المعصوم الرابع
الإمام الحسن بن علي عليه السلام
من كتاب / المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام
آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي
قدس سره
شهادة الإمام الحسن عليه السلام
من كلام الإمام الحسن عليه السلام
المعصوم الرابع
الإمام الحسن بن علي عليه السلام
نسبه عليه السلام:
هو الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
والده عليه السلام:
الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
والدته عليها السلام:
فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
كنيته عليه السلام:
أبو محمد، وأبو القاسم.
ألقابه عليه السلام:
المجتبى، والزكي، والسبط الأول، وسيد شباب أهل الجنة، والأمين، والحجة، والتقي، والولي، والطيّب.
ولادته عليه السلام:
وُلد في المدينة المنورة يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنتين أو ثلاث من الهجرة.
وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بكبش، وقال للسيدة الزهراء عليها السلام: (احلقي رأسه، وتصدقي بوزن شعره فضّة). فكان الوزن عن شعره بعد حلقه درهماً وشيئاً، فتصدقت به، فصارت العقيقة والتصدّق بوزن الشعر سنّة مستمرة بما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في حق الإمام الحسن عليه السلام.
صفته عليه السلام:
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (كان الحسن عليه السلام أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ما بين الرأس إلى الصدر...)(1).
وعن أنس بن مالك قال: (لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من الحسن بن علي)(2).
وقيل في صفته عليه السلام: كان الحسن عليه السلام أبيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين(3)، سهل الخدين، دقيق المسربة(4)، كثّ اللحية(5)، وكأن عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس(6)، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل ولا القصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً.
من أشعاره عليه السلام:
مما نسب إلى الإمام الحسن عليه السلام من الشعر، قوله:
نحن أُناس نوالنا خضل * * * يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا * * * خوفاً على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا * * * لغاض من بعد فيضه خجل(7)
نقش خاتمه عليه السلام:
كان له عليه السلام خاتم عقيق أحمر، نقشه: (العزة لله).
روي أنّ من نقش على فصّ خاتمه ذلك، كان في أموره مهيباً مصدّقاً عظيماً، والصلاة فيه بسبعين صلاة(8).
قالوا فيه عليه السلام:
كثر مادحو الإمام الحسن عليه السلام حتى من المخالفين والأعداء، فكل أخذ يعبّر بأسلوبه وطريقته عن عظمة هذا الإمام عليه السلام الذي ملأت فضائله الدنيا، منهم:
1. ابن حجر، قال: (وكان الحسن سيداً كريماً حليماً زاهداً، ذا سكينة ووقار وحشمة جواداً ممدوحاً)(9).
2. سبط ابن الجوزي، قال: (وكان عليه السلام من كبار الأجواد، وله الخاطر الوقاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يحبّه حبّاً جماً)(10).
3. أبو نعيم، قال: (السيد المحبب والحكيم المقرّب الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما)(11).
4. ابن شهر آشوب، قال: (قال واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي عليه السلام عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك)(12).
5. ابن أبي الحديد، قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يحبه، سابق يوماً بين الحسين وبينه فسبق الحسن عليهما السلام، فأجلسه على فخذه اليمنى، ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى، فقيل له: يا رسول الله أيهما أحبّ إليك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: أقول كما قال إبراهيم عليه السلام أبونا، وقيل له: أي ابنيك أحب إليك؟ قال: أكبرهما وهو الذي يلد ابني محمداً)(13).
من معاجزه عليه السلام
معاجز وكرامات الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كثيرة، منها:
دعوة ابن نبي
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (خرج الحسن بن علي عليه السلام في بعض سفره ومعه رجل من ولد الزبير لا يقول بإمامته، فنزلوا في منهل من المناهل، تحت نخل يابس، قد يبس من العطش. قال: ففرش لأبي محمد الحسن عليه السلام تحت نخلة، والزبيري بحذائه تحت نخلة أخرى.
قال: فقام الزبيري ورفع رأسه وقال: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه، فقال الحسن عليه السلام: (وإنك لتشتهي الرطب؟).
قال: نعم، فرفع عليه السلام يده إلى السماء ودعا بدعاء لم يسمع ولم يفهم، فاخضرت النخلة ثم صارت إلى حالتها فأورقت وحملت رطباً.
قال: فقال الجمال الذي اكتروا منه: سحر والله!
فقال الحسن عليه السلام: والله ليس بالسحر ولكن دعوة ابن نبي مجابة، فصعدوا إلى النخلة حتى صرموا)(14) ما كان فيها، وما كان كفاهم(15).
إنّا نعلم المكنون
عن ابن عباس، قال: مرّت بالحسن بن علي عليه السلام بقرة. فقال: (هذه حبلى بعجلة أُنثى لها غرّة في جبهتها، ورأس ذنبها أبيض). فانطلقنا مع القصاب، فلما ذبحها وجدنا الأمر على ما ذكر. فقلنا له: أ و ليس الله سبحانه يقول: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)(16) ويعلم ما في الأرحام،فكيف علمت هذا؟!.
فقال عليه السلام: (إنّا نعلم المكنون المخزون المكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرّب ولا نبي مرسل، غير محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وذريته عليهم السلام)(17).
مناقبيات
جسّد الإمام الحسن عليه السلام كبقية الأئمة الأطهار عليهم السلام خُلق الأنبياء عليهم السلام ومكارمهم وسجاياهم الطيبة، فهو عليه السلام من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، ومن مناقبه عليه السلام الكثيرة:
1. علمه عليه السلام:
كان الإمام الحسن عليه السلام وهو حجة الله على العباد، أعلم الناس بعد أبيه وجدّه عليهما السلام.
في الخبر أنه عليه السلام وإخوته وعبد الله بن العباس كانوا على مائدة، فجاءت جرادة ووقعت على المائدة. فقال عبد الله للحسن عليه السلام: أي شيء مكتوب على جناح الجرادة؟.
فقال عليه السلام: (مكتوب عليه: أنا الله لا إله إلاّ أنا، ربما أبعث الجراد رحمة لقوم جياع ليأكلوه، وربما أبعثها نقمة على قوم فتأكل أطعمتهم).
فقام عبد الله وقبّل رأس الحسن عليه السلام وقال: هذا من مكنون العلم(18).
* وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (إن الحسن بن علي عليه السلام كان عنده رجلان. فقال لأحدهما: إنك حدثت البارحة فلاناً بحديث كذا وكذا. فقال الرجل الآخر: إنه ليعلم ما كان! وعجب من ذلك.
فقال عليه السلام: إنا لنعلم ما يجري بالليل والنهار -ثم قال- إن الله تبارك وتعالى علّم رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم الحلال والحرام، والتنزيل والتأويل، فعلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم علياً علمه كله)(19).
2. عفوه عليه السلام:
كانت أخلاق الإمام الحسن عليه السلام كأخلاق جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يواجه المسيء بالعفو والصفح ويقابله بالتي هي أحسن، يقول المبرد: إن شاميّاً رآه عليه السلام راكباً فأخذ يلعنه، والإمام عليه السلام لا يرد عليه، ولما فرغ أقبل الإمام عليه السلام فسلّم عليه وضحك. فقال: (أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنتَ جائعاً أشبعناك، وإن كنتَ عرياناً كسوناك، وإن كنتَ محتاجاً أغنيناك، وإن كنتَ طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً).
ولما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: كنتَ أنت وأبوك أبغض خلق الله إليَّ!، والآن أنت أحب خلق الله إليَّ. وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم(20).
* وروي: أنه لما استشهد الإمام الحسن عليه السلام وأخرجوا جنازته حمل مروان بن الحكم سريره، فقال له سيد الشهداء عليه السلام: (تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ!).
فقال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال(21).
* وبلغ الإمام الحسن عليه السلام في حلمه وسماحته حتى قيل في حقه: إنه لم يسمع منه عليه السلام قط كلمة مكروه شيئاً.
3. جوده وكرمه عليه السلام:
بلغ الإمام الحسن عليه السلام من الكرم أنه سمّي بكريم أهل البيت عليهم السلام لكثرة عطاءه وجوده وسخائه، حتى أنّ رجلاً سأله فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: (ائت بحمّال يحمل لك). فأتى بحمّال فأعطاه طيلسانه، فقال: (هذا كرى الحمّال)(22).
وجاءه بعض الأعراب فقال: (أعطوه ما في الخزانة). فوجد فيها عشرون ألف درهم فدفعها إلى الأعرابي، فقال الأعرابي: يا مولاي، ألا تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي؟).
فأنشأ الإمام عليه السلام قائلاً:
نحن أُناس نوالنا خضل * * * يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا * * * خوفاً على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا * * * لغاض من بعد فيضه خجل(23)
ظلامات
عاش الإمام الحسن عليه السلام كأبيه أمير المؤمنين عليه السلام مظلوماً ومات مسموماً شهيداً، ومازالت ظلامته حتى اليوم قائمة وشاخصة للجميع.
ومن تلك الظلامات:
1. تجرّعه الغصص أيام حياته من شتم أبيه أمير المؤمنين عليه السلام بحضوره وتجاسر القوم على علي عليه السلام وطعنهم فيه، وهو لا يجد أنصاراً يقفون أمام هذا السباب.
2. خذلان الأمة له والتفافها حول معاوية وأتباعه، حتى اضطر أن يصالح معاوية بعد أن جند لقتاله الجيوش.
3. تجاسر حتى بعض الخواص عليه بعد اضطراره للصلح حتى قال له بعضهم: ليتك مت ومتنا معك. وقال الآخر: يا مذل المؤمنين.
4. نكث معاوية لكل العهود والمواثيق التي أعطاها للإمام عليه السلام، ومع ذلك لم تهب الأمة لنصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وسيد شباب أهل الجنة.
5. تلفيق بعض التهم الرخصية حول شخصيته عليه السلام أمثال أنه كان مزواجاً مطلاقاً.
6. سمه عليه السلام على يد زوجته جعدة بنت الأشعت بأمر من معاوية.
7. تجاسر القوم على جنازته عليه السلام حتى رميت بالسهام.
8. عدم السماح بدفنه إلى جنب جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
9. ما شاهده من غصب القوم لخلافة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام.
10. ما شاهده من الهجوم على الدار، وقتل أخيه المحسن عليه السلام، وكسر ضلع أمه الزهراء عليها السلام، وما جرى عليها من المصائب مما سبب استشهادها، ففقد أمه الطاهرة وهو طفل صغير.
إلى غيرها وغيرها..
حقد معاوية
عمد معاوية بن أبي سفيان إلى تضليل الأمة وإقصائها عن علي أمير المؤمنين عليه السلام عبر أساليب شتى منها:
1. سنّ لعن الإمام عليه السلام وسبّه على منابر المسلمين حتى صارت سنة يلتزم بها القوم، وقد نسي أحد الخطباء اللعن مرة فذكّروه في الطريق فوضع له منبراً وأخذ يلعن أمير المؤمنين عليه السلام، فشيّدوا مسجداً في ذلك المكان سمّي بمسجد الذكر(24).
2.بعث معاوية إلى عمّاله ومواليه في البلاد أن برئت الذمة ممّن ذكر منقبة من مناقب أبي تراب عليه السلام وكان جزاؤه القتل.
3. دعا مواليه وعمّاله أن يأخذوا الموالين لأمير المؤمنين عليه السلام بالظنة والتهمة ويقتلوهم.
4. قطع راتب كل موال لأمير المؤمنين عليه السلام بما فيهم حبر الأمة ابن عباس.
5. أمر الوضّاعون أن يضعوا الأحاديث المزيفة ضد أمير المؤمنين عليه السلام انتقاصاً منه.
6. دعا الخطباء وغيرهم أن يضعوا الأحاديث في فضل من غصب حق علي عليه السلام وينسبوا فضائل الإمام علي عليه السلام إليهم.
كل هذه الأمور عايشها الإمام الحسن عليه السلام وتجرّع مرارتها وغصصها حتى بلغ الأمر أنّه كان يُسبّ أمير المؤمنين عليه السلام في المجالس التي كان الإمام الحسن عليه السلام حاضراً فيها. ففي الخبر عن أبي مجلز، أن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وبمحضر الإمام الحسن بن علي عليه السلام صعد كل منهما المنبر وذكر علياً عليه السلام بسوء ووقع فيه(25).
ولمّا ولي مروان المدينة كان يسب الإمام علي عليه السلام على المنبر كل جمعة، ثم ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسب، ثم أعيد مروان فعاد للسب، وكان الإمام الحسن عليه السلام يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للإمام الحسن عليه السلام في بيته بالسب البليغ لأبيه وله(26).
هذا وكان من ضمن شروط صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية أن يترك معاوية سب أمير المؤمنين عليه السلام، والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكره إلا بخير. فقبل معاوية ذلك ولم يف به وقال: إني منيت الحسن وأعطيته أشياء جعلتها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له(27).
خذلان الأمة
جهز الإمام الحسن عليه السلام جيشاً لمقاتلة معاوية وردعه عن باطله، ولكن الناس خذلوه، فكان من أسباب صلحه معه خذلان الأمة وتباطئهم عن نصرته عليه السلام، حتى قال عليه السلام في كلام له حين اجتمع بمعاوية: (وقد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من قومه وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية)(28).
وقال بعضهم له عليه السلام لما صالح معاوية: يا بن رسول الله، أذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً، ما بقي معك رجل. قال: (ومم ذاك؟).
قال: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. قال: (والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً، إنهم لا وفاء لهم، ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا)(29).
وقال عليه السلام: (أرى الناس يقولون: إنّ الحسن بن علي بايع معاوية طائعاً غير مكره. وأيم الله ما فعلت حتى خذلني أهل العراق، ولولا ذلك ما بايعته ولا نعمة عين)(30).
تجاسر ما بعده تجاسر
بعد أن صالح الإمام الحسن عليه السلام معاوية، اعترض عليه بعض صحابته ومنهم من تجاسر:
* فقال بعضهم لما دخل على الإمام عليه السلام: (السلام عليك يا مذلّ المؤمنين)!. فقال عليه السلام: (وعليك السلام، اجلس).
ولما استقر به المجلس، التفت عليه السلام إليه وقال: (لست مذلاً للمؤمنين، ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال)(31).
* وقال بعضهم: (ما ينقضي تعجبنا منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز)!
فقال الإمام الحسن عليه السلام: (قد كان ذلك، فما ترى الآن؟).
فقال: والله أرى أن ترجع؛ لأنه نقض العهد.
فقال عليه السلام: (إنّ الغدر لا خير فيه، ولو أردت لما فعلت)(32).
* وقال بعضهم: (أما والله لوددتُ أنك متَّ في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم؛ فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا). فلما خلا به الحسن عليه السلام قال له: (قد سمعت كلامك في مجلس معاوية وليس كل إنسان يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلا إبقاءً عليكم، والله تعالى كل يوم هو في شان)(33).
وقال عليه السلام:
أجامل أقواماً حياءً ولا أرى * * * قلوبهم تغلي علي مراضها(34)
وقال عليه السلام:
لئن ساءني دهر عزمت تصبراً * * * وكل بلاء لا يدوم يسير
وإن سرني لم أبتهج بسروره * * * وكل سرور لا يدوم حقير(35)
* وقال سفيان بن الليل عند ما أتى الإمام عليه السلام: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال عليه السلام: (عليك السلام يا سفيان انزل). يقول: فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه، فقال: (كيف قلت يا سفيان!). فقلت: السلام عليك يا مذل رقاب المؤمنين. فقال: (ما جر هذا منك إلينا؟).
فقلت: أنت والله -بأبي أنت وأمّي- أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر إلى اللعين بن اللعين بن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك. وقد جمع الله لك أمر الناس.
فقال عليه السلام: (يا سفيان، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني سمعت علياً عليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع لا ينظر الله إليه ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر وإنه لمعاوية وإني عرفت أن الله بالغ أمره).
ثم أذن المؤذن فقمنا على حالب يحلب ناقة فتناول الإناء فشرب قائما ثم سقاني فخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي: (ما جاءنا بك يا سفيان؟). قلت: حبكم والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلّم بالهدى ودين الحق.
قال: (فأبشر يا سفيان فإني سمعت علياً عليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: يرد عليّ الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين -يعني السبابتين- ولو شئت لقلت هاتين -يعني السبابة والوسطى- إحداهما تفضل على الأخرى. ابشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد عليهم السلام )(36).
دواعي الصلح وأسبابه
بما أنّ قضية الصلح من المسائل المهمة في حياة الإمام الحسن عليه السلام فلا بأس ببيان أهم أسبابه ودواعيه:
إنّ الإمام الحسن عليه السلام في بادئ الأمر كان عازماً على مقاتلة معاوية -بعدما بلغه سير معاوية نحو العراق وأنه وصل إلى جسر منبج وهجم على بعض المناطق وقتل المسلمين فيها- حيث إن الإمام عليه السلام أعدّ العدّة وهيأ الرجال للحرب. فبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالتهيؤ لمقاتلة معاوية، وصلّى عليه السلام بالناس جماعة وخطب فيهم ودعاهم إلى الجهاد والخروج لقتال جيش معاوية.
ولكن هناك عدة عوامل جعلت الإمام الحسن عليه السلام يعرض عن مقاتلة معاوية ويصالحه، منها:
1. خيانة القوم: فمن الذين نصبّهم الإمام الحسن عليه السلام على جيشه هو عبيد الله بن العباس، وقد أرسل إليه معاوية: (إنّ الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن اُعطيك ألف ألف درهم، يعجّل لك في هذا الوقت النصف، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر). فانسل عبيد الله ليلاً فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده(37).
كما ترك النجاشي، ومصقلة بن هبيرة، والقعقاع بن شور، وغيرهم الإمام عليه السلام بعد أن بايعوه، والتحق كل منهم بمعاوية.
2. تغلغل المنافقين: كثر المنافقون في جيش الإمام الحسن عليه السلام وقد راسل معاوية بعضهم فكتبوا إليه بالطاعة في السرّ واستحثوه على السير نحوهم وضمنوا له تسليم الإمام الحسن عليه السلام إليه عند دنوهم من عسكره، أو الفتك به.
وقد بلغ الإمام عليه السلام بعد أن كتب إليه قيس بن سعد يخبره أنّ القوم قد غدروا، وأن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن العباس يرغبه في المصير إليه وضمن له ألف ألف درهم، فالتحق عبيد الله بمعسكر معاوية وفقد الناس قائدهم العسكري.
3. ارتياب الناس وعصيانهم: فإنّهم لما بايعوا الإمام عليه السلام اشترط عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه ويسالموا من سالم ويحاربوا من حارب، فارتابوا في أمرهم وفهموا منه أنه لا يريد قتالاً، فلم يلبث عليه السلام إلا قليلاً حتى طعنه أحدهم طعنة في فخذه، وهذا يكشف عن عصيانهم للإمام عليه السلام وعدم امتثالهم لأوامره.
4. تخلف القوم: فإنّ الإمام الحسن عليه السلام خرج للقتال وحث الناس على الجهاد وأرسل جيشاً للثغور، وخرج عليه السلام بنفسه بعد أن استخلف على الكوفة ابن عمّه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولكن كثيراً من القوم تخلّفوا عنه ولم يخرجوا معه، علماً أنهم كانوا قد بايعوه على نصرته، فبقي معسكره بالنخيلة عشرة أيام وليس معه سوى أربعة آلاف.
5. عدم خلو الأمر من المفسدة: فإنّه بعدما أخذ معاوية ينادي بالصلح، فإن كان الإمام الحسن عليه السلام يستمر بمقاتلة معاوية حتى ينتصر عليه، فإن هذا الاحتمال ضعيف كما أشرنا إليه لغدر أصحابه، وعلى فرض الانتصار كان يتذرّع معاوية وجماعته بالمظلومية وعدم قبول الإمام عليه السلام الصلح.
والاحتمال الآخر أن الإمام عليه السلام يُهزم وحينئذ ينسب إليه الإقدام على التهلكة لعدم قبوله الصلح.
6. طلاب الدنيا: فإنّ أكثر الذين بايعوا الإمام الحسن عليه السلام كانوا من طلاب الغنائم والمناصب الذين إن أعطوا رضوا، وإن مُنعوا سخطوا، ولم يكن الإمام عليه السلام يسير إلاّ بسيرة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وهي السير بالعدل والمساواة، الأمر الذي جعل كثيراً منهم يتفرّق عنه ويركن إلى معاوية.
7. فضح معاوية: فمن خلال الصلح وضع الإمام الحسن عليه السلام معاوية بين أمرين حرجين، فإمّا أن يلتزم ببنود الصلح وهو بعيد جداً، أو ينقض العهد والميثاق فيكشف للناس حقيقته المخفية على الكثيرين، فاختار معاوية الأمر وأبى إلاّ أن يفضح نفسه بنفسه.
وبالطبع إذا كان يلتزم معاوية ببنود الصلح، كان ذلك مكسباً عظيماً للشيعة، وتقييداً واضحاً لمعاوية، فإنه كان من بنود الصلح:
ألف: تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم وسيرة الخلفاء الصالحين.
ب: ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده، بل يكون الأمر للإمام الحسن عليه السلام، فإن حدث له حدث فللإمام الحسين عليه السلام.
ج: الأمن العام لعموم الناس، وأن يحتمل عنهم معاوية ما يصدر من هفواتهم ولا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنه.
د: أن لا يتسمّى معاوية بأمير المؤمنين.
هـ: أن لا تقام عنده الشهادة.
و: أن يترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام ولا يذكره إلا بخير.
ز: أن يوصل لكل ذي حقّ حقّه.
ح: ن يأمن الشيعة ولا يتعرّض لهم بمكروه.
ط: أن يمنح أبناء من قتلوا في صفين والجمل ألف ألف درهم.
ي: أن يمنح الإمام الحسن عليه السلام ما في بيت مال الكوفة، ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل سنة مائة ألف.
ك: أن لا يبغي للإمام الحسن عليه السلام ولا للإمام الحسين عليه السلام ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق(38).
وهكذا فضح الإمام الحسن عليه السلام معاوية بهذه البنود، وسلب الشرعية منه، حيث نقضها بالكامل.
افتراءات لا أصل لها
من الافتراءات المدسوسة التي دسها الوضاعون للتنقيص من شخصية الإمام الحسن عليه السلام ما نسب إليه من كثرة زواجه وطلاقه حتى لقّبه البعض بالمطلاق، وقال بعضهم: إنّ عدد زوجاته بلغ المائتين والخمسين! وقيل: ثلاثمائة!، ونسبوا للإمام علي عليه السلام أنه كان يضجر من ذلك ويكره حياءً من أهلهن إذا طلقهن، وكان يقول: حسن مطلاق فلا تنكحوه!،أو أنه لما استشهد خرجت جمهرة من النسوة حافيات حاسرات خلف جنازته، وهنّ يقلن: نحن أزواج الإمام الحسن عليه السلام!.
ومن تتبّع التاريخ يرى أن المكثرين الذين ذكروا أسماء زوجات الإمام الحسن عليه السلام لا تتجاوز الأربعة عشر في مختلف الفترات، والعديد منهن مطلقات قبل الإمام فتزوجها عليه السلام أمثال: أم بشر بنت مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري وقد تزوجت قبل الإمام عليه السلام برجلين، وخولة بنت منظور بن زبان الفزارية وكانت زوجة محمد بن طلحة وولدت له، وأسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي وقد تزوجت عبيد الله بن عمر ثم تزوجها الإمام الحسن عليه السلام، وهند بنت سهيل بن عمرو وقد تزوجت عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ثم تزوجت من عبد الله بن عامر بن كريز، فطلقها ثم خطبها معاوية ليزيد وفي الوقت نفسه خطبها الإمام الحسن عليه السلام ففضلته على يزيد وتزوجته.
وعلى فرض صحة هذا المقدار فإنه لم يكن آنذاك أمراً غريباً، حيث كان من المتعارف الزواج بأربعة، وبعض أمهات الأولاد.
فقد تزوج الإمام علي عليه السلام بتسع، وتزوج ابن الخطاب بعشرة، وتزوج عثمان بثمان، على ما ذكر.
من جانب آخر كيف يمكن أن يأمر الإمام علي عليه السلام الناس بأن لا يزوجوا الإمام الحسن عليه السلام لأنه مزواج مطلاق؛ فإنه ينافي العصمة فكيف لا يرتضي المعصوم بفعل المعصوم، والإمام الحسن عليه السلام معصوم بنص آية التطهير.
شهادة الإمام الحسن عليه السلام
بعد أن نقض معاوية الصلح وكشف عن حقيقته المخفية عن كثير من الناس، إذ كان شغله الشاغل أن يدلي بالخلافة لابنه يزيد، والحال أنه جعل ولاية العهد بعده للإمام الحسن عليه السلام. لذا فقد عمد إلى مكيدة وخطط حيلة للتخلص من الإمام عليه السلام عبر طريقته المشهورة: إنّ لله جنوداً من عسل. فبعث إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام: إنكِ إن احتلتِ في قتل الحسن وجهت إليكِ بمائة ألف درهم، وزوجتكِ من يزيد(39).
وكان الإمام الحسن عليه السلام قد سقي السم مراراً، وإلى ذلك يشير عمير بن إسحاق قائلاً: كنّا عند الحسن بن علي عليه السلام فدخل المخرج ثم خرج. فقال: (سقيت السم مراراً وما سقيته مثل هذه المرّة، ولقد لفظت طائفة من كبدي، فرأيتني أقلبها بعود معي).
وفي الخبر أنّ سالم بن أبي الجعد قال: قلت: أفلا تتداوى؟.
فقال عليه السلام: (قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء، ولقد رقى إليَّ: أنه كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجه إليه من السم القتال شربة. فكتب إليه ملك الروم: إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا. فكتب إليه: إن هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، وقد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد أن أدس إليه من يسقيه ذلك، فأريح العباد والبلاد منه. ووجه إليه بهدايا وألطاف فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس فيها فسقيتها واشترط عليه في ذلك شروطاً)(40).
وعن أبي جعفر عليه السلام: لما حضرت الحسن عليه السلام الوفاة بكى، فقيل له: يابن رسول الله تبكي ومكانك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الذي أنت به، وقد قال فيك ما قال، وقد حججت عشرين حجّة ماشياً، وقد قاسمت مالك ثلاث مرّات حتى النعل بالنعل؟!.
فقال عليه السلام: (إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة)(41).
وعن رؤبة بن مصقلة قال: لما نزل بالحسن عليه السلام الموت قال: (أخرجوا فراشي إلى صحن الدار). فأخرجوه فرفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إني أحتسب عندك نفسي؛ فإنها أعزّ الأنفس عليَّ لم أُصب بمثلها. اللهم ارحم صرعتي، وآنس في القبر وحدتي). ثم توفي عليه السلام(42).
ولما بلغ معاوية خبر شهادة الإمام الحسن عليه السلام فرح فرحاً شديداً، وإلى ذلك يشير ابن قتيبة قائلاً: فلما كانت سنة إحدى وخمسين، مرض الحسن بن علي عليه السلام مرضه الذي مات فيه. فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن استطعت أن لا يمضي يوم يمر بي إلاّ يأتيني فيه خبره فافعل. فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفي. فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً، حتى سجد وسجد من كان معه, فبلغ ذلك عبد الله بن عباس -وكان بالشام يومئذ- فدخل على معاوية، فلما جلس قال معاوية: يا بن عباس هلك الحسن بن علي. فقال ابن عباس: نعم هلك (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(43) -ترجيعاً مكرراً- وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته!. أما والله ما سدّ جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في عمرك. ولقد مات وهو خير منك، ولئن أُصبنا به لقد أُصبنا بمن كان خيراً منه، جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة(44).
تجهيز ودفن
شُيّع الإمام الحسن عليه السلام تشيعاً مهيباً، فعن جهم بن أبي جهم قال: لما مات الحسن بن علي عليه السلام بعثت بنو هاشم إلى العوالي صائحاً يصيح في كل قرية من قرى الأنصار بموت الحسن عليه السلام، فنزل أهل العوالي ولم يتخلّف أحد عنه(45).
وفي الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (لما حضر الحسن بن علي عليه السلام الوفاة. قال للحسين عليه السلام: يا أخي، إني أوصيك بوصية فاحفظها، إذا أنا مت فهيئني ثم وجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لأحدث به عهداً، ثم اصرفني إلى أمي عليها السلام ثم ردني فادفني بالبقيع. واعلم أنه سيصيبني من عائشة ما يعلم الله والناس صنيعها وعداوتها لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلّم وعداوتها لنا أهل البيت. فلما قُبض الحسن عليه السلام وضع على السرير ثم انطلقوا به إلى مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلى عليه الحسين عليه السلام وحمل وادخل إلى المسجد. فلما أوقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذهب ذو العوينين(46) إلى عائشة، فقال لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن ليدفنوا مع النبي عليه السلام. فخرجت مبادرة على بغل بسرج -فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجاً- فقالت: نحوا ابنكم عن بيتي! فإنه لا يدفن في بيتي ويهتك على رسول الله حجابه. فقال لها الحسين عليه السلام: قديماً هتكتِ أنتِ وأبوكِ حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأدخلتِ عليه ببيته من لا يحب قربه، وإن الله سائلكِ عن ذلك يا عائشة)(47).
ثم إنهم رموا جنازة الإمام الحسن عليه السلام حتى سلّ منها سبعون نبلاً(48).
فقد جاء في الزيارة الجامعة لأئمة المؤمنين: (وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته، وشهيد فوق الجنازة قد شكّت بالسهام أكفانه)(49).
وقد ذهب المؤرخون إلى أنّ عائشة هي التي أمرت برمي الجنازة(50).
قولها: عن بيتي، مغالطة عظيمة فإنها ليست إلا زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ليس لها من الإرث سوى التسع من الثمن، والأرض لا ترث الزوجة منها، ثم ما بالها ترث من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ولا ترث ابنته الصديقة فاطمة عليها السلام؟!.
أولاده عليه السلام
ذكروا أن الإمام الحسن عليه السلام خلّف خمسة عشر ولداً بين ذكر وأنثى، منهم:
1. زيد: وهو أول أولاده عليه السلام وكان جليل القدر، كريم الطبع، كثير البر، وقد ولي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو أسن بني الحسن، ولم يذكر أنه شهد معركة كربلاء، وربما كان ذلك بإيعاز من الإمام الحسين عليه السلام.
2. الحسن: المعروف بالمثنى، وكان جليلاً ورعاً، وقد ولي صدقات جدّه أمير المؤمنين عليه السلام، وقد شهد الحسن كربلاء وكانت فيه جراحات كثيرة وأسر ضمن من أسر، ولكن أسماء بن خارجه الفزازي أخرجه من الأسر وجاء به إلى الكوفة وداواه حتى برأ وذهب إلى المدينة.
وكان الحسن صهر عمه الإمام الحسين عليه السلام حيث تزوج ابنته فاطمة، وقيل: إنه لما خطب إلى عمه إحدى ابنتيه (فاطمة وسكينة). قال له الإمام الحسين عليه السلام: (اختر يا بني أحبهما إليك). فاستحى الحسن ولم يحر جواباً، فقال الإمام الحسين عليه السلام: (فإني اخترت لك ابنتي فاطمة؛ فهي أكثرهما شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم).
وقد ذكر المؤرخون أنه لما طلب عبد الملك بن مروان من واليه على المدينة أن يقيم آل علي عليه السلام ليشتموا آل الزبير، ويقيم آل الزبير ليشتموا آل علي عليه السلام أبى الحسن المثنى ذلك فضرب حتى سال دمه. وأما وفاته فقد مات الحسن المثنى مسموماً بين مكة والمدينة في حاجز.
3- عبد الله سماه البعض بأبي بكر وليس بصحيح، وأمّه أمّ ولد، وهو أخو القاسم لأبيه وأمه، وقد حضر مع عمه في كربلاء وقتل، وعمره آنذاك ستة عشر سنة.
4. القاسم: وقد حضر كربلاء واستشهد بين يدي عمه سيد الشهداء عليه السلام بعد أن قرأ عوذة أبيه الذي أوصاه أن يقرأها لما يعتريه الغم الشديد، فوجد فيها أنّ أباه يوصيه بنصرة عمه الحسين عليه السلام. فقصد عمّه وعرض عليه الوصية، فلما قرأها الحسين عليه السلام تأوه وعلا صوته بالبكاء، ثم أخبره الإمام الحسين عليه السلام بوصية أخرى لأبيه الإمام الحسن عليه السلام. فطلب من أمه أن تلبسه ثيابه الجدد، وقال لأخته السيدة زينبعليها السلام أن تأتيه بعيبة أخيه. فأحضروه له ففتح الصندوق وأخرج منه قباء الإمام الحسن عليه السلام وألبسه القاسم، ووضع على رأسه عمامة الإمام الحسن عليه السلام، وأخذ بيد بنته المسمّاة باسم القاسم، وقال عليه السلام: (إنّ هذه أمانة أبيك التي أوصاك بها، ولقد كانت عندي حتى هذه الساعة سلوة). ثم عقد البنت له، ووضع يدها بيد القاسم وخرج من الخيمة(51).
حكام عصره عليه السلام
عاصر الإمام الحسن عليه السلام حكومة جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم ومن ثم حكومة من غصب الخلافة ومن بعدهم حكومة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك مقداراً من حكومة معاوية بن أبي سفيان.
أما معاوية، ففي ربيع الأبرار للزمخشري قال: إنه يعزى إلى أربعة(52).
وكان معاوية يحمل حقداً عظيماً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وإلى ذلك يشير المطرف بن المغيرة بن شعبة قائلاً: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبى يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه. إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا. فقلت: ما لي أراك مغتما منذ الليلة؟!
فقال: يا بني، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟.
قال: قلت له -وقد خلوت به-: إنك قد بلغت سناً يا أمير، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال: هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: (أشهد أن محمداً رسول الله)، فأي عملي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك! لا والله إلا دفناً دفناً(53).
وكان معاوية يلبس الحرير ويشرب بآنية الذهب والفضة حتى أنكر عليه أبو الدرداء. فقال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إنّ الشارب فيهما ليجرجر في جوفه نار جهنم). فقال معاوية: أمّا أنا فلا أرى بذلك بأساً. فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبداً(54).
وهو أول من اتخذ الحرس والبواب، ومن أقبح أفعاله سن لعن وسب أمير المؤمنين عليه السلام فوق المنابر حتى صارت سنة يكبر عليها الصغار ويهرم عليها الكبار، وهو الذي قتل الخيرة من صحابة أمير المؤمنين عليه السلام أمثال عمار بن ياسر ومالك الأشتر وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم.
من كلام الإمام الحسن عليه السلام
1. قال الإمام الحسن عليه السلام: (لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقاً)(55).
2. وقال عليه السلام: (المزاح يأكل الهيبة، وقد أكثر من الهيبة الصامت)(56).
3. وقال عليه السلام: (المصائب مفاتيح الأجر)(57).
4. وقال عليه السلام: (النعمة محنة، فإن شكرت كانت نعمة، فإن كفرت صارت نقمة)(58).
5. وقال عليه السلام: (الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود)(59).
6. وقال عليه السلام: (لا يعرف الرأي إلاّ عند الغضب)(60).
7. وقال عليه السلام: (كفاك من لسانك ما أوضح لك سبيل رشدك من غيك)(61).
8. وقال عليه السلام: (تجُهل النعم ما أقامت، فإذا ولت عرفت)(62).
9. وقال عليه السلام: (عليكم بالفكر! فإنه حياة قلب البصير، ومفاتيح أبواب الحكمة)(63).
10. وقال عليه السلام: (أوسع ما يكون الكريم بالمغفرة إذا ضاقت بالمذنب المعذرة)(64).
11. وقال عليه السلام: (صاحِبِ الناس مثل ما تحب أن يصاحبوك به)(65).
12. وقال عليه السلام: (ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود، وإن الكافر يتمتع -وكان عليه السلام يتلو بعد هذه الموعظة- (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)(66) (67).
13. وقال عليه السلام: (اللؤم أن لا تشكر النعمة)(68).
14. وقال عليه السلام: (من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان: آية محكمة، وأخا مستفاداً، وعلماً مستطرفاً، ورحمةً منتظرة، وكلمةً تدله على هدى، أو ترده عن ردى، وترك الذنوب حباً، أو خشية)(69).
15. وقال عليه السلام: (البخل جامع للمساوئ والعيوب، وقاطع للمودات من القلوب).
16. وقال عليه السلام: (الناس في دار غفلة يعملون ولا يعلمون ويكسبون ويقترفون من حيث لا يدرون، فإذا صاروا إلى دار الآخرة صاروا إلى دار يقين يعلمون ولا يعملون)(70).
17. وقال عليه السلام: (من عرف الله أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، فإذا تفكر حزن)(71).
18. وقال عليه السلام: (أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكر؛ فإن التفكر أبو كل خير وأُمّه)(72).
19. وقال عليه السلام لبنيه: (تعلموا العلم؛ فإنكم صغار القوم وكبارهم غداً، ومن لم يحفظ منكم فليكتب).
20. وقال عليه السلام: (علّم الناس علمك وتعلّم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك، وعلمت ما لم تعلم)