للطغيان ونصرة الحق. ولذلك تجد احد العلماء الكبار وهو السيد الشريف المرتضى علم الهدى يزور القاسم بهذه الكلمات العطرة، يقول: السلام على القاسم ابن الحسن ابن علي ورحمة الله بركاته، السلام عليك يا ابن حبيب الله، السلام عليك يا ابن ريحانة رسول الله، السلام عليك من حبيب ما قضى من الدنيا وطرا ولم يشف من اعداء الله صدرا حتى عاجله الاجل وفاته الامل، فهنيئاً لك يا حبيب رسول الله، ما اسعد جدك، وافخر مجدك، واحسن منقلبك.
عبد الله بن الحسن
الإمام الحسن المجتبى شارك في أكثر من حرب، وقاد حروب كبيرة ضد طاغية زمانه معاوية، ولكن الحرب انتهت بصلح، فلم يكن الامام الحسن (سلام الله عليه) ميالاً الى الخفض والدعة كما يزعم بعض المغرضين، ولقد كان صلحه مع معاوية مجرد مرحلة من مراحل حياته، وكان فيه خدمة كبيرة للأمة الاسلامية، ليعلموا ان الهدف من الحرب تحقيق اهدافها المقدسة اما إذا بلغوا مرحلة لم يستطيعوا الاستمرار فيها لأسباب قاهرة صالحوا، وكان لهم في الحسن المجتبى اسوة حسنة، فيحافظون على ما تبقى من قوتهم استعداداً ليوم آخر. وهكذا كان صلح الامام الحسن المجتبى (سلام الله عليه) بركة للمسلمين عبر التأريخ. انما الخطأ الفاحش الاعتقاد انه سلام الله عليه كان بارد المزاج، ويميل الى الصلح والسلم، فاذا كان كذلك، فكيف قاد الحروب عبر حياته الشريفة؟
وأحد أبرز الادلة على تلك النفسية الطاهرة الشجاعة التي تتميز بالعطاء والفداء؛ هم ابناء الحسن (سلام الله عليهم) الدين فاضت فيهم نفس أبيهم، فاصبحوا قمة في البطولة والعطاء. فأبناء الحسن هم الامثلة الرائعة في مسيرة التحدي، وكان من اصغرهم سناً عبد الله. فإذا كان القاسم ابن ثلاثة عشر ربيعاً، واذا كان ابو بكر ابن الحسن ابن ثمانية عشر سنة، فإن عبد الله ابن الحسن كان صغير العمر، ولكن عوامل الوراثة وخلقيات الامام الحسن المجتبى (سلام الله عليه) تجلت فيه، ففي الحديث المروي عن الشيخ المفيد رضوان الله عليه قال: خرج إليهم عبد الله ابن الحسن ابن علي وهو غلام لم يراهق من عند النساء حتى وقف الى جنب عمه الحسين، فلحقت به زينب بنت علي لتحبسه فقال لها الحسين: احبسيه يا اختي. فأبى وامتنع امتناعاً شديداً، وقال: والله لا افارق عمي، واهوى ابجر ابن كعب الى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة، اتقتل عمي؟! فضربه ابجر بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطناها الى الجلد، فاذا يده معلقة فنادى الغلام: يا عماه، يا ابتاه. واخذه الحسين فضمه، وقال: يا ابن اخي صبراً على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فان الله يلحقك بآبائك الصالحين. ثم رفع الحسين يده ثم قال: اللهم فإن متعتهم إلى حين، ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضي الولاة عنهم ابدا، فانهم دعونا لينصرونا ثم عدو علينا فقتلونا.. وقال السيد في اللهوف: فرماه حرملة ابن كاهل بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين.
وهكذا نجد ان شجاعة الحسن المجتبى (سلام الله عليه) قد فاضت في عروق ابنائه حتى الطفل الصغير منهم. فسلام الله عليهم من اهل بيت كانوا مصداق قوله تعالى (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (آل عمران/34)
نسأل الله سبحانه وتعالى انه يجعلنا نسير على طريقهم، ونفوز باتباعهم في الدنيا، وبمرافقتهم وشفاعتهم في الآخرة، إنه ولي التوفيق.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي لا يستبدلون بعبد الله بن الحسن احداً.
(2) مقاتل الطالبين / ص 126 (بالأئمة: يعني يقلب الناس ضد الحكام).
(3) مقاتل الطالبين / ص 141.
(4) المصدر / صفحه 147.
(5) كان واحداً من ابناء عثمان أو الموالين له في جمع بني هاشم يومئذ.
(6) أي من شدة بياضه.
(7) أي اعميت عينه او سالت دماً.
(8) راجع مقاتل الطالبيين /ص 149-150.
(9) المصدر / ص 154.
(10) هذان مثلان يضربهما العرب حول ان الفرع يتبع الأصل.