الإمام الحسن عليه السلام قدوةٌ وأسوةٌ
تأليف: السيد محمد تقي المدرسي
المحتويات
الفصل الأول: الأصل الكريم
الفصل الثاني: عهد امامته
الفصل الثالث: مواقف مشرقة
الفصل الرابع: مكارم الأخلاق
الفصل الخامس: من بلاغة الإمام
ولادته ونشأته:
1- النبي في رحلة:
في ليلة النصف من رمضان. كان بيت الرسالة يستقبل وليده الحبيب، وقد كان ينتظره طويلا.. واستقبله كما تستقبل الزهرة النضرة قطرة شفافة من الندى بعد العطش الطويل.
والوليد يتشابه كثيراً وجدَّه الرسول العظيم، ولكنّ جدَّه لم يكن شاهَد ميلاده حتى تُحمل إليه البشرى. فقد كان في رحلة سوف يرجع منها قريباً.
وكان أفراد الأسرة ينتظرون باشتياق، ولا يتحفون الوليد بسنن الولادة، حتى إذا جاء الرسول (ص) أسرع إلى بيت فاطمة (ع) على عادته في كل مرة عندما كان يدخل المدينة بعد رحلة. وعندما أتاه نبأ الوليد غَمَره الْبُشر، ثم استدعاه. حتى إذا تناوله أخذ يشمّه ويقبّله ويؤذِّن له ويُقيم، ويأمر بخرقة بيضاء يلف بها الوليد، بعدما ينهى عن الثوب الأصفر.
ثم ينتظر السماء هل فيها للوليد شيء جديد، فينزل الوحي، يقول: إن اسم ابن هارون - خليفة موسى (ع) كان شبَّراً.. وعلي منك بمنزلة هارون من موسى فسمِّه حَسَناً، ذلك أن شُبَّراً يرادف الحسن في العربية.
وسار في المدينة اسم الحسن، كما يسير عبق الورد. وجاء المبشرون يزفون أحر آيات التهاني إلى النبي (ص)، ذلك أن الحسن (ع) كان الولد البكر لبيت الرسالة، يتعلق به أمل الرسول وأصحابه الكرام. فهو مجدد أمر النبي الذي سوف يكون القدوة والأسوة للصالحين من المسلمين.. إنه امتداد رسالة النبي من بعده. وفي الغد يأمر الرسول (ص) بكبش، يعق عنه، فلما يأتون به يجيء بنفسه ليقرأ الدعاء الخاص بالمناسبة.
عقيقة عن الحسن:
اللهم عظمُها بعظمه، ولحمُها بلحمه، ودمُها بدمه، وشعرُها بشعره، اللهمَّ اجعلها وقاءً لمحمد وآله.
ثم يأمر بأن يوزع اللحم على الفقراء والمساكين، لتكون سنّة جارية من بعده، تَذبح كلّ أسرة ثريَّة كبشاً بكل مناسبة متاحة، لتكون الثروة موزعة بين الناس، لا دَولة بين الأغنياء منهم.
ثم يأخذه الرسول ذات يوم وقد حضرت عنده لبابة - أم الفضل - زوجة العباس بن عبد المطلب عمِّ النبيِّ (ص) فيقول لها: رأيتِ رؤيا، في أمري..
فتقول: نعم يا رسول الله..
فيقول (ص): قُصِّيها.
فتقول: رأيت كأن قطعة من جسمك وقع في حضني.
فناولها الرسول (ص) الرضيع الكريم، وهو يبتسم ويقول: نعم هذا تأويل رؤياك. إنه بضعة مني. وهكذا أصبحت أم الفضل مرضعة الحسن (ع).
.. ويشب الوليد في كنف الرسول الأعظم (ص)، وتحت ظلال الوصي (ع)، وفي رعاية الزهراء (ع)، ليأخذ من نبع الرسالة كلّ معانيها، ومن ظلال الولاية كلّ قِيَمِها ومن رعاية العصمة كلّ فضائلها ومكارمها. ولايزال النبي والوصي والزهراء عليهم جميعاً صلوا ت الله يُوْلُون العناية البالغة التي تنمي مؤهلاته.
الوراثة:
وليس هناك من شك بأن للوراثة أثرها الكبير في صياغة الفرد صياغة مكيّفة بالبيئة التي انبعث منها وخلق فيها. وبيتُ أبناء أبي طالب، كان خير البيوت لإنشاء الإنسان الكامل، فكيف وقد وُلد الحسن (ع) من عبد المطلب مرتين، مرة من علي بن أبي طالب وأخرى من فاطمة بنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (صلى الله عليهم وآلهم)؟. كما كان علي (ع) مولوداً عن هاشم مرتين. ولا نريد أن نشرح مآثر بيت هاشم، وبالخصوص أسرة عبد المطلب فيهم، فإنها ملأت السهل والجبل، بل أقول: ناهيك عن بيت بزغ منه الرسول الأكرم، محمد (ص)، والوصي العظيم علي (ع)، وحسب علمِ حساب الوراثة أن التأثير قد يكون من جهة الأب فيستصحب كلّ سماته وصفاته. وقد يكون من جانب الأم، وقد تحقق في الحسن (ع) هذا الأخير. فقد برزت فيه سمات أمه الطاهرة لتعكس صفات والدها العظيم محمد النبي (ص)، فكان أشبه ما يكون بالنبي منه بالإمام، وطالما كان يطلق النبي قوله الكريم:
(الحسن مني والحسين من علي).
وقد يمكن أن نجد تفسيراً لهذه الكلمة في الأحداث التي جرت بعد الرسول (ص) وطبيعة الظروف التي قضت عند الحسن (ع) أن يتخذ منهج الرسول أُسوةً له دقيقة التطبيق شاملة التوفيق، فيعطي الناس من عفوه وصفحه، ويعطي أعداءه من صُلحه ورِفقه، مثلما كان يعطي الرسول تماماً.. كما اقتضت عند الحسين (ع) أن يبالغ في شدّته في الدِّين، وغيرته عليه، ويبدي من منعته ورفعته في أموره، ما جعل تشابهاً كبيراً بينه وبين عهد علي (ع) مع المشركين والكافرين والضالين.
التربية:
ولقد أولاه النبيُّ والوصيُّ والزهراءُ عليهم الصلاة والسلام من التربية الإسلامية الصالحة ما أهَّله للقيادة الكبرى. فإن بيت الرسالة كان يربي الحسن وهو يعلم ما سوف يكون له من المنزلة في المجتمع الإسلامي، كما يوضح للمؤمنين منزلته وكرامته.
فكان النبيُّ (ص) يرفعه على صدره، ثم يقيمه لكي يكون منتصباً ويأخذ بيديه يجره إلى طرف وجهه الكريم جرَّاً خفيفاً وهو ينشد قائلاً:
(حزقَّةً حزقَّة(1) تَرَقَّ عينَ بَقَّة).
ويلاطفه ويداعبه.. ثم يروح يدعو: اللهم إني أُحبه فأَحبَّ من يحبه ويقصد أن يسمع الناس من أتباعه لكي تمضي سيرتُه فيه أسوة للمؤمنين، بكرامة الحسن (ع) واحترامه.
ومرة يصلي النبي بالمسلمين في المسجد، فيسجد ويسجدون، يرددون في خضوع: “ سبحان ربي الأعلى وبحمده “ مرة بعد مرة، ثم ينتظرون الرسول أن يرفع رأسه ولكن النبيَّ يطيل سجوده، وهم يتعجبون: ماذا حدث؟. ولولا أنهم يسمعون صوت النبي لايزال يَبعث الهيبة والضراعة في المسجد لظنوا شيئاً.
ولا يزالون كذلك حتى يرفع النبي رأسه، وتتم الصلاة، وهم في أحر الشوق إلى معرفة سبب إبطائه في السجود فيقول لهم: جاء الحسن فركب عنقي، فأشفقت عليه من أن أُنزله قسراً، فصبرت حتى نزل اختياراً.
وحيناً: يصعد النبي (ص) المنبر ويعظ الناس ويرشدهم، فيأتي الحسنان من جانب المسجد فيتعثَّران بثَوْبَيهما فإذا به يهبط من المنبر مسرعاً إليهما حتى يأخذهما إلى المنبر، يجعل أحدهما على وركه اليمنى، والآخر على اليسرى، ويستمر قائلاً: صدق الله ورسوله، (اَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) (الانفال/28) نظرت إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما “.
وكان يصطحبهما في بعض أسفاره القريبة، ويُردفهما على بغلته من قُدَّامه ومن خَلْفه لئلا يشتاق إليهما فلا يجدهما، أو لئلا يشتاقا إليه فلا يجدانه. وكان يشيد بذكرهما في كلّ مناسبة، ويظهر كرامتهما إعلاناً أو تنويهاً. فقد أخذهما معه يوم المباهلة وأخذ أباهما وأمهما فظهر من ساطع برهانهم جميعاً ما أذهل الأساقفة “(2).
ودخل رسول الله دار فاطمة (ع)، وسلم ثلاثاً على عادته في كلّ دار، فلم يجبه أحد. فانصرف إلى فناء، فقعد في جماعة من أصحابه ثم جاء الحسن ووثب في حبوة جدّه فالتزمه جدّه، ثم قبله في فيه ثم راح يقول: الحسن مني والحسين من علي.
وكثيراً ما كان الناس يتعجبون من صنع الرسول هذا، كيف يعلنها لإبْنَيهِ إعلاناً، فذات مرة شاهده أحد أصحابه وهو يقبل الحسن ويشمه فقال - وقد كره هذا العمل -: إن لي عشرة ما قبَّلت واحداً منهم، فقال رسول الله: من لا يرحم لا يُرحم. وفي رواية حفص قال: فغضب رسول الله (ص) حتى التمع لونه وقال للرجل: ان كان الله نزع الرحمة من قلبك ما أصنع بك؟ ثم لما رأى مناسبة سانحة أردف قائلاً:
“ الحسن والحسين ابناي، مَن أَحبَّهما أحبني ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة. ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار “.
ثم أخذهما هذا عن اليمين وذاك عن الشمال، مبالغة في الحب.
ولطالما كان يسمع الصحابة قولته الكريمة:
“ هذان ابناي وابنا بنتي، اللهم إني أُحبهما، وأُحب من يحبهما “.
أو كلمته العظيمة يقولها وهو يشير إلى الحسن (ع): “ وأُحب من يحبه “.
ويرى أبو هريرة الإمام الحسن (ع) بعد وفاة جده الرسول فيقول له: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، ثمّ قبّل سرّته. ومن ذلك يظهر أن رسول الله (ص) كان يعلن ذلك إعلاناً، حتى يراه الناس جميعاً.
وقد بالغ النبيُّ (ص) في مدح الحسنين، حتى لكان يُظن أنهما أفضل من والدهما علي (ع)، مما حدا به إلى أن يستدرك ذلك فيقول: هما فاضلان في الدنيا والآخرة وأبوهما خير منهما.
.. وطالما كان يرفعهما على كتفيه - يذرع معهما طرقات المدينة والناس يشهدون، وقد يقول لهما:
“ نعم الْجَمل جَمَلُكما، ونعم الراكبان أنتما “.
وطالما كان ينادي الناس فيقول:
“ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة “.
أو:
“ الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا “.
أو:
“ الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا “.
ولقد قال - مرة -:
“ إذا كان يوم القيامة زين عرش رب العالمين بكلّ زينة، ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مائة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش، والآخر عن يسار العرش، ثم يؤتى بالحسن والحسين فيقوم الحسن على أحدهما والحسين على الآخر، يزيِّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه كما يُزَيِّنُ المرأةَ قرطاها “(3).
وعن الرضا عن آبائه عليه وعليهم السلام، قال: قال رسول الله:
“ الولد ريحانة وريحانتاي الحسن والحسين “(4).
وعن رسول الله (ص): “ من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني “(5).
وعنه (ص):” الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة “(6).
وروى عمران بن حصين عن رسول الله (ص) أنه قال له: “ يا عمران بن حصين! إن لكلّ شيء موقعاً من القلب، وما وقع موقع هذين من قلبي شيء قط..
فقلت: كل هذا يا رسول الله!
قال: يا عمران وما خفي عليك أكثر، إن الله أمرني بحبّهما “(7).
وروى أبو ذر الغفاري قال: رأيت رسول الله يقبِّل الحسن بن عليّ وهو يقول:
“ من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج، إلاّ ان يكون ذنباً يخرجه من الإيمان “(8).
وروى سلمان فقال: سمعت رسول الله يقول في الحسن والحسين:
“ اللهم إنّي أُحبُّهما فأَحبَّهما وأَحبب من أحبَّهما.. “.
وقال: “ من أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة ومن أبغضهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار “(9).
وما إلى ذلك من أقوال مضيئة نعلم - علم اليقين - أنها لم تكن صادرة عن نفسه، بل عن الوحي الذي لم يكن ينطق إلاّ به.
ولا زالت عناية الرسول تشمل الوليد حتى شبّ، وقد أخذ من منبع الخير ومآثره، فكان أهلاً لقيادة المسلمين. وهكذا رآه الرسول ومن قبله إله الرسول، إذ أوحى إليه أن يستخلف عليّاً، ثم حسناً وحسيناً، فطفق يأمر الناس بمودَّتهم واتِّباعهم واتخاذ سبيلهم. ولئن شككنا في شيء فلن نشك في أن من رباه الرسول، كان أولى الناس بخلافته.
بعد فقد الرسول:
وكان للحسن (ع) من العمر زهاء ثمانية أعوام حينما لحق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى (في السنة الحادية عشرة من الهجرة) فأثَّر في قلبه ألم الفاجعة، وأضرم فيه نيران الكآبة والحزن.
ولانصراف دفة الحكم عن أمير المؤمنين (ع)، الذي كان له الحق الشرعي فيها، أحسّ الحسن (ع) بمزيد من الحزن والغيظ، لا لأن والده حُرم حقّاً هو له، أو منصباً هو أهله، أو زوي عنه من الدنيا ما كان لهم.. كلا، لأنّه كان يرى أن انحراف المسلمين عن الجادة، يعني انحدارهم إلى هوة الضلال بعد انتشالهم عنها، ورجوعهم إلى مفاسد الجاهلية، بعد تخلصهم منها، لذلك حزن واشتد حزنه.
وذات يوم دخل المسجد فرأى الخليفة الأول يخطب في الناس على منبر جده، بل أبيه، فثارت في فؤاده لوعة وكآبة، فانقلبت إلى غيظ وسخط، فاخترق الجميع حتى بلغ المنبر قائلاً: انزلْ، انزلْ عن منبر أبي..؟
فسكت الخليفة الأول:
وكرر الحسن (ع) يقول: وقد تقدم إلى المنبر شيئاً: انزل، إياك أَعني. فقام صحابي، وضمّ الحسن (ع) إلى نفسه يُسكت عنه الروع، وساد الصمت حيناً، ثم اخترقه الخليفة الأول وهو يقول: صدقتَ فمنبر أبيك، ولم يزد شيئاً. ولكنه عاتب عليّاً (ع) بعد ذلك وقد ظن أنه أثار الحسن عليه، بيد أن الإمام (ع) حلف له أنه لم يفعل.
ونلتقي بالحسن (ع) بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة حينما اندلعت الثورة الجامحة من المسلمين تطالب الخليفة الثالث بخلع نفسه من الخلافة.. والثورة كانت تضطرم شيئاً فشيئاً، وينضم إليها المسلمون أفواجاً وأفواجاً.. وقد اشتد بهم الحنق على سياسة الخليفة وسلوك تابعيه، وكانت الثورة تنقاد بأمر العظماء من أصحاب الرسول (ص) وزعماء المسلمين، أمثال عمار بن ياسر، ومالك بن الحارث (الأشتر)، ومحمد بن أبي بكر، غير أنه انضوى تحت ألويتهم عدة غير قليلة من سواد الشعب من العراق، ومصر وطائفة من الأعراب، ولم يكن هؤلاء - طبعاً - ذوي سداد في الرأي، وحنكة في التجربة بل أُولي نخوة ومصالح.. واشتد أمر الثورة، حتى حاصروا دار عثمان يطالبونه: إما أن يخلع نفسه وإما أن يلبي دعوتهم. وأبى عثمان إلاّ الاعتماد على جيش معاوية. الذي استنجده وذلك الجيش كان قد أمره معاوية بالوقوف خارج المدينة حتى يأذن له بدخولها.
وذات يوم أراد الإمام أمير المؤمنين علي (ع) أن يخبر عثمان بعزمه على الدفاع عنه، والمشورة له والنصح للعالم الإسلامي، إن أراد ذلك.. ولكن من يبلّغ هذه الرسالة إلى عثمان، وحول بيته عشرات الألوف يهزون الرماح ويسلّون السيوف. فقام الحسن (ع) قائلا: أنا لذلك. ثم أخذ يخترق الجميع في عزيمة الشجاع العظيم، حتى أتى دار عثمان، فدخلها بكلّ طمأنينة وبلَّغ رسالة والده، وجلس ينصحه ويشير عليه بالخير غير مبالٍ بما يثيره الثوار خارج البيت من صلصلة سيوف، ودمدمة سروج، ودغدغة رماح. فإنهم كانوا في حالة صَرَع، لا يؤمن أن يخترقوا الدار، فيقتلوا من فيها، وفيها الحسن. غير أنه جلس رابط الجأش ثابت العزيمة، شجاع الفؤاد، لأنه علم أنه إن أصيب بشيء ففي سبيل النصح في سبيل الله ودفع غائلة الفتنة عن المسلمين.
وهكذا جلس حتى أتمّ واجبه وبلّغ رسالته، ورجع يخترق جموع الثوار مرة أخرى..
وحيناً آخر نجد الإمام الحسن (ع)، وقد قتل عثمان وازدحمت الحوادث من بعده، يرى من هنا معاوية يدعو إلى نفسه، ومن هنا الناكثون يحشدون الجيوش تحت قميص عثمان، وقد أُخرجت زوجة الرسول (ص) في الموكب لتنتقم.
والإمام الحسن (ع) كان يومئذ فتىً له كلّ مؤهلات القيادة والوصاية، وقد كان له الحظ الأوفر بعد أبيه في تسيير القضايا وتدبير الأمور، والعالم الإسلامي آنذاك أحوج ما يكون إلى تدبيره وسياسته، لأن خطأة واحدة كانت كفيلة بإبادتها رأساً.. والإمام أمير المؤمنين كان يتردد بين أمرين ما أصعب الاختيار بينهما. وهما أن يقعد ويتقاعس عن الحرب وقد أرادها له خصومه ليستولي على الأمور أولو المطامع والشهوات. أو أن يحارب - وقد فعل - وفي الحرب مذبحة المسلمين..
ولا يهمنا من ذلك إلاّ أن الإمام الحسن (ع) عاش تجارب والده الذي كانت تجاربه بنفسه. حيث إن والده العظيم كان يشاطره أمور الخلافة كلها لسببين:
أولاً: لِمَا كان فيه من الكفاءة والمقدرة.
ثانياً: لكي يهدي الناس إلى الإمام من بعده، وليروا في نجله العظيم القائدَ المحنَّكَ الحازمَ، والحاكمَ العادل الرؤوف. ففي اليوم الذي بويع والده بالخلافة كان عليه أن يرقى المنبر على عادة الخلفاء من قبله ليبين سياسته، لكي يكون الناس على خبرة وعلم. هكذا روت الأحاديث أنه (ع) استدعى الحسن (ع) ليصعد المنبر لئلا تقول قريش من بعده إنه لا يَحسن شيئاً، “ هكذا “ كما صرح بذلك أمير المؤمنين ذاته. فصعد المنبر، ووعظ الناس وأبلغ، ثم راح الإمام يردد فضائل السبطين على الملأ العام.
وظلّ الحسن (ع) الساعد المتين لوالده العظيم، في تلك الفتنة الكبرى، التي رافقت خلافة علي (ع)، نعم ففي فتنة البصرة بعث الإمام نجله على رأس وفد فيه عبد الله بن العباس، وعمار بن ياسر وقيس بن سعد، يستنفر أهل الكوفة لحرب الغدرة من أصحاب الجمل، وقد حمل معه كتاباً عن أمير المؤمنين فيه عرض خاطف عن قصة مقتل عثمان، وبيان الحقيقة في ذلك.. فجاء الإمام، يريد استنهاض الناس الذين كانت، ولازالت، ولاتها تثبطهم عن الخروج مع الإمام فعاتب أولاً أبا موسى الأشعري المراوغ، على تثبيطه الناس، وكان يومئذٍ والياً على الكوفة، ثم تلا عليهم الكتاب بنصه:
“ إني خرجت مخرجي هذا، إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً، وإمّا باغياً وإمّا مبغيّاً عَلَيّ، فأُنشد الله رجلاً بلغه كتابي هذا إلاّ نفر إليَّ، فإن كنت مظلوماً أعانني، وإن كنت ظالماً استعتبني “.
ثم أخذ يحثهم على الجهاد وهو يقول على ما في بعض الروايات:
“ أيها الناس إنّا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى كتابه وسنّة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه القرآن، ولم تجهله السنّة، ولم تقعد به السابقة. إلى من قرَّبه الله تعالى ورسولُه، قرابتين: قرابة الدين، وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كلِّ مأثرة. إلى من كفى الله به ورسوله، والناسُ متخاذلون. تقرَّب منه والناس متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم مُحجمون، وصدَّقه وهم يكذبون؛ إلى من لا ترد له راية ولا تكافأ له سابقة.
وهو يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحقّ ويأمركم بالمسير إليه، لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا راية بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثّلوا بعمُاله، وانتهبوا بيت ماله، فأشخصوا إليه رحمكم الله، فأمروا بالمعروف، وأنهوا عن المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون.. “.
هكذا أتم المقطوعة الأولى من خطبته.. فبيَّن لهم أولاً دستور صاحب الدولة، بنص الكتاب الذي أرسله الخليفة، ثم راح يبيِّن شخصية الداعي لهم حتى يأتمنوه على دينهم ودنياهم. ثم أخذ ببيان جانب الفتنة ليبعث فيهم الروح الإنسانية التي تحثهم على الدفاع عن المقدَّسات، وأخيراً تكلم معهم عن الناحية الدينية، فأبلغ بذلك كمال مراده.
ثم أَتبع هذه الخطبة، بأخرى، ألهب فيها حماساً، ودعا إلى الجهاد، ولازال بهم حتى إحتشد منهم جمع كثير، وكان هناك تدابير أخرى تتبع هذه الخطب، وتنفذها.
وسار الجيش إلى البصرة، والتقى الفريقان والتحم الجيشان، ورأى الإمام: أن الراية المعادية هي المركز الذي يجب أن يقصد، فإن وقعت فالعدو منهزم، وإن بقيت فإن في ذلك مقتلاً كبيراً من الفريقين ولا يريد ذلك الإمام (ع).
فتوجه إلى محمد بن الحنفية - نجله الشجاع الصنديد الذي كان مضرب المثل في الناس بالقوة والشجاعة - يأمره بالإقدام، ومحاولة اسقاط العلم، وقد كانت تلك المحاولة صعبة جدّاً، حيث إن الجيوش كانت تعتبر العلم كلّ شيء في نصرها أو هزيمتها، فكانت تدافع عنه بما أوتيت من قوة وبأس.
فأقدم محمد في عزيمة ثابتة، بيد أنه لم يَخْطُ خُطوات حتى عرف الخصم مناوءه، فجعل الجيش كله يُمطر عليه السهام، فإذا به يجد نفسه تحت وابل من النبال، فرجع إلى مركز القيادة عند أمير المؤمنين.. فزجره الإمام فأجاب: إنه إنما صبر حتى يخف النبل وثم يتابع زحفه وهنا يكتب بعض الرواة: أن الإمام عزم على إنجاز المهمة بنفسه، بيد أن الإمام الحسن قام يكفيه ذلك، فقال له والده، بعد تردد ربما كان ناشئاً عن محافظته الكبيرة على حياة السبطين لأنه كان ينحدر منهما نسل النبي (ص)، فإذا استشهد فمن الذي يحفظ نسب النبي (ص)؟. ومن الذي يكون إمتداداً له؟
قال له بعد أن تردد بعض الوقت: سر على اسم الله.
واقتحم الإمام خضم الجيش.. فتقاطرت عليه النبال، وعلي (ع) ينظر إليه عن كثب، ومحمد على جنبه يرق.. ولم يزل الحسن (ع) يغيب في لجج الرجال ويطفو عليها حيناً آخر، حتى بلغ مركز الراية فأسقطها، وهزم الجيش وتمّ النصر على يده (ع).
.. ولو ظللنا نتابع الأحداث التي جرت على خلافة أمير المؤمنين.. نتحسس عن شخصية الإمام الحسن (ع)، لطال ذلك بنا كثيراً، لأنها كانت الشخصية الثانية في تلك الأحداث الرهيبة، ولها من اللمعان والوضاءة ما يبهر الأبصار ويُدهش العقول.
وتمت المؤامرة الكائدة باغتيال الإمام أمير المؤمنين (ع) في التاسع عشر من شهر رمضان.. سنة أربعين هجرية.. والعالم الإسلامي يومئذٍ في أشد ما يكون من الاضطراب والتوتر.
فها هنا الخوارج ظلّ بقايا منهم هنا وهناك يدعون الناس إلى حكم الله الذي لا يتعلق بأي من القيادتين الشامية والكوفية - في زعمهم - بل يعيش بغير قيادة!! وانضوى تحت لوائهم الكثيرون من القشريين والمفسدين، ممن لم يكن يعجبه الحقّ المتمثل في معسكر الإمام علي ولا نوع الباطل في معسكر الشام. وكان هؤلاء يستسهلون في سبيل إبادة الحكم، كلّ صعب، ويبرِّرون كلّ فساد.
وهناك في الشام، يحشر معاوية جيشه لتجريد حملة عسكرية أخرى على الكوفة يكون فيها الفصل، ويكتب إلى عماله يقول ما هذا نصه بالحرف:
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان، ومَن قِبَلَه من المسلمين، سلام عليكم.. فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أما بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم فترك أصحابه محرَّفين مختلفين، وقد جاءنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم. فأَقْبِلُوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم، وحشد عدتكم. فقد أصبتم بحمد الله الثأر وبلغتم الأمل، وأهلّ الله أهل البغي والعدوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(10).(11)
أما الخوارج فإنهم وإن كانوا سوف يؤيدونه ضد معاوية، إلاّ أنهم سوف لا يزيدونه غير تخسير، لأنهم لا يعتقدون به كما أنهم لا يعتقدون بمعاوية سواءً بسواء.
ولنلق نظرةً إلى بيت الإمام علي (ع)، لنرى كيف يخبت فيه نور الإمام وسناؤه، ليدفن مع جثمانه الطاهر في ظهر الغريّ في خفاء، وعلى أشد الحذر من الخوارج أن يعرفوا مرقده، فيفكروا في الانتقام لصاحبهم (ابن ملجم) الذي أحرق جثمانه، ولخوفهم ومن غيرهم كجواسيس بني أمية الذين لا يفترون عن نقل الأخبار إلى الحزب الأموي(12).
ثم يرجع المشيعون من أبناء علي (ع) وأقربائه، ولا يزالون يقيمون العزاء إذ يدخل عليهم عبيد الله بن العباس، الذي كان والياً على البصرة من قِبَلِ علي (ع).. فيخرج الحسن إلى المسجد والمسلمون ينتظرون مقدمه على أحرّ انتظار.. ذلك لأنه قبل أن يدخل على الإمام، وقف في الرأس خطيباً، وقال: إن أمير المؤمنين تُوُفّي وقد ترك لكم خَلَفاً فان أجبتم خرج إليكم وإن كرهتم فلا لأحد على أحد.
فضج الناس بالبكاء والعويل، وكأن قول ابن العباس فجَّر ينابيع الكآبة والحزن في القلوب، ثم نادوا بأعلى أصواتهم: بل يخرج إلينا، فخرج إليهم الإمام الحسن (ع)، وحمد الله وأثنى عليه، ثم أبّن فقيد العالم الإسلامي، وقال:
“ لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله (ص) فيقيه بنفسه، وكان رسول الله (ص) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل (ع) عن يمينه وميكائيل عن شماله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه. ولقد تُوفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى ابن مريم، وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى (ع). وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم، فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.. “.
ثم خنقته العبرة، فبعث بأنفاسه زفرات يهز الصخر لها لوعةً وأسىً، وارتفع من الناس حسرات تبعتها آهات وآهات، ثم قال:
“ أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا “ الحسن بن علي “ وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل بيت افترض الله مودَّتهم عى كلّ مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيِّه (ص): قل لا أسألكم عليه أجراً ومن يقترف حسنة نزد له منا حسناً. فاقتراف الحسنة مَوَدَّتُنا أهل البيت “.
وهكذا انهالت الجماهير إلى بيعة الإمام الحسن (ع)، عن رضاً وطيب نفس، لانهم رأوا فيه المثال الفاضل لمؤهلات الخليفة الحق، (وعلى كلِّ حالٍ يجب أن يكون إمام المسلمين مختاراً من قبل الله تعالى منصوصاً عن لسان النبي (ص) قمة في المكرمات والفضائل، أكفأ الناس وأورعهم وأعلمهم والحسن (ع) كذلك، قد توفرت فيه شروط والي أمر المسلمين بأكمل وجه وأحسنه. وهو صاحب النص المأثور عن الرسول العظيم: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا.. وهو الذي شهد والده في حقه فقال:
“ هم “ يعني آل الرسول “ عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية؛ فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل “.
.. وبايعه الناس بعد أن حضّهم عليها خيار الصحابة والأنصار، فقد قال في ذلك عبيد الله بن العباس: “ معاشر الناس هذا ابن نبيِّكم، ووصي إمامكم فبايعوه “.
.. وكان للإمام الحسن (ع) حُبٌّ في القلوب نابعٌ عن صميم قلوب المسلمين.. وقد اتَّخذ اصله عن حُبِّ النبيِّ (ص) له، وحُبِّ الله تعالى لمن أَحَبه النبي.
أضف إلى ذلك، ما كانت تقتضيه الظروف، من رجل يقابل معاوية ومن التفَّ حوله من الحزب الأموي الماكر.. وله من كفاءة القيادة، وسداد الرأي، والمودة في قلوب المسلمين.
لذلك أسرع المسلمون إلى بيعته قائلين: “ ما أَحبه إلينا، وأوجب حقَّه علينا، وأحقه بالخلافة “.
وجاء في مقدمة الزعماء المجاهدين الأنصاري الثائر، قيس بن سعد فبايعه وهو يقول:
(أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنّة نبيه.. وقتال المحلين!).
فقال له الإمام: “ على كتاب الله وسنّة نبيه، فإنهما يأتيان على كلّ شرط “.
.. وتمت البيعة، في العقد الثالث من شهر رمضان المبارك بعد أربعين عاماً من الهجرة النبوية.. وكلما دخل فوج يبايعونه قال لهم:
“ تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت.. “.
.. فلما استوى الإمام (ع) على الحكم، فُرضت عليه مسؤولية حسم الخلاف بين المعسكرين، الذي كان في طريقه إلى هدِّ ركن الإسلام هدّاً، حيث إن الكفار في أطراف البلاد الإسلامية كانوا يتربصون بها الدوائر حتى إذا رأوا ضعفاً أو ثغرة سدّدوا ضربة مؤلمةٌ عليها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت أنباء جيش الشام تذاع في الكوفة والبصرة وسائر البلاد مع شيء من المبالغة. وكان الجميع يعلم أن حرباً وشيكة تنتظرهم.
وعندما حشد معاوية جيشه الجرار الذي انتهى عدده إلى ستين ألفاً، وقاده هو بنفسه بعد ما استخلف مكانه الضحاك: فكان على الإمام (ع) أن يحشد قوة الحق أيضاً لتقابل جولة الباطل، بيد أنه رأى أن يراسله قبل ذلك، إتماماً للحجة وقطعاً للعذر.
فأرسل إليه كتاباً، هذا بعضه:
“ فلما تُوفي (أيّ رسول الله (ص)) تنازعت سلطانه العربُ، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت أن القول ما قالت قريش وأن الحجة في ذلك لهم على مَن نازعهم أمر محمد فأنعمت(13) لهم وسلَّمت إليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها. إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاججتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظُلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو الولي النصير.
ثم قال: “ فاليوم فليتعجب من تَوَثُّبِك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه، والله خصيمك فَسَتَرِدُ وتَعلم لمن عقبى الدار. وبالله لَتَلقينَّ عن قليل ربك ثم ليجزينَّك بما قدَّمت يداك وما الله بظلاَّم للعبيد..
.. وقال: “ وإنما حملني إلى الكتابة إليك، الإعذار فيما بيني وبين الله عزَّ وجلَّ في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم اني أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أواب حفيظ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين. فوالله مالك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة، ولا تُنازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.. “.
.. وبعد ما تُبودلت الرسائل بين القيادتين.. ومنها رسائل الحسن (ع) تقوم بالحجة الدامغة التي ملاكها النقد والتجربة، ورسائل معاوية التي تقوم على المراوغة وإعطاء العهود والمواثيق على تقسيم بيت المال على حساب الوجاهات والمراتب القبلية الزائفة بعد ذلك وردت الأنباء بخبر احتشاد الجيش الأموي وابتدائه بالمسير إلى الكوفة، وكان على الإمام (ع) أن يتصدى لمقابلته، ولكنّ طريقة تعبئة الجند عند الإمام كانت تختلف كثيراً عن طريقة معاوية في ذلك. فمعاوية كان ينتقي ذوي الضمائر الميتة، والقلوب السود، فيشتريها بأموال المسلمين، وكان يستدعي بعض النصارى فيغريهم بالأموال الطائلة لمحاربة الإمام، وهم آنذاك لا يرون فصيلاً من ذلك لأنهم كانوا يرون في شخص الإمام (ع) المثال الكامل للإسلام، ذلك الدين الذي يبغضونه ويعادونه.
أما الإمام (ع)، فإنه كان يلاحظ في الجند أشياء كثيرة. فلم يكن يطعم اصحاب الوجاهة ويترك السواد يتضورون جوعاً. ولم يكن يعد الناس بالوعود الفارغة ثم يخلفها بعد أن يستتب له الأمر. ولم يكن يهب ولاية البلاد المختلفة بغير حساب لهذا أو ذاك، ولا كان يحمل الناس على الحرب حملاً قاسياً وهم لها منكرون.. ولم يكن يبيح للجند الفتك، وهتك الحرمات وابتياع الاسرى، وهو (ع) يعتبر عدوه فئة باغية من المسلمين يجب أن تُردع بأحسن طريقة ممكنة، ولكن معاوية وحزبه كانوا يرون مقابليهم عدواً سياسيّاً يجب أن يُمزق بأي أسلوب.
ولذلك فقد كان جمع الجيش ميسراً عند معاوية، وعلى عكس الأمر عند الإمام (ع) حيث كان ذلك من الصعوبة بمكان.
ولطالما أشار عليه بعض أصحابه بأن يتَّبع منهج معاوية في ذلك فأبى وأنكر عليهم الميل إلى الباطل والانحراف عن الحق.
وقد كتب إليه عبيد الله بن العباس واليه على البصرة يقول:
أما بعد، فإن المسلمين ولَّوك أمرهم بعد علي (ع) فشمر للحرب وجاهد عدوك، وقارب أصحابك واشترِ من الظنين دينَه بما لا يلثم لك دنياه، وولِّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة، فإن بعض ما يكره الناس مالم يتعد الحق، وكانت عواقبه تؤدّي إلى ظهور العدل وعزّ الدين؛ خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور، وذل المؤمنين وعزّ الفاجرين، واقتدِ بما جاء عن أئمة العدل، فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلاّ في حرب أو إصلاح بين الناس، فإن الحرب خُدعة، ولك في ذلك سعة إذا كنت محارباً مالم تبطل حقّاً.
وإعلم أن عليّاً أباك، إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء، وسوَّى بينهم في العطاء فثقل عليهم. وإعلم أنك تحارب مَن حارب الله وَرسوله في ابتداء الإسلام، حتى ظهر أمر الله. فلما وُحِّدَ الرب ومُحق الشرك وعَزَّ الدين، أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن، مستهزئين بآياته، وقاموا الى الصلاة وهم كسالى، وآتوا الفرائض وهم لها كارهون “.
ثم راح ابن العباس يستعرض الوضع الاجتماعي والمساوئ التي فيه، وبيَّن طبيعة البيت الأموي وماضيه وحاضره هذا.. ولكن الإمام (ع) أبى إلاّ أن يلزم الحقَّ شرعةً ومنهاجاً، ويتَّبع السبيل القويم، أبداً ودائماً.
ومع ذلك فقد حشّد من أهل الكوفة عدداً كبيراً، ولم يهمنا تحديده وضبطه، ولكن الذي يهمنا تحليل نفوس المنتسبين إليه، ومَن كانوا، ولِمَ جاؤوا وماذا كانت النتيجة؟
لقد قسّم المؤرخون جيشه إلى أقسام:
1- الشيعة المخلصون الذين اتَّبعوه لأداء واجبهم الديني، وإنجاز مهمتهم الإنسانية، وهم قلة.
2- الخوارج الذين كانوا يريدون محاربة معاوية والحسن، فالآن وقد سنحت الظروف فليحاربوا معاوية حتى يأتي دور الحسن (ع).
3- أصحاب الفتن والمطامع الذين يبتغون من الحرب مغنماً لدنياهم.
4- شكَّاكون لم يعرفوا حقيقة الأمر من هذه الحرب، فجاؤوا يلتمسون الحجة لأيٍّ تكون، يكونون معه.
5- أصحاب العصبية الذين اتبعوا رؤساء القبائل على استفزازهم لهم على حساب القبيلة والنوازع الشخصية.
هذه هي العناصر الأصيلة للجيش، وهي طبعاً لا تفي لإنجاز المهمة التي تكون من أجلها، حيث إن الحرب تريد الإيمان، والوحدة، والطاعة.
ثم بعث بأول سريّة لتشكِّل مقدمة الجيش تحت إمرة عبيد الله بن العباس، الذي فُضل لهذه المهمة من جهات شتى:
أولاً: لأنه كان الداعية الأول للحرب.
وثانياً: لأنه كان ذا سمعة طيبة في الأوساط.
وثالثاً: لأنه كان موتوراً بولديه العزيزين الذين قتلهما جنود معاوية. ثم إنه كان يشده إلى الإمام القرابة. وزحف ابن العباس بالجيش إلى (مسكن(14) على نهر دجلة) التقى بمعسكر معاوية، ينتظر تلاحق السريّات الأخرى من الكوفة.
وفي الكوفة، خليط من الناس مختلفون، فهناك من أنصار معاوية الذين أفسدتهم هدايا الحزب الأموي ومواعيده، وهناك بعض الخوارج القشريين، وهناك من يثبط الناس عن الجهاد، وهناك أهل البصائر يُلهبون حماس الشعب، ويحرضونهم لقتال أهل البغي بشتى أساليب الاستنهاض. والإمام الحسن (ع) لايزال يبعث الخطباء المفوَّهين، والوجهاء البارزين إلى الأطراف، يدعوهم إلى نصرته، ولا يزال أيضاً يُلهب أفئدة الكوفيين بالخطبة إثر الأخرى.
ولكن أهل الكوفة كانوا باردين كالثلج أمام هذه الدعوة، لأن الحروب الطاحنة التي سبقت عهد الإمام (من الجمل إلى صِفِّين والنهروان) قد أنهكتهم، وقد أعرب الإمام الحسن نفسه في مناسبة عن هذه العلة التي تثبط عزيمة أهل الكوفة عن الخروج معه فقال:
“ وكنتم في مسيركم إلى صفِّين ودينُكم أَمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أَمام دينِكم. وأنتم بين قتيلَين، قتيلٍ بصِفِّين تبكون عليه، وقتيلٍ بالنهروان تطلبون بثأره. فأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر “.
وبالرغم من معاكسة كلّ الظروف، فإن أصحاب الحق قرروا اقتحام غمار الجهاد المقدس، علَّهم يكونون الفاتحين.
ولكنها فعلتْ مكائدُ معاوية فعلَها، حيث كان قد سخّر طائفةً غير قليلة من ذوي الأطماع، يدبرون له مؤامراته، فيبثون الشائعات عن قوة جيش الشام، وقلة جند الكوفة، وضعفه، وعدم القدرة على مقاومته، وعملت الدنانير والدراهم عملها الخبيث الأرعن، فإذا بالعدة المعتمد عليها من قواد جيش الإمام الحسن (ع) ينهارون أمام قوة إعلام معاوية، أو قوة إغرائه.
ورغم أن قيادة السرية من جيش الإمام، كانت حكيمة، تحت لواء عبد الله بن العباس فقد ذهبت ضحية مكر معاوية، وتغرير القائد، وإليك القصة:
أرسل الإمام ابن عمه لملاقاة معاوية وكتب إليه هذه الوصية:
“ يا ابن العم، إني باعث إليك اثنَي عشر ألفاً، من فرسان العرب، وقَرَّاء مصر، الرجل منهم يريد الكتيبة. فِسِرْ بهم وأَلِنْ لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأَدْنِهم من مجالسك، فإنهم بقية ثقاة أمير المؤمنين. وَسِرْ بهم على شط الفرات، ثم امضِ حتى تستقبل معاوية. فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك، فاني على أثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كلّ يوم، وشاور هذَين - يعني قيس بن سعد، وسعيد بن قيس - فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله، حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتله؛ وإن أُصبتَ فقيس بن سعد على الناس، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس)(15).
ثم سار بنفسه - بعد أيام - في عدد هائل من الجيش، لعله كان ثلاثين ألفاً أو يزيدون، حتى بلغ مظلم ساباط، التي كانت قريبة من المدائن، فعملت دسائس معاوية في مقدمة جيش الإمام، فأذيع بين الناس نبأ كان له أثر عميق في صفوف الجيش. وكان النبأ يقول: (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فَلِمَ تقتلون أنفسكم؟) ثم أخذ يستميل قادة الجيش بالمال والوعود، فإذا هم يتسللون إليه في خفاء، ويكتب عبيد الله نبأ ذلك إلى الإمام. ولكن مؤامرته تلك لم تكن بذات أهمية، حتى اشترى ضمير القائد الأعلى فكتب إليه يقول:
إن الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلِّم الأمر إليّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلاّ دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الآن أعطيك ألف ألف درهم أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر.
إن معاوية مكر بعبيد الله بثلاثة أساليب، فإنه قال له:
أولاً: إن الحسن يراسله في الصلح، وهذه أول ما هدت أركان عبيد الله فقال في نفسه: إذن فلم أُسيء سمعتي في التاريخ، وأحمل خطيئة الدماء التي تهراق تحت لوائي. ثم قال له:
ثانياً: كن متبوعاً، فغره بالرئاسة. وأخيراً وعده بمليون درهم وهذا الأخير كان أهم الثلاثة، في شخص ألزمه إمامه بالعدل، والمساواة مع أقل الناس.
فأنسلّ عبيد الله القائد العام دون أن يخبر أحداً، فأصبح الجيش يبحث عن القائد ليقيم بهم صلاة الصبح فلا يجده، فقام قيس الثاني للجيش يصلي بالناس الصبح، ثم لما انتهى خطب فيهم يهدئ روع الناس، ويُطمْئن قلوبهم ويقول:
إن هذا وأباه لم يأتوا بيوم خيراً قط، إن أباه عمُّ رسول الله، خرج يقاتله ببدر، فأسره كعب بن عمرو الأنصاري، فأتي به رسول الله (ص) فأخذ فداءه، فقسّمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاه عليٌّ على البصرة فسرق ماله، ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال. وإنَّ هذا ولاّه عليٌ على اليمن، فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده، حتى قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع.
فإذا بالجيش يصبح مؤيداً.
الحمد لله الذي أخرجه من بيننا. إلاّ انّ هذا الجيش الذي هرب قائده إلى معسكر العدو، لم يكن في وضع يقاوم جيش معاوية لذلك تفرق أكثره ولم يبقَ منه إلاّ ربع عدده أربعة آلاف فقط.
وان هذا العدد الهائل الذي انتقص من اثني عشر بعث الخيبة في نفوس الجند في المقدمة، كما بعث الخيبة في نفوس سائر الجيش الثاوي في مظلم ساباط، حيث كان الإمام وحيث كان الجيش الذي انتشرت فيه دعايات معاوية، التي لازالت تُبث فيه عبر جواسيسه. وبدأ بعضهم يتسللون إلى معاوية وكتب بعضهم إليه أن لو شئت جئنا بالحسن إليك أسيراً، ولو شئت قتلناه. وجاءت عطايا معاوية التي زادت على مئة ألف غالباً، ووعوده بتزويج بناته لهذا القائد أو ذاك.
وهكذا نستطيع أن نعرف مدى ضغط الظروف التي أجبرت الإمام (ع) على الصلح، من هذه الخطبة اللاهبة، التي ألقاها على مسامع المساومين بالضمائر، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من جيشه (ع). ويظهر من هذه الخطبة أنهم كانوا متأثرين بدعايات معاوية إلى حد بعيد، حيث كانوا يلحُّون على الإمام بالتنازل عن حقه ومبايعة معاوية والإمام يأبى عليهم ذلك، كما يظهر أنه كان من الوجهاء مَنْ فَكَّرَ في اغتيال الإمام، كما اغتال صاحبُه أباه (ع).
وبعد كلّ ذلك كانت الظروف تُكره الإمام على الصلح مع معاوية إلى أجل هم بالغوه، فكتب إلى معاوية أو كتب إليه معاوية، على اختلاف بين المؤرخين في شأن الصلح، ورضي الطرفان بذلك بعد أن اتفقا على بنوده التي لم تكن ترجع إلى الإمام إلاّ بالخير، وعلى الأمة إلاّ بالصلاح.
ومن راجع كلمات الإمام الحسن (ع) التي قالها بعد الصلح لأصحابه بعد أن أنكروا عليه ذلك يعرف مدى تأثر قضيته بالظروف المعاكسة التي لم تزل ترفع إليهم بالفتنة إثر الفتنة.
لقد قال لأحدهم إذ ذاك:(16)
“ لستُ مُذِلاًّ للمؤمنين، ولكني مُعِزُّهم، ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَباطُؤَ أصحابي ونُكولَهم عن القتال “.
وقال للآخر في هذا الشأن - وقد كان من الخوارج الذين لم يكن بغضهم للحسن (ع) وشيعته بأقل عن بغضهم لمعاوية وأصحابه - قال له:
“ ويحك أيها الخارجي!! لا تقضِ، فإن الذي أحوجني إلى ما فعلت قتلكم أبي، وطعنكم إيّايّ، وانتهابكم متاعي. وإنّكم لمّا سرتم إلى صِفِّين، كان دينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ويحك أيها الخارجي! إني رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم، وما أغترٍ بهم إلاّ من ذل، وليس أحد منهم يوافق رأي الآخر. ولقد لقي أبي منهم أموراً صعبة، وشدائد مرّة، وهي أسرع البلاد خراباً وأهلها هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً “(17).
ولذلك ولغيره من الأسباب صالح الإمام معاوية وكتب إليه هذه الوثيقة التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
“ هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية الأمر على:
1- أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
2- وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر بعده للحسن ثم لأخيه الحسين.
3- وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم.
4- وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم ونسائهم وأولادهم. وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه.
5- وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله، غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في افق من الآفاق.
تعهد عليه فلان بن فلان، بذلك وكفى بالله تعهيداً “