المحتويات
2016/04/25
 
6681
دور المرأة في جهاد الإمام الحسن عليه السلام

دور المرأة في جهاد الإمام الحسن عليه السلام

دور المرأة في جهاد الإمام الحسن عليه السلام

تأليف: السيّد زيد الحلو

محتويات الكتاب

مقدّمة المركز
الإهداء
المقدّمة  
تمهيد
الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام
فاطمة عليها السلام أُمّ أبيها
أنوار الزهراء عليها السلام
تسبيح فاطمة عليها السلام
البيت الفاطمي
الأُمّ وابنها
وقد حان الفراق
محطّاتٌ في حياة الحسن عليه السلام مع فاطمة عليها السلام
آية التطهير
آية المباهلة
آية المودَّة
استجلاء معنى الآيات
زينب الكبرى بنت عليّ عليها السلام
ولادتها المباركة
نشأتها
شخصيّتها
زواجها من عبد الله بن جعفر
الأُخت وأخوها
إكمال المسيرة الحسينيَّة
وفاتها
هند بنت أبي أُميَّة (أمّ سَلَمة)
نسبها
زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
روايتها للحديث وتوثيقها
أُمُّ سَلَمة تشهد الوصيَّة لأمير المؤمنين عليه السلام
آية التطهير وحديث الكساء
وفاتها
أسماء بنت عُمَيس
سيرة السيّدة أسماء
توثيقها
مكانتها
مع عليّ وبنيه عليهم السلام
أسماء مؤنسة فاطمة عليها السلام
روايتها
فضَّة النوبيَّة (جارية الزهراء عليها السلام)
فضَّة إرث فاطمة عليها السلام
مع سيِّدها الإمام الحسن عليه السلام
الملامح الشخصيَّة للسيِّدة فضَّة
أُمُّ رِعْلة القُشَيريَّة
سيرتها العلميَّة
سيرتها العقائديَّة
أُمُّ رِعْلة والإمام الحسن عليه السلام
السيِّدة فاطمة بنت حزام
اقترانها بالإمامة
راعية السبطَين  
أُمُّ البنين عليها السلام والحسن عليه السلام
أُمُّ البنين عليها السلام والحسين عليه السلام
وفاة السيِّدة أُمِّ البنين عليها السلام 
أُمُّ بشر بنت أبي مسعود الأنصاريَّة
رملة أُمُّ القاسم عليه السلام
خَولة بنت منظور بن زبان الفزاريَّة
أُمُّ إسحاق بنت طلحة
فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام
السيرة المباركة
روايتها عن أبيها الإمام الحسن عليه السلام
جوانب من شخصيّتها ومسيرتها
أُمُّ أسلم صاحبة الحصاة
أُمُّ أسلم.. العالِمة
استدراك
حَبابة الوالبيَّة
مع أمير المؤمنين عليه السلام
مع الإمام الحسن عليه السلام
مع الإمام الحسين عليه السلام      
مع الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
مع الإمام الباقر عليه السلام
مع الإمام الصادق عليه السلام
مع الإمام الكاظم عليه السلام     
مع الإمام الرضا عليه السلام
شخصيَّة حبابة الوالبيَّة وسيرتها
روايتها للحديث
رواية حبابة عن أمير المؤمنين عليه السلام
رواية حبابة عن الإمام الحسين عليه السلام
رواية حبابة عن الإمام السجّاد عليه السلام 
رواية حبابة عن الإمام الباقر عليه السلام
السيّدة نفيسة بنت الحسن
نفيسة العالِمة
زهدها وعبادتها
تبليغها الإسلامي
هجرتها من المدينة إلى مصر
وداعها الدنيا

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، آمين ربَّ العالمين.
أهل البيت عليهم السلام شخوصٌ نورانيَّة وأشخاصٌ ملكوتيَّة، منها ولأجلها وُجِدَ الكَوْن، وإليها حسابُ الخَلق، يتدفَّقون نوراً وينطقون حياةً، شفاههم رحمة وقلوبهم رأفة، وُضِعَ الخير بميزانهم فزانوه عدلاً، ونَمَت المعرفة على ربوع ألسنتهم فغذّوها حكمةً.
أنوارٌ هداة، قادةٌ سادات (ينحدرُ عنهم السيل ولا يرقى إليهم الطير)، ألفوا الخَلق فألفوهم، تصطفُّ على أبوابهم أبناء آدم متعلِّمين مستنجدين سائلين، وبمغانمهم عائدين.
لا يُكرِهون أحداً على موالاتهم ولا يجبرون فرداً على اتِّباعهم، يُقيِّد حبُّهم كلَّ من استمع إليهم ويشغف قلبَ كلِّ من رآهم، منهجهم الحقُّ وطريقُهم الصدق وكلمتُهم العليا، هُم فوق ما نقول ودون ما يُقال من التأليه، هُم أنوار السماء وأوتاد الأرض.
والإمام الحسن المجتبى عليه السلام هو أحد هذه الأسرار التي حار الكثير في معناها وغفل البعض عن وجه الحكمة في قراراتها وباع آخرون دينهم بدنيا غيرهم فراحوا يُسطِّرون الكذب والافتراءات عليه والتي جاوز بعضها حدَّ العقل ولم يتجاوز حدَّ الحقد المنصبِّ على بيت الرسالة.
وقد اهتمَّ مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية بكتابة البحوث والدراسات وتحقيق المخطوطات التي تُعنَى بشأن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ونشرها في كتب وكتيّبات بالإضافة إلى نشرها على مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي التابعة للمركز.
بالإضافة إلى النشاطات الثقافيَّة والإعلاميَّة الأُخرى التي يقوم بها المركز من خلال نشر التصاميم الفنّية وإقامة مجالس العزاء وعقد المحاضرات والندوات والمسابقات العلميَّة والثقافيَّة التي تثرى بفكر أهل البيت عليهم السلام وغيرها من توفيقات الله تعالى لنا لخدمة الإمام المظلوم أبي محمّد الحسن المجتبى عليه السلام.
وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ هو أحد تلك الثمار التي أينعت والتي لا تهدف إلَّا إلى بيان شخصيَّة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بكلِّ أبعادها المضيئة ونواحيها المشرِقة, ولرفد المكتبة الإسلاميَّة ببحوث ودراسات عن شخصيَّة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ومن الله التوفيق والسداد.

العتبة الحسينية المقدَّسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية
كاظم الخرسان

الإهداء

إلى السبط الزكيّ والحليم التقيّ..
والصابر الممتحَن..
قرَّة عين البتول عليها السلام..
وبكر أمير المؤمنين عليه السلام..
ووارث سؤدد وبهاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم..
أُهدي جهدي المتواضع..
راجياً منه القبول..

الراجي شفاعتك
زيد

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة

إنَّ دراسة سيرة المعصومين عليهم السلام تارةً تكون من خلال تسليط الضوء عليهم مباشرةً ودراسة وتحليل الأحداث والمواقف التي سايروها على امتداد حياتهم الشريفة الحافلة بالمعطيات الإنسانيَّة والإسلاميَّة التي مهَّدت لقيام الإسلام بدوره كقانون إلهيٍّ شرع في جميع مجالات الحياة، وأسَّسوا نظاماً تربويَّاً وخُلُقيَّاً وعلميَّاً كان كفيلاً ببناء مجتمعٍ ناضجٍ وفردٍ متكامل، فكان لمدرستهم الأثر الكبير في تخريج شخصيّات نشرت علومهم ومعارفهم على المستوى العقديِّ والتشريعيِّ.
بل إنَّ تعاليمهم الدينيَّة كانت موجَّهة إلى البشريَّة جمعاء، ولا ريب في ذلك فهم خلفاء الله على أرضه اجتباهم واختارهم لحمل هذه المسؤولية العظيمة؛ فكانت أُبوَّتهم الروحيَّة تغمر الجميع دون استثناء، فلم يكن لهم عدوّ إلَّا من عادى الله تعالى منتهجين منهج السلام والمحبَّة وقاعدة لا إفراط ولا تفريط، فأقرَّ لهم العدوّ قبل الصديق.
بل إنَّ كلماتهم النورانيَّة وسلوكهم القويم كان مدعاةً لجذب قلوب الناس نحوهم وتطهير نفوسهم بلمساتهم الإلهيَّة، ولكن الذين غلبت شقوتهم تربَّصوا لأهل البيت مكائد الغدر والخيانة للإطاحة بسنن الله؛ فللشيطان أنصاره كما أنَّ لله أهله، ولكنَّ الله متمُّ نوره ولو كره الكافرون.
وتارةً تكون من خلال دراسة سيرة الشخصيّات التي ارتبطت بهم، وكان لها دور في سيرتهم الطاهرة، فكانوا جزءاً من حركتهم التبليغيَّة، وقد أدركوا صواب منهجهم وخلافتهم الإلهيَّة وأنَّهم المُثُل العليا للبشر والإسلام، فأحاطوا بهم إحاطة الواعي المسلِّم مستبسلين في الدفاع عنهم من غير أن تأخذهم في الله لومةُ لائم ولا مكر حاقد، سالكين سبل الهداية والرشاد، مغتنمين فرصة المعرفة والإيمان الحقِّ للفوز برضا الله تعالى برضا أوليائه عنهم، ولم يقتصر هذا الدور على الرجال فقط فالخطاب القرآنيُّ كان موجَّهاً لكلا الجنسين دون استثناء إلَّا ما يخصُّ كلَّ جنسٍ منهما بما شرعه تعالى لهم؛ فهما شريكان وجزآن مكمِّلان لبعضهما لإقامة الحياة على أساس الدين الإسلاميّ منذ بدء الرسالة المحمَّدية الخالدة وإلى يومنا هذا.
فلولا سيفُ عليٍّ وأموالُ خديجةَ لما قام للإسلام عودٌ ولا اشتدَّ له عمود، وكلٌّ بحسبه، وهنا تكمن عظمة الإسلام في توزيع الأدوار وتحميل المسؤوليّات على مقتضى ما فرض الله تعالى وما أعطى من قوى وإمكانات، وقد شهد التاريخ الإسلاميّ شخصيّات نسائيَّة رفيعة أصبحت أُنموذجاً للاقتداء بهنَّ في بناء الكيان الإسلاميّ بكلِّ قوَّة وعزيمة.

تمهيد

إنَّ مرحلة إمامة الإمام الحسن عليه السلام كانت من أخطر المراحل التي واجهت المجتمع الإسلامي ومن أكبر التحدّيات التي خاضها إمامنا أمام العصف الهائل من الفتن والشبهات التي أُثيرت حوله بآلات رخيصة لم يكن همّها إلَّا إنهاء روح الإسلام وإلباسه ثوب الملك والجبروت وتغيير نهج الإسلام الأصيل إلى دين ملك وطبقيّات لينهض الإمام المجتبى عليه السلام حاملاً إرثاً محمَّديَّاً علويَّاً فاطميَّاً بقلبٍ صدعته آلام ولوعة أُمَّةٍ ما حفظت لنبيِّها وصيَّة وجعلت جزاء الأجر ظلم القربى.
فنهض بأعباء الإمامة وقد أحاطت به دوائر الغدر والشقاق، ولكن هذا لم يثنِ إمامنا عن القيام بتكليفه في نشر الرسالة وإثبات العدالة. ولم تخلُ ساحة الإمام من أنصارٍ أكفّاء حملوا هموم الإمامة ووطَّنوا أنفسهم للبلاء تيمُّناً بقادتهم؛ فبرزوا كالجبال الشاهقات، فتصاغرت أمامهم مخطَّطات الأُمويّين فعالجوا حربهم اللئيمة بولاءٍ أصيل وإيمانٍ عميق أرغم أُنوف الحاقدين، وجرَّعهم سوء أفعالهم غصصاً نكَّدت على أعداء الإمامة ملكهم العضوض، فداروا في فلك الإمامة متحصِّنين بدرع انتمائهم العقدي والمعرفي، قد أبطلوا حجج المشكّكين، وردّوا شبه المحتالين ببراهين واضحة وأدلَّة دامغة، مستلهمين من مدرسة أهل البيت عليهم السلام براعة الحوار وفصاحة المقال؛ فبزغت نجومهم في سماء العقيدة، ولاحت أشعَّتهم في أُفق الحقيقة مبادرين إلى إظهار المظلوميَّة وبيان أُصول الدين القيِّم.
قد بايعوا على بذل المُهَج وشراء الأنفس غير مبالين بأساليب التعسُّف والطغيان، ومن هؤلاء الأنصار الثابتين على الحقِّ نساءٌ طاهرات ونجائبُ مصونات آثرن نصرة الإمام الحسن عليه السلام على أنفسهنَّ وعلى مدى حقبٍ متفاوتة من الزمن، منهنَّ مَنْ أنجبت الإمام الحسن عليه السلام، وهي سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، فكانت الأصل الذي أثمر الإمامة عاكفةً على ملء وجدانه بأنوارها القدسيَّة، قد أزهرت على محيّاه الشريف، متكنّيةً باسمه (أُمّ الحسن) رافدةً فرعها بشمم جدِّه وكبريائه محزونةً على مصيره المحتوم بكبدٍ مسموم.
ومنهنَّ كان لهنَّ أثرٌ في حركته المعصوميَّة، وهي ربيبةُ المجد والبهاء والعزَّة والكبرياء زينب الحوراء عليها السلام التي شاركت أخاها في مسيرة الحرب والسلام؛ فكانت عضده وسنده وحلقة الوصل بينه وبين الحسين عليه السلام، كما كانت أُمّها الطاهرة لجدِّها وأبيها.
وكان ممَّن شارك الإمام الحسن عليه السلام في محنة الإمامة عدَّة نساء، وكان لكلِّ واحدةٍ منهنَّ أثرها ووظيفتها التكليفيَّة التي قامت بها على أكمل وجهٍ، وعلى هذا الأساس كان يدور محور الكتاب الذي أسميناه (دور المرأة في جهاد الإمام الحسن عليه السلام) ممَّن كان لهنَّ أثرٌ إيجابيٌّ وبصمة ولائيَّة سجَّلتها في السيرة التاريخيَّة للإمام الحسن عليه السلام، سواء كانت هذه المرأة زوجة أو بنتاً أو مواليةً، فكنَّ نماذج مشرقة ومشرِّفة في تاريخ المرأة المسلمة أثبتن بجدارة وبكفاءة عالية جلالة قدرهنَّ وسلامة موقفهنَّ اعتماداً على ما جاء من نصوص تاريخيَّة وإن كانت محدودة، إلَّا أنَّها كافية في استجلاء الحقيقة وكشف زيف الباطل، وإن كان بالمقابل نساء كان وجودهنَّ سلبيَّاً في حياة الإمام الحسن عليه السلام، اخترنا عدم التعرض لمواقفهنَّ والاقتصار على سِيَر النساء المؤمنات فهو أنفع وأكمل في الفائدة.
وعليه أضع بين يدي القارئ الكريم جهدي القاصر، وهو هذا الكتاب ليكون منفذاً لدراسات أُخرى في مضمار ولاية أهل البيت عليهم السلام التي تتطلَّب منّا عملاً كثيراً لتوعية المسلمين على تاريخٍ لم يُكتَب بأيدي منصفة، داعياً الله تعالى الأخذ بأيدينا لأداء حقِّ أئمَّتنا علينا، والحمد لله على ما أنعم أوَّلاً وآخراً.

زيد الحلو

الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام
إنَّ الكلمات لَتقر عن ذكر فاطمة عليها السلام، وإنَّ القلم لَيعجز عن الكتابة عنها، لا يعلم من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، فبضعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحويها سطورٌ ولا يليق بكيانها المقدَّس بعض العبارات المسبوكة، فسيِّدة النساء عطاءٌ لا ينضبُ ومظلوميَّةٌ لا تنتهي إلى يوم الحساب, فكلُّ ما يُكتَب عنها هو ذرَّة رملٍ على ساحل بحرٍ كبيرٍ لا نُدرِك آفاقه، ولكن سنحاول التركيز على محورٍ من حياتها الشريفة، وهي علاقتها بولدها الإمام الحسن عليه السلام.
فاطمة عليها السلام أمّ أبيها:
إنَّ شخصيَّة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها السلام ليست كإحدى النساء، ولا كأحدٍ من الرجال؛ فإنَّ تكوين السيِّدة الزهراء عليها السلام كان بأمرٍ إلهيٍّ؛ فخصوص خلقة المعصومين تختلف من حيث الكمالات النفسانيَّة عن غيرهم وإن شابهوهم بالخِلقة الجسديَّة، إلَّا أنَّ الصفات الروحيَّة لهم ترتبط بتكوينهم المميَّز عن الآخرين بإرادةٍ ربّانيَّة، خصوصاً أنَّهم أوَّل خلق الله تعالى، فقد خُلقوا من نوره تعالى، وحباهم بأنفُسٍ ملكوتيَّة لا توجد عند سائر الناس، والمعبَّر عنها بالعصمة التكوينيَّة، وهي المائز بينهم وبين سائر البشر.
ومن المعلوم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيِّد الكائنات وأوَّل المخلوقات وأكمل الموجودات، جعله الله تعالى حُجَّةً على الأنبياء، فضلاً عن الناس، بل هو العقل الذي أقبل وأدبر بأمره وإرادته عز وجل، وبه يُحاسَب ويُعاقَب، فكلُّ جُزءٍ من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم هو حُجَّة قولاً وفعلاً وتقريراً.
وهذا هو حال البضعة فاطمة عليها السلام، التي هي جزءٌ لا يتجزَّأُ من كيان النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكلُّ ما هو موجودٌ في الكلِّ موجودٌ في الجزء، فحملت فاطمة عليها السلام صفات وسجايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الشبَه الخَلقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت السيِّدة فاطمة عليها السلام هي أفضل المخلوقات بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، بل إنَّها أصبحت حُجَّةً على أولادها، وهم حجج الله المعصومون عليهم السلام، والأحاديث والروايات في حقِّها كثيرةٌ ومتواترةٌ اتَّفق عليها الفريقان، فشخصيَّة السيِّدة الزهراء عليها السلام لا يختلف فيها اثنان، وقد تعدَّت شخصيَّتها العظيمة إطار المسلمين إلى غيرهم من الديانات الأُخرى التي تُكِنُّ للسيِّدة فاطمة عليها السلام فائق الاحترام والتقديس.
من ألقاب فاطمة الزهراء عليها السلام: أُمّ أبيها، وهي كنيةٌ غريبةٌ في شكلها ومضمونها، فكون البنوَّة تتحوَّل إلى أُمومةٍ أمرٌ لا يُتصوَّر بالقوانين العقليَّة والطبيعيَّة، إلَّا أنَّ في هذه الكنية إرشاد إلى المسلمين كافَّة على مكانة السيِّدة فاطمة عليها السلام مِنْ أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي وجد عندها عليها السلام الحضن الدافئ للأُمِّ التي افتقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ نعومة أظفاره. وفيه إشارةٌ أُخرى إلى أنَّ فاطمة عليها السلام لها من احترام النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يكون للابن مع أُمِّه، فكنية (أُمّ أبيها) لها من المعاني الكثيرة التي لا تكون إلَّا لفاطمة الزهراء عليها السلام؛ إجلالاً وشرفاً وتعريفاً بقدرها ومنزلتها ودرجتها الرفيعة من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالمقابل كانت علاقة فاطمة عليها السلام بأبيها علاقةً منقطعة النظير، وهي تمرُّ بالظروف نفسها من اليُتم الذي مرَّ به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الاثنان يستمدّان العاطفة والحنان من بعضهما، فصدر النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الواسع كان الركن الأمين الذي تلجأ إليه فاطمة عليها السلام، لتشعر بالطمأنينة والاستقرار والهدوء، فتشمُّ فيه رائحة أُمِّها خديجة عليها السلام، وتقرأ في عينيه البرّاقتين حزنه عليها في وحدتها، فيُقبِّلها بزفراتٍ حارَّةٍ من قلبه الملتهب على ما سيجري عليها من ظلمٍ واستخفافٍ وأذى.
أنوار الزهراء عليها السلام:
أحد أشهر ألقاب السيِّدة فاطمة عليها السلام هو (الزهراء)، وهي صفةٌ ملازمةٌ لها، لإشراقات وجهها البهيِّ الذي كان يشعُّ بأنوار الله على أرجاء المدينة، فيستنيرون بنورها في ظلمات قلوبهم وبيوتهم.
فالسيِّدة فاطمة عليها السلام عُرِفَت بعبادتها وتقرُّبها إلى الله تعالى بالصلاة والصيام والدعاء، وإغاثةِ الملهوف والتصدُّق على المساكين، وكانت عند صَلاتها في المحراب تشعُّ أنوارُها في أرجاء المدينة، فعن أبان بن تغلب قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: يا ابن رسول الله، لِمَ سُمّيت الزهراء عليها السلام زهراءً؟ فقال: (لأنَّها تزهر لأمير المؤمنين عليها السلام في النهار ثلاث مرَّاتٍ بالنور, كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فُرُشهم، فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة فتبيضُّ حيطانهم، فيعجبون من ذلك، فيأتون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عمَّا رأوا، فيُرسِلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام، فيأتون منزلها فيرونها قاعدةً في محرابها تُصلّي والنور يسطع من محرابها من وجهها، فيعلمون أنَّ الذي رأوه كان من نور فاطمة, فإذا نصف النهار وترتَّبت للصلاة زهر وجهها عليها السلام بالصفرة، فيعلمون أنَّ الذي رأوا كان من نور وجهها، فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس احمرَّ وجه فاطمة عليها السلام، فأشرق وجهها بالحمرة فرحاً وشكراً لله عز وجل، فكان يدخل حمرة وجهها حُجرات القوم وتحمرُّ حيطانهم، فيعجبون من ذلك، ويأتون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه عن ذلك، فيُرسِلهم إلى منزل فاطمة، فيرونها جالسةً تُسبِّح الله وتُمجِّده ونور وجهها يزهر بالحمرة، فيعلمون أنَّ الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السلام، فلم يزل ذلك النور في وجهها حتَّى وُلِدَ الحسين عليه السلام، فهو ينقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمَّة منّا أهل البيت، إمامٍ بعد إمام)(1).
إن بركات الزهراء عليها السلام وإشراقاتها كانت تعمُّ الجميع دون استثناء؛ فهي باب الرحمة ومنفذ الأنوار ومظهر اللطف الإلهيِّ الذي عمَّ نواله البعيد والقريب والمخالف والمؤالف، فيكون حجَّةً فاطميَّةً عليهم، إضافةً إلى حججها النقليَّة والعقليَّة.
تسبيح فاطمة عليها السلام:
من الرحمة التي حبانا بها الله _ وهو الرحمن الرحيم _ أنْ علَّمَنا على لسان أوليائه تسابيح النور التي تُفتَح بها أبواب السماء فيُستجاب الدعاء، ومِنْ أهمِّ العبادات المستحبَّة المؤكَّدة تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام، فما عُبِدَ الله بشيءٍ من التحميد أفضل من تسبيح الزهراء عليها السلام(2).
وعن أبي الورد بن ثمامة، عن عليٍّ عليه السلام أنَّه قال لرجلٍ من بني سعد: (ألَا أُحدِّثك عنّي وعن فاطمة! إنَّها كانت عندي، وكانت من أحبّ أهله إليه، وإنَّها استقت بالقربة حتَّى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتَّى مَجِلَت يدها(3)، وكسحت البيت حتَّى غبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القِدر حتَّى دكنت ثيابها(4)، فأصابها من ذلك ضررٌ شديد، فقلتُ لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيكِ هو ما أنتِ فيه من هذا العمل. فأتت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حُدَّاثاً، فاستحت وانصرفت، فعلم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّها جاءت لحاجة، فغَدا علينا ونحن في لفاعنا(5)، فقال: السلام عليكم يا أهل اللفاع. فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثمّ قال: السلام عليكم. فخشينا إنْ لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يُسلِّم ثلاثاً فإن أُذِنَ له وإلَّا انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله، أُدْخُل. فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة، ما كانت حاجتكِ أمس عند محمّد؟ فخشيتُ إنْ لم نُجبه أن يقوم، فأخرجتُ رأسي فقلت: أنا والله أُخبرك يا رسول الله: إنَّها استقَت بالقربة حتَّى أثَّر في صدرها، وجرَّت بالرحى حتَّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتَّى اغبرَّت ثيابها، وأوقدت تحت القِدر حتَّى دكنت ثيابها، فقلتُ لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيكِ هو ما أنتِ فيه من هذا العمل. قال: أفلا أُعلِّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتُما منامكما فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّراً أربعا وثلاثين. فأخرجَت فاطمة رأسها فقالت: رضيتُ عن الله ورسوله، ورضيتُ عن الله ورسوله، ورضيتُ عن الله ورسوله)(6).
تحتوي هذه الرواية الشريفة على عدَّة مضامين عالية ونفيسة، بل فيها دروسٌ تربويَّةٌ قيِّمة، على كلِّ مسلمٍ الاستفادة منها، لما قدَّمَت من أدبيّات المعاملة الأُسريَّة وحفظ مكانة كلِّ شخصٍ فيها، وما أهل البيت عليهم السلام إلَّا المَثل الأعلى والقدوة في أقوالنا وأفعالنا، نستوحي منهم مكارم الأخلاق والقيَم الإنسانيَّة والتربويَّة منهجاً للحياة.
ومن إرشادات هذه الرواية أيضاً أنَّ العمل الجسديّ مهما كان مُضنياً ومُتعباً فيمكن تحمّله ومعالجته ببعض الراحة، إلَّا أنَّ الروح وتقويمها هو البحث الأساسيّ للإنسان الباحث عن الكمالات، فتعليم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا التسبيح للزهراء عليها السلام هو لتحويل الأنظار والتنبيه على المعالجات الروحيَّة للنهوض بأنفسنا عن المادّيات المستوعبة لمفاصل حياتنا، ومحاولة التركيز على الجهد النفسيّ بإزاء الجهد الجسديّ لموازنة الإنسان المسلم في حياته الدنيا, فهو درسٌ لنا بأنَّ العبادة بتسبيح الزهراء عليها السلام هو ترقٍّ في درجات القرب الإلهيِّ وتعزيز نفوسنا بعالم الغَيب الذي يحرص الإسلام على توجيهنا إليه، فهو عالم القوى الإلهيَّة التي هي خارج إطار التصوّر الإنسانيِّ.
البيت الفاطمي:
في مثل هذه الأجواء والسلوك النبويِّ نشأت عائلة فاطمة عليها السلام المطهَّرة من الرجس، تحت كساء خاتم الأنبياء، فجعلهم رحمةً للعالمين ومنهاجاً للصالحين، فكانت الولادة الميمونة لأوَّل سبطٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبِكر عليٍّ عليه السلام وقُرَّة عين فاطمة عليها السلام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فيُنير بيتُ فاطمة بنورٍ جديدٍ أضفى على البيت لمسةً جميلةً، فهو المولود الأوَّل لالتقاء الفرعين المباركين: عليٍّ وفاطمة، وفي أيّام شهر رمضان المبارك شهر الله وُلِدَ وليُّ الله وريحانة رسوله والإمام الثاني أبو محمّد الحسن عليه السلام، في ليلة الخامس عشر من شهر رمضان وضعت فاطمة عليها السلام وليدها وسط فرح وسرور النبيِّ والوصيِّ، ومن الوهلة الأُولى التي رأت فيها فاطمةُ مولودها ابتهجت ابتهاجاً شديداً، وبعد إخبار النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بولادة بضعته الزهراء أقبل مُسرعاً ليشهد حضور السيِّد الزكيِّ، وليكون مُشرفاً على إجراء مراسيم الولادة، من الأذان والإقامة والتسمية والتحنيك، في جوٍّ من الأُنس والاستبشار، فتدفع أسماء بنت عُمَيس الوليد المبارك إلى جدِّه، فينظر إليه نظرةً سعيدةً ممزوجةً بالحزن لما سيقع عليه من ظلمٍ ومآسٍ, ثمّ يسأل عليَّاً: ما سمَّيتَه؟ فيردُّ عليٌّ عليه السلام: ما كنتُ لأسبقك في تسميته يا رسول الله! فيُجيب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: وما كنتُ لأسبق ربّي في تسميته. فيهبط جبرئيل على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مبارِكاً له من الله تعالى، وداعياً النبيَّ إلى تسميته باسم ابن هارون؛ فعليٌّ بمنزلة هارون من موسى.. ولكنَّ النبيَّ يستدرك أنَّ ابن هارون كان اسمه شُبَّراً، وهو اسمٌ عبراني، غير عربي! فقال جبرئيل عن الله تعالى: سَمِّه (حسناً). فكانت تسمية الإمام عليه السلام من قِبَل الله تعالى عِزَّاً وكرامةً لهذا الابن الذي سيحمل أعباء جدِّه وأبيه، وسيجري عليه ما جرى من القوم الظالمين.
فتعيش الزهراء عليها السلام أجمل لحظاتها مع ابنها الحسن عليه السلام، تُناغيه في مهده وتلاعبه، وتبصر إشراقاته الملكوتيَّة تشعُّ في حناياها وقد أصبح بيتها مزهوَّاً بنغمات طفلها التي ملأت أركان البيت وأعنان السماء، فيسرُّ الملأُ الأعلى بسرور فاطمة عليها السلام.
ثمّ بعد عامٍ من ولادة الحسن عليه السلام يستقبل بيتها المتواضع مولوداً غيَّر ملامح الكون، فشابت ضحكات الفرح نبرات الحزن، فهذا الوليد الذي استقبل الدنيا بحشرجات الحناجر ونبضات القلوب المتسارعة من بدء العدّ التنازليّ لفاجعة الدهر، إنَّه السبط الثاني المعزّى بولادته، الحسين عليه السلام..
فيزدان بيت فاطمة بنورَيها، مستأنِسةً على وقع أقدامهم عند اللعب، وابتساماتهم المورقة بالحبِّ والأمل في ظلِّ جدِّهم صاحب الرسالة.
وبأيّامٍ متسارعة كأنَّها تجدُّ في مسيرها نحو البلاء، تولد زينب عليها السلام، زهرةٌ فوّاحةٌ عطَّرت بيت فاطمة بشذاها وعبقها، بأحداثٍ وصور مشابِهة لولادة أخوَيها الحسنين عليهما السلام، فيتَّسع البيت وتزداد مروجه وأريجه.
أُسرةٌ ليست كباقي الأُسَر، وعائلةٌ فيها لمسات الرحمان تُبدي ألقها وتوهّجها، فيمتدُّ إلى كلِّ أرجاء المدينة المنوَّرة، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى معالم الرسالة تكتمل، وبلاغات الإسلام قد تمَّت، فيطمئنُّ بتمام النعمة، مع وجود هذه القرابين الخالدة التي ستحفظ لله دينه الذي أراد، فما هم إلَّا مشاريع الوحي ومصابيح الهداية!
الأمّ وابنها:
من طبيعة الإنسان إذا كان له ذرّية أن يكون المولود الأوَّل له خصوصيَّةٌ وميزة على أقرانه، فهو النبعة الأُولى التي زادت من ترابط الأبوين وقوَّت وشائج الأُسرة، والنظرة إليه هي نظرة الوارث والخليفة لهم على تراثهم وهويَّتهم.. هكذا كانت نظرة الزهراء عليها السلام إلى الإمام الحسن عليه السلام الذي زاد من حُبِّه في قلبها صفاته التي شابهت صفات أبيها، فكان له حبّان: حبُّ شبهه بجدِّه النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحبٌّ لذاته المعصوميَّة.
النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يوصي ابنته أن لا ترضعه، ولكنَّ رقَّة الأُمومة لم تُبقِ لفاطمة من سبيلٍ لإرضاعه!
قالت برة ابنة أُميَّة الخزاعي: لمَّا حملَت فاطمة بالحسن، خرج النبيُّ في بعض وجوهه، فقال لها: (إنَّكِ ستلدين غلاماً قد هنَّأني به جبرئيل، فلا تُرضعيه حتَّى أصير إليكِ!). فدخلتُ على فاطمة حين ولدت الحسن عليه السلام وله ثلاثٌ ما أرضعَته، فقلتُ لها: أعطينيه حتَّى أُرضعه, فقالت: (كلَّا)، ثمّ أدركتها رقَّة الأُمّهات، فأرضعَته، فلمَّا جاء النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: (ماذا صنعتِ؟)، قالت: (أدركَتني عليه رقَّةُ الأُمّهات فأرضعتُه), فقال: (أبى الله عز وجل إلَّا ما أراد)(7).
فعلاقة الأُمِّ بابنها كانت سبباً لأن يُجري الله الأُمور بأسبابها، فتكون ميراث الإمامة للحسين عليه السلام دون الحسن عليه السلام.
في ربيع البيت الفاطميِّ تنتشر رياحين الجمال والجلال، فتخضرُّ أغصان فاطمة اليانعة، فتشمُّ ثمرتها الطيِّبة بعطر التفّاحة التي وهبها الله إلى نبيِّه من الجنَّة، فسرى عطرها في أبنائها بعين الرعاية والمحبَّة، تُرقِّص(8) فاطمة حسنها وتقول:

أشبِهْ أباك يا حسنْ * * * واخلَعْ عن الحقّ الرسنْ(9)
واعبد إلهاً ذا مِنَنْ * * * ولا توالِ ذا الإحَنْ(10) (11)

فنلاحظ أنَّ التربية الفاطميَّة حتَّى في طريقة مؤانستها ومداعبتها لصبيها تُطبِّق برنامجاً مستقبليَّاً بالسخاء والجود وإظهار الأسرار الكامنة عنده، وهو تخطيطٌ لنا في ممارسة التربية الصحيحة المبنيَّة على أساسٍ من العلم والتقوى والإيمان.
عاشت فاطمة وأبناؤها شظف العيش وقلَّة المؤونة، فلم يتعدّ حالهم حال الفقراء في المدينة، حتَّى إذا حلَّ العيد لم تجد ما تُفرِّح به أبناء رسول الله من ثيابٍ جديدة، مُواعدةً إيّاهما بثيابٍ جديدةٍ عند الخيّاط، وقد عزَّ عليها طلبهما, وبحلول الظلام تُقرَع الباب، فتُجيب فاطمة: (مَنْ هذا؟)، فيردُّ عليها: أنا الخيّاط، جئتُ بالثياب! فتفتح الباب، فإذا رجلٌ ومعه من لباس العيد, قالت فاطمة: (واللهِ لم أرَ رجلاً أهيب سيمةً منه). فناولها منديلاً مشدوداً، ثمّ انصرف, فدخلَت فاطمة عليها السلام ففتحت المنديل، فإذا فيه قميصان ودرّاعتان وسروالان ورداءان وعمامتان وخفّان أسودان معقبان بحُمرة، فبادرت فاطمة فَرِحةً مسرورةً، وأيقظت ولديها المكسورين وألبستهما, ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهما مزيَّنان، فحملهما وقبَّلهما، ثمّ قال: (رأيتِ الخيّاط؟)، قالت: (نعم يا رسول الله، والذي أنفذته من الثياب)، قال: (يا بُنيَّة، ما هو خيّاط، إنَّما هو رضوان خازن الجنَّة)(12).
تُظهِر هذه الرواية حميميَّة العلاقة بين فاطمة ووَلديها، كأيِّ أُمٍّ مشغوفةٍ بأُسرتها في تلبية حاجاتهم وسدِّ عوزهم، فبساطة الحياة التي كان يعيشها أهل البيت عليها السلام عكست على المجتمع آنذاك حقيقة الإسلام والذي يجب أن يكون عليه قادة الأُمَّة، فهم يتساوون مع أدنى طبقات المجتمع مادّياً من غير أن يكون منقصة لشأنهم ولا مدعاة لغلق أبوابهم أمام الفقراء والمساكين، بل يتقاسمون معهم لقمة الطعام، بل يُؤثِرون الآخَرين على أنفسهم، وهم سادات الخلق، والكون كلّه مسخَّرٌ لهم، لكنَّهم أبوا إلَّا تعليمنا وتربيتنا على سبل التكيّف مع الواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم في محيطه الاجتماعي، وهو أرقى ما تجود به الإنسانيَّة في مراحلها التكوينيَّة البشريَّة. فما أشدّ حاجتنا للرجوع إلى مكارم الأخلاق هذه، وأريحيَّة التعامل مع الذات بشفافيةٍ ومرونةٍ، لتنتج فرداً خلوقاً سليماً من الأمراض التي تصيب النفس من تشنّجاتها الشيطانيَّة، وتكفينا إطلالةٌ واحدة على المنهج الفاطميِّ لتصحيح مسارنا التربويِّ والدينيِّ، والتحليق في سماء الصفاء والنقاء الذي صنعه أهل البيت عليهم السلام لنا.
وتمضي الأيّام بأحداثها وتداعياتها، فيُفارق النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عالم الدنيا، ملتحقاً بالرفيق الأعلى، مخلِّفاً في أُمَّته الثقلين، من غير أن يطلب على تبليغه أجراً سوى المودَّة في قرباه، ولكنَّهم ما راعوا وما صانوا وصيَّة نبيِّهم بنصرة آله، فيُنكَّل بهم ويُستحوَذ على حقِّهم الذي كتبه الله لهم. ولم تقف أحقادهم إلى هذا الحدّ، بل حاولوا طمس الإسلام وتحريف القرآن، والطعن بنبوَّته بسدِّ ذرائع الولاية وتكميم الأفواه بالنطق بالهداية، فجرَّت هذه العصابة الويلات على المسلمين، وعلى رأسهم فاطمة وبعلها وبنوها، فجرَّعوهم نغب التهمام أنفاساً، فيكظم عليٌّ غيظه بوصيَّةٍ كبَّلته ورعيَّةٍ أمسكته، فالإسلام غضٌّ والمخاطر جمَّةٌ.
وقد حان الفراق:
عاش الإمام الحسن عليه السلام محنة تقصير الأُمَّة عن نصرة حقٍّ قد سُلِبَ ومنصبٍ قد طُلِبَ، فضُربَت عليهم الذلَّة والمسكنة, فيزداد همُّ الإمام الحسن عليه السلام وهو يجاري ويلات أُمِّه فاطمة عليها السلام فلذة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في سنِّها الثامن عشر، تُقاسي أبشع إجراءات التعسّف والتهميش، وهي مَنْ قد عرفوا، فيهبُّ أنصار الإمامة _ على قلَّتهم _ مستنهضين همم الناس، مُرجِعين إيّاهم إلى الصواب وإلى خلافة أبي الحسن عليه السلام، مع حفظ ميراث فاطمة المسلوب، ولكن لا أُذُن تسمع ولا عقل يخضع، يجولون ويصولون، فيأتي جواب المناوئين بالاعتداء الأثيم على بيت النبوَّة ومعدن الرسالة ومختلَف الملائكة، فيسومونهم سوء العناد والمخالفة بجفاءٍ شديد، وخُلُقٍ مريد، فتبرز أحقادهم وتطفو غلظتهم على الدين وأهله، بعد احتجاج الزهراء عليها السلام عليهم ومقاطعتها إيّاهم، إيذاناً بغضبٍ من الله على القوم الكافرين.
ما أقسى ما عانيتَ يا أبا محمّد مِنْ إيذاء أُمِّك الزهراء عليها السلام، واستصغار شأنها، وغصب حقِّها، وهي تلوذ بذكرى أبيها المحامي والناصر، ولكن لا ناصر لها اليوم، وما أشدّ ما سمعتَ من نبرات اللؤم والتشفّي التي كسروا بها قلب الصدّيقة الطاهرة، فكانت كالسهام في قلبك الشريف، فتنفرد في مخيِّلتك كلُّ الصور التي انطبعت في ذاكرتك عن فاطمة بنت رسول الله، طفلٌ في السادسة يرى أُمَّه تُقهَر وتُضرَب وتُعصَر، وما يملك إلَّا الصبر والسكوت، وأيُّ أُمٍّ هي؟! فاطمة! وأيُّ ابنٍ هو؟! الحسن! أقطاب الوجود، ومحور الملكوت، وسط أُناسٍ وجهلة لم يُدرِكوا حقيقة هذا البيت.
محطّاتٌ في حياة الحسن عليه السلام مع فاطمة عليها السلام:
على الرغم من الفترة القصيرة التي قضاها الإمام الحسن عليه السلام في ظِلِّ أُمِّه، إلَّا أنَّها كانت مُتخَمةً بالأحداث والأخبار والأنباء، وكان لكلِّ فعلٍ حكايةٌ خلَّدها التاريخ الإسلاميُّ والإنسان، وأشبعها بحثاً وتنقيباً، للخروج بكنوز لطائف موروثهم علماً وأخلاقاً وحكمةً وأدباً.
ولعلَّ مِنْ أهمِّ ما نزل من القرآن وما يحكي عن عظمتهم ورفعة درجتهم وعلوِّ مقامهم آياتٌ ثلاثٌ تداولها الباحثون والكُتّاب في دراساتهم وتحقيقاتهم، وهي: آية التطهير، وآية المباهلة، وآية المودَّة. وسنحاول تسليط الضوء على هذه الآيات التي جمعت أهل بيت العصمة في تنزيلها، حيث جمعت فاطمة الزهراء عليها السلام والإمام الحسن عليه السلام في آنٍ واحدٍ ومكانٍ واحدٍ لحدثٍ واحدٍ.
آية التطهير:
(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33)(13).
وقع الكلام في هذه الآية من حيث دلالتها على العصمة من جهة، ومن جهةٍ أُخرى في المقصود من أهل البيت عليهم السلام، حيث اختلف الفريقان في هاتين الدلالتين، فقد استدلَّ أعلام الإماميَّة من خلال هذه الآية على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وعصمة فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، إضافةً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا بعدَّة قرائن:
1 _ دلالة كلمة (إِنَّما) التي تفيد الحصر، حيث قصرت الآية الحكم على هؤلاء الخمسة الذين كانوا تحت الكساء، ولم تتعدَّ إلى غيرهم، فأداة الحصر _ كما تفيد اللغة _ تجمع هؤلاء وتمنع دخول غيرهم معهم، هذا من جهة الدلالة اللغويَّة، وأيضاً دلالة الحال من وجودهم تحت الكساء.
2 _ فإذا عرفنا أنَّ المقصود من الآية فقط هؤلاء الخمسة، نناقش: هل فيها دليلٌ على العصمة مِنْ إذهاب الرجس والتطهير لهم؟ فالإرادة هنا هي إرادةٌ تكوينيَّة مِنْ قِبَل الله تعالى، جعلها بإذهاب الرجس، أي: الذنوب التي تحول دون تطبيق شريعة الله تعالى، فالفارز بين العصمة واللَّاعصمة هي ارتكاب ا