المحتويات
2016/04/06
 
22823
الإمام الحسن عليه السلام والفتوحات الإسلامية

الإمام الحسن عليه السلام والفتوحات الإسلامية

الإمام الحسن عليه السلام والفتوحات الإسلامية

تأليف: حسن الشيخ عبد الأمير الظالمي

محتويات الكتاب

مقدمة المركز
المقدمة
الفصل الأول
الرواياتُ التي تَذكرُ مشاركةَ الإمامين في الفتوحات
الفصل الثاني
المؤرخونَ المؤيدون لتلك الروايات
الفصل الثالث

الكُتّابُ المعارضون للروايات والأدلــة على بطلانها
الخاتمة
المصادر

مقدمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، آمين ربّ العالمين.
أهل البيت شخوص نورانية وأشخاص ملكوتية، منها ولأجلها وُجِدَ الكون، وإليها حساب الخَلق، يتدفَّقون نوراً وينطقون حياةً، شفاههم رحمة وقلوبهم رأفة، وُضِع الخير بميزانهم فزانوه عدلاً، ونَمَت المعرفة على ربوع ألسنتهم فغذّوها حكمةً.
أنوارٌ هداة، قادةٌ سادات، (ينحدرُ عنهم السيل، ولا يرقى إليهم الطير)، ألفوا الخَلق فألفوهم، تصطفُّ على أبوابهم أبناء آدم متعلِّمين مستنجدين سائلين، وبمغانمهم عائدين.
لا يُكرِهون أحداً على موالاتهم ولا يُجبِرون فرداً على اتِّباعهم، يُقيّد حبّهم كلّ من استمع إليهم، ويشغف قلب كلّ من رآهم، منهجهم الحقّ وطريقهم الصدق وكلمتهم العليا، هم فوق ما نقول ودون ما يقال من التأليه، هم أنوار السماء وأوتاد الأرض.
والإمــام الحسـن المجتبى عليه السلام هو أحـــد هــذه الأســـرار التي حــار الكثيـر في معناهـــا، وغفـــل البعـض عن وجه الحكمة في قراراتها، وباع آخرون دينهم بدنيا غيرهم، فراحوا يُسطرون الكذب والافتراءات عليه، والتي جاوز بعضها حدّ العقل، ولم يتجاوز حدّ الحقد المنصبّ على بيت الرسالة.
وقد اهتمَّ مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية بكتابــة البحوث والدراســـات وتحقيــــــق المخطـــوطـــــات التـــي تعنـــــى بشأن الإمـــــام الحســـــن المجتبى عليه السلام ونشرها في كتب وكتيّبات بالإضافة إلى نشرها على مواقع الانترنيت وصفحات التواصل الاجتماعي التابعة للمركز.
بالإضافة إلى النشاطات الثقافية والإعلامية الأُخرى التي يقوم بها المركز من خلال نشر التصاميم الفنّية، وإقامة مجالس العزاء، وعقد المحاضرات والندوات والمسابقات العلمية والثقافية التي تثرى بفكر أهل البيت عليهم السلام وغيرها من توفيقات الله تعالى لنا لخدمة الإمام المظلوم أبي محمّد الحسن المجتبى عليه السلام.
وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ هو أحد تلك الثمار التي أينعت، والتي لا تهدف إلَّا إلى بيان شخصية الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بكلِّ أبعادها المضيئة ونواحيها المشرقة، ولرفد المكتبة الإسلاميَّة ببحوث ودراسات عن شخصية الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
ومن الله التوفيق والسداد.

           العتبة الحسينية المقدَّسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية
                    كاظم الخرسان

المقدمة

كثيرةٌ هي الشُبهاتُ والافتراءات التي أُثيرت حول مسيرةِ الإمام الحسنِ بن عليٍّ المجتبى عليه السلام, وذلك لكثرةِ أعداءِ أهل البيت عليهم السلام وأعدائِه بالخصوص, سواءٌ أكانوا في العهد الأُمويِّ, حيث نازعَه معاويةُ حقَّه في خلافةِ جدِّه النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وولايةِ الأمرِ من بعد أبيه الإمامِ أميرِ المؤمنين عليه السلام, أو في العهدِ العباسيِّ حيث كان ذريّتُه واولادُه شوكةً في عيونِ الظالمين قادوا الثوراتِ ضدهم، وكشفوا زيفهم, وأبانوا للناسِ بطلانَ سلطانهم...
ومن تلك الشُبهاتِ التي أُلصقت بالإمامِ الحسن بن عليٍّ عليهما السلام ما رواه بعضُ الرواة المعروفة نواياهم ومآربُهم وامتثالهم لما يريده الحُكّامُ, وهي اشتراك الإمام الحسنِ بن عليٍّ وأخيه الحسين في غزو شمال افريقيا سنة 26هـ وغزو طبرستان وخراسان سنة 30هـ في أيام الحاكم الأمويِّ عثمانِ بنِ عفان, وهم يروِّجون من وراء إيرادِ تلك الرواياتِ لرضا أهل البيت عن حُكم الخلفاءِ, ويثيرون شبهة تمرُّدهما على أبيهما الإمامِ عليٍّ عليه السلام الذي يرى بطلان تلك الفتوح.
لقد وردت الروايتان في كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري المتوفى سنة 310 أولَ مرة, وأوردها ابن خلدون في كتابه العبر والمتوفى سنة 808هـ, وأخذها عنهم أغلبُ المؤرخين, ولم يروِها المؤرخون الذين سبقوا الطبريَّ كابن سعد في الطبقاتِ, واليعقوبيِّ في تاريخه أو المعاصرين له كابنِ أعثمَ في فتوح البلدان والمسعودي في مروج الذهب.
كما لم تروِها كتبُ الشيعةِ المعتَمدةِ: كالإرشاد للشيخ المفيد, والمناقب لابن شهراشوب وغيرهما, وهي تتحدثُ عن حياةِ الإمامِ الحسن عليه السلام في فترة حكمِ عثمانَ.
لكـــنّ الكُتّــــابَ المعــاصــريــن انقســمـــوا إزاء تلـــكَ الرواياتِ إلى قسمين:
1. قســمٍ آمن بتلــــك الروايـــــات وصـــدَّق بهــــــــا وعلّــــق عليها بما يعـــزِّز صدورها, ورأى أنّ الإمــــامَ الحسَن عليه السلام وأخاه الإمامَ الحسينَ عليه السلام إيماناً منهما بالجهادِ ورغبةً منهـــما في توسيـــع رقعةِ الدولــــة الإسلامية ونشرِ الإسلام في تلك الربوع, فقد شاركا في غزو إفريقيا بقيادة عبد الله بن أبي سرح وفي غزو خراسان تحت إمرة القائد سعيد بن العاص, وببركة وجودهما انتصر المسلمون في المعارك, وعادوا مكللين بأكاليلِ النصرِ, وراياتُ الغارِ ترفُّ على رؤوسِهم فرِحين مستبشرين.
2. وقسمٍ يرى أنّ تلك الروايات وردت في مصادرَ تاريخيةٍ معتبرةٍ, ويوردها ايراد المسلَّماتِ دون التعليق عليها معتقداً بصحتها, أو أنها جزءٌ من نشاط الإمامين الحسنين في زمان الخلفاء الثلاثة.
3. وقسمٍ ثالثٍ يرى أن هذه الرواياتِ موضوعةٌ, ولا أصلَ لها من الصحة, وإنما هي من الشُبهات التي تريد تشويهَ صورة الإمام الحسن عليه السلام في المجتمع, ونحن نعتقدُ بصحة ما ذهب إليه الفريقُ الثالثُ, مع أن بعضَهم لم يورد الأدلة على اعتقاده, وسندلل بما يقنع القارئ أن تلك الرواياتِ موضوعةٌ, ولا أساسَ لها من الصحة, بل هي رواياتٌ متناقضةٌ ومتساقطةٌ, لا يُعوّلُ عليها.
ندعو الله سبحانه أن يوفقنا إلى طريق الحق والصواب.

                   الباحث/ حسن عبد الأمير الظالمي
                              النجف الاشرف

الفصل الأول

الرواياتُ التي تَذكرُ مشاركةَ الإمامين في الفتوحات
نورد هنا الرواياتِ التي ذكرها المؤرخون, والتي تتحدثُ عن اشتراك الإمام الحسنِ بنِ عليٍّ عليه السلام في فتوحات شمال افريقيا وخراسان وطبرستان كما وردت في مصادرِها التاريخيةِ.
أولاً: جاءَ في تاريخِ ابن خلدون (العبر) جـ2 ص128-129:
أن عثمانَ وجّهَ جيشاً إلى غزوِ إفريقيا سنة خمسٍ وعشرين, وكانت قيادةُ الجيش بيدِ عبد الله بن نافع وأخيه عُقبةِ بنِ نافع بن عبد القيس, فتوجه الجيشُ إلى إفريقيا, وكان عددهُ عشرةَ آلافٍ, فلما وصلوا إليها لم يتمكنوا من فتحِها, وصالحَهم أهلُها على مالٍ يؤدّونه إليهم, ثم إن عبد الله بن أبي سرحٍ أخا عثمانَ من الرضاعةِ استأذنَ عثمانَ في غزوِ إفريقيا, وطلبَ منــه أن يمـــدّه بالجيـــشِ, فاستشــــار عثمــــانُ الصحابةَ فحبذَ إليه أكثرهم ذلك, فجهّز عثمانُ إليه جيشاً من المدينةِ فيهم ابنُ عباسٍ وابن جعفرٍ والحسنُ والحسين, فساروا إلى افريقيا ففتحوها, وذلك في سنة 26ه(1), وهذه الرواية ذكرها الطبري أيضاً ولم يذكر فيها الحسنَ والحسينَ عليهما السلام.
ثانياً: ذكر الطبريُّ في تاريخ الأمم والملوكِ في أحداث سنة ثلاثين ما يأتي:
حدثني عمر بن شبّة قال: حدثني عليُّ بن محمد, عن عليِّ بن مجاهد, عن حنشِ بن مالكٍ قال: غزا سعيدُ بن العاص من الكوفةِ سنة ثلاثين يريدُ خراسان, ومعه حذيفةُ بن اليمان وناسٌ من أصحابِ رسولِ الله, ومعه الحسنُ والحسينُ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير, وخرجَ عبد الله بن عامرٍ من البصرةِ يريدُ خراسان, فسَبقَ سعيداً, ونزل أبرشهر, وبلغ نزولُه أبرشهر سعيداً, فنزل سعيدٌ قومس, وهي صلح, صالحَهم حذيفةُ بعدَ نهاوند, فأتى جرجانَ, فصالحوه على مئتي ألفٍ, ثم أتى طميسة, وهي كلُّها من طبرستان متاخمة لجرحان, وهي مدينةٌ على ساحلِ البحرِ, وهي من تُخومِ جرجان, فقاتله أهلُها حتى صلى صلاةَ الخوفِ وحاصَرهم, فسألوا الأمانَ, فأعطاهم على أن لا يَقتل منهم أحداً, ففتحوا الحصن فقتلَهم جميعاً إلا رجلاً واحداً, وحوى ما كان في الحِصن(2), وهذه الروايةُ ذكَرها ابن خلدون, ولم يذكرِ اشتراكَ الإمامينِ في تلكَ الحملة.
ثالثاً: الرواية الثالثة:
قال الطبريُّ: وحدثني عمرُ بن شبّة قال: حدثنا عليُّ بن محمدٍ, قال: أخبرني عليُّ بن مجاهد قال: عن حَنَش بن مالك التغلبي قال: غزا سعيد سنةَ ثلاثين, فأتى جرجان وطبرستان, ومعه عبدُ اللهِ بنُ عباس وعبد الله بنُ عمر, وابنُ الزبير وعبد اللهِ بن عمرو بن العاص(3).
مناقشة الروايات:
1. إنّ روايةَ ابنِ خلدونٍ التي أورَدها في تاريخه جـ2 ص128 والتي ذكرتِ اشتراكَ الإمامين في غزو إفريقيا سنة (26هـ) مرسلةٌ ولم تُسند إلى راوٍ أو كتابٍ, مع أن ابنَ خَلدون توفي سنةَ 808هـ بعد ثمانية قرونٍ تقريباً من الغزوة, فهي روايةٌ ساقطةٌ لا سَنَدَ لها, ولا يمكن الاعتمادُ عليها, علماً بأن الطبري أوردَ الروايةَ ولم يذكر اشتراك الحسنين في الغزو.
2. إنّ ابنَ خلدون لم يذكر في روايته عن فتح خراسان أو طبرستان اشتراك الإمامين رغم ذكرهِ الغزوةَ وتفصيلهِ في المناطق التي وصلَها الفتح(4).
3. إنّ الطبريَّ أورد الرواية الثانية في تاريخه مسندة إلى حنش بن مالك التغلبي بثلاث وسائط, وهو يتحدثُ عن سنة 26هـ وقد توفي عام 310هـ, فهناك قطعٌ في سلسلة الرواةِ التي يجبُ أن تتضمن تسعَ أو عشرَ وسائط.
4. إنّ روايةَ الطبريِّ الثانيةَ عن فتح طبرستانَ والتي وردت بالإسناد نفسه عن حنش بن مالك لم تذكر اشتراكَ الإمامين في الغزوةِ فهي معارضة لروايته الأولى.
5. لم يذكرِ ابن سعدٍ في طبقاتِه (ت 230)(5), ولا اليعقوبيُّ في تاريخه (ت 282)(6) اشتراكَ الإمامين في الغزوِ والفتوحِ مع أنهما أقدم من الطبريِّ الذي توفي سنة 310هـ.
6. لم يورد ابن أعثمَ في فتوح البلدانِ (ت 314)(7), ولا المسعوديُّ في مروج الذهب (ت 323)(8) اشتراكَ الإمامين في الغزو, وهما معاصران للطبري.
7. إنّ الكتب التاريخيةَ التي أوردتِ اشتراكَ الإمامين الحسنين عليهما السلام في المغازي والفتوح قد أَخذت الخبرَ عن روايةِ الطبري, كالكامل في التاريخ لابن الأثير(9), والفتوحاتِ الإسلاميةِ لأحمد دحلان وغيرها.
8. كذلك لم تذكر أيٌّ من كتبِ الشيعةِ المعتمدةِ -والتي تذكر حياة الإمام الحسن عليه السلام أو مناقبه اشتراكَه في غزوِ البلدان, ومنها الإرشادُ للشيخ المفيد, والمناقب لابن شهراشوب وغيرهما.

الفصل الثاني

المؤرخونَ المؤيدون لتلك الروايات
لقد أخذَ بعضُ الكُتّاب والمؤرخين تلك الروايات مأخَذ المسلَّمات وبنوا عليها آراءهم وعلّقوا عليها بالعباراتِ التي تمتدحُ موقفَ الإمامين من هذا الغزوِ, وتبينُ إيمانَهم به واستعدادَهم للجهاد تحت رايةِ الأُمويين, لان الجهادَ بابٌ من أبواب الجنةِ فتحه الله لخاصةِ أوليائِه, وإليك بعضاً من أقوالِ أولئك المؤيدين:
أولاً: قال الشيخُ باقر شريف القرشي: نستقبلُ الحسنَ عليه السلام في عهدِ عثمان, وهو في شرخِ الشبابِ وعنفوانهِ, فقد كانَ عمرُه يَنيف على العشرينَ عاماً, وهو دورٌ يسمح لصاحبه أن يخوضَ معتركَ الحياة, فدخلَ الإمامُ في دورهِ هذا ميدانَ الجهاد (والجهادُ بابٌ من أبوابِ الجنةِ فتَحَهُ اللهُ لخاصّةِ أوليائه) فانضم إلى المجاهدين حيث اتجهت أوليّتُهم الفاتحةُ إلى احتلال افريقيا سنة 26هـ, وتذكرَ المجاهدون في حفيدِ الرسولِ شخصيةَ جده فأبلوا بلاءً حسناً حتى فتح اللهُ على أيديهم, وبعد ما وضعت الحربُ أوزارَها اتجه الحسنُ إلى عاصمةِ جدِّه, والنصرُ حليفُه وقلبُه مفعمٌ بالسرورِ والارتياحِ لتوسُّع النفوذِ الإسلاميِّ وانتشار دين جدَّه(10).
وقال الشيخ معلقاً على روايةِ الطبريِّ في غزو طبرستان:
ولما كانت سنة ثلاثين من الهجرة اتجهتِ الجيوشُ الإسلاميةُ الفاتحةُ التي يرفُّ النصرُ عليها إلى احتلال طبرستان فانضم الحسنُ إليها, وببركتِه فتحَ اللهُ على أيديهم ورفّ لواء الإسلام عليها, ففي سبيل المصلحةِ العامةِ وخدمةِ الدين اللذين هما فوقَ سائرِ الاعتبارات دخلَ الإمامُ الحسنُ عليه السلام ميدانَ الجهادِ والكفاح, وألقى الستارَ على ما يكنُّه في نفسِه من الاستياءِ على ضياعِ حق أبيه, وهو درسٌ رائعٌ يجبُ أن تستفيدَ منه الأحزابُ السياسية(11).
فلم يورد الخبرين كما هما فقط, وإنما علّق عليهما بما يشيرُ إلى اعتقادِه بصحةِ الروايتين, وأضافَ إليهما عباراتٍ لا تشيرُ الروايتان إليهما, فقال:
أ. دخلَ الإمامُ الحسنُ عليه السلام دورَ ميدانِ الجهادِ والكفاحِ, لأن الجهادَ بابٌ من أبواب الجنة.
ب. عاد إلى مدينةِ جدِّه, وقلبُه مفعمٌ بالسرورِ والارتياح لتوسُّع نفوذِ الإسلام.
جـ. ببركتِه فتحَ اللهُ بلادَ طبرستانَ, بينما هي مدينةٌ حوصرت من قِبَلِ المسلمين, واستسلمَ أهلُها, ولما استسلموا بشروطِ حمايةِ أنفسهم قُتلوا جميعاً, فأين دخولُ الإمامِ الحسنِ عليه السلام ميدانَ الجهاد, وقد أُعطيَ عهد الأمانِ لأمَّةٍ من الناسِ ثم قُتلوا جميعاً, وأين السرورُ والارتياحُ من هذه المشاهِد التي لا يقبلها أحدٌ, واين الدرسُ الرائعُ الذي يجبُ أن تتعلمَ الأحزابُ منه, وَمن قالَ بأنّ الإمامَ الحسنَ عليه السلامُ ألقى الستارَ على ما يكنُّه في نفسِه من الاستياء على ضياعِ حقِّ أبيه؟!!
وإذا كانَ الإمامُ الحسن عليه السلام قد شاهدَ بأمِّ عينيه قتلَ جميعِ منِ في الحصنِ بعدَ أن أعطاهُم القائُد الأُموي العهدَ بنجاتِهم, فما هو موقُفه؟ وهل استنكرَ الجريمةَ؟ أم أنه سكتَ عنها ليتحملَ جزءً من تبعتها؟!!
ثانياً: ذَكر الروايتين المؤرخُ الأستاذُ هاشم معروف الحسني في كتابِه سيرة الأئمة الاثني عشر, فقال:
وانضّم الحسنُ إلى جنودِ المسلمين الذين اتجهوا إلى افريقيا بقيادة عبد الله بن نافعٍ وأخيه عقبة في جيشٍ بلغَ تعدادُه عشرة آلافِ مجاهدٍ -كما في العبر لابن خلدون- وتطلّع المسلمون إلى النصرِ والفتح متفائلين بوجودِ حفيدِ الرسولِ وحبيبه يجاهدُ معهم, وكانتِ الغزوةُ ناجحةً وموفقةً -كما يَصفُها المؤرخون- وعاد الحسن منها إلى مدينة جدِّه, وقلبُه مفعمٌ بالسرورِ, وعلامةُ الارتياحِ باديةٌ على وجهِه الكريمِ لانتشارِ الإسلام في تلك البقعةِ من الأرض(12).
وقال أيضاً وهو يوردُ روايةَ الطبريِّ:
وفي تاريخ الأُمم والملوك: إن سعيدَ بَن العاص غزا خراسان... ومضى سعيدٌ ومعه الحسنُ والحسينُ إلى جرجانَ فصالحوهم على مئتي ألفٍ, ثم هاجَم طميسة على البحر فقاتَلهم أهلُها قتالاً شديداً, وصلى المسلمون صلاةَ الخوفِ, وأخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطقِ -كما نصَّ على ذلك ابنُ خلدون-(13).
وعّلقَ عليها قائلاً: وتؤكُد أكثرُ الرواياتِ أن الحسنَ والحسينَ قد اشتركا في كثيرٍ من الفتوحاتِ الإسلامية, وكان لهما دورٌ بارزٌ في سيرِ تلك المعاركِ التي كانت تدورُ رحاها بين المسلمين وغيرهم, وليس بغريبٍ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ وبنيه أن يجنِّدوا كلَّ طاقاتِهم وإمكاناتِهم في سبيل نشر الإسلام وإعلاء كلمته(14).
ثالثاً: أورد كثيرٌ من الكُتَّابِ المعاصرين هاتين الروايتين, وأشاروا إلى قناعتهم بها, أو أنهم أوردوها إيرادَ المسلَّمات وأعلنوا اشتراكَ الحسنين في غزوِ مناطق شمال إفريقيا وخراسان وطبرستان تحت رايةِ ولاةِ عثمانَ وقادتِه, وهم الذين لا يُعيرون للقيمِ الدينية أيَّ اهتمامٍ, ومن هؤلاء الكُتّابِ:
أ. قال الكاتب فارس رزاق علوان الحريزي (ولا بأسَ أن نشيرَ إلى بعضِ الرواياتِ بهذا الخصوص...) وأوردَ روايةَ فتحِ طبرستان من قِبل سعيد بنِ العاص ولم يعّلق عليها(15).
ب. الكاتبةُ عايدة عبد المنعم طالب, تقول: أما في عهدِ عثمانَ فقد شاركَ الإمامُ الحسنُ عليه السلام في فتوحاتٍ عدةٍ:
1. غزوةُ سعيدِ بن العاص طبرستان سنةَ ثلاثين للهجرة, فخرجَ معه الحسنُ والحسينُ وغيرهما, ونَقلتِ الروايةَ عن الطبريِّ والشيخِ باقر القرشي.
2. شاركَ عليه السلام في فتح شمال افريقيا(16), ونقلتِ الخبرَ عن تاريخ اليعقوبيِّ الذي لم يورد ذكر الحسن والحسين ولا اشتراكهما في الغزو, كما أشارت إلى كتاب تاريخ الطبري في أحداث سنة 27هـ ولم تقع الغزوة فيها(17).
3. تورد الأدلة على اشتراك الإمام الحسن عليه السلام في تلك الفتوحات, وتقول: إنهما -أي الحسنين- يمهِّدان لدولة الصراط المستقيم والعدل القويم(18).
رابعاً: وحدث من خلال البحث أن أكثرَ من كتب في الإمام الحسن عليه السلام يورد تلك الروايات في فتح إفريقيا وخراسان أو طبرستان, ويشيرون إلى اشتراك الإمامين عليهما السلام فيها دون التحقق من مصادر تلك الروايات...

الفصل الثالث

الكُتّابُ المعارضون للروايات والأدلة على بطلانها
وقف بعض الكتاب المعاصرين موقف المتردد او المعارض لصحة تلك الروايات, وأوردَ عليها الإشكالات التي تضعف من صحتها, بل إن بعضهم رفضها جملةً وتفصيلا, قال السيد سامي البدري: أما الروايات التي تقول أنه عليه السلام كان في جيش الفتوح في زمن عثمان فهي موضوعة(19).
كما أورد كتاب المجمع العالمي لأهل البيت في كتابه (الإمام الحسن بن علي) ضمن سلسلة أعلام الهداية الأدلة والإشكالات على تلك الروايات, وقال المؤلف بعد أن ذكر الاشكالات حول الروايتين:
(إن جميع ما تقدم يكفي في أن يلقي ظلالاً ثقيلة من الشك والريب فيما ينسب إلى الإمامين (الحسن والحسين عليهما السلام) من الاشتراك في فتح جرجان أو فتح إفريقيا مع أن عدداً من كتب التاريخ التي عددت اسماء الكثير من الشخصيات المشتركة في فتح إفريقيا لم تذكرها, علماً بأنهما من الشخصيات التي يهم السياسة الزمنية للخلفاء التأكيد على ذكرها في هذه المقامات....
وقال: إن البحث يحتاج إلى تحقيق أعمق وأوسع لا يتناسب مع هذا الكتاب(20).
وقد حاولت في هذا البحث أن أتقصى الحقائق وأناقش الروايات التي أوردت تلك الحوادث مناقشة هادئة مستنداً إلى وقائع تاريخية ومناقشات عقلية وأدلة فقهية وتشريعية, وهو ما سوف نذكره في هذا الفصل من البحث.
إن مناقشة علمية لتلك الروايات ومقارنتها بالأحداث التاريخية المعاصرة لها تجعلنا نعتقد
-بمــــا لا يقبـــل الشــك- أن تلـــك الروايــــات التــــي وردت أول مرة في كتاب محمد بن جرير الطبري
(ت 310هـ) وأخذ منه الكتّاب الذين جاءوا بعده, هي روايات موضوعة أريد منها أهدافٌ سياسيةٌ توهم القارئ أن الائمة عليهم السلام (علياً والحسن والحسين) قد تنازلوا عن حقهم الشرعي في وراثة الخلافة وأيدوا حكم الخلفاء وساروا بسيرتهم وانضموا إلى معاركهم وفتوحاتهم وزوجوهم وتزوجوا منهم إلى غير ذلك من الأكاذيب التي عمل عليها الخلفاء الأُمويون والعباسيون لتشويه صحائف التاريخ وحرف الحقائق عن مسارها الصحيح.
إن الأدلة كافية ومقنعة على كذب تلك الروايات وتساقطها, وقد أوضحت في الفصل الأول من البحث أن أول مؤرخ أورد الروايتين هو الطبري في تاريخه, وذكر اشتراك الإمامين في فتح خراسان, ولم يذكره في فتح افريقيا, وفي حديثه عن فتح خراسان روايتان متعارضتان, الأولى تذكر ذلك والأخرى تنفيه, وهما عن الراوي والسند أنفسهما.
أما رواية ابن خلدون الخالية من السند والاعتماد على راوٍ أو كتاب, وهو الذي توفي سنة 808هـ فهي لا تنهض للوثوق بها فضلا عن أنه لم يذكر اشتراكهما في فتح خراسان...
ومن هذه الأدلة التي أراها كافيةً لدحض تلك الروايات نصل إلى ما يأتي:
أولاً: لم تذكر الروايات التاريخية اشتراك الإمام علي عليه السلام في القتال في معارك الغزو وفتح البلدان في عهد الخلفاء الثلاثة, وهو الفارس المجرب والقائد المحنك, ولم يسمح لولديه بالاشتراك فيها, فكان هو وولداه جلساء الدار والمسجد, وما ذلك إلا لاحتجاجهم على تصدي غيرهم للحكم وأن الصدارة لهم في قيادة الأمة وإدارة دفة الحكم وتسيير الجيوش, لا أن يكونوا تابعين لغيرهم, يأخذون الأوامر من أناس تزيوا بزي الدين من أجل منافع دنيوية ويقودون الناس حسب أهوائهم فضلاً عن أن يكونوا تحت قيادة ولاتهم وقادة جيوشهم.
لقد كان أبو بكر وعمر في أمس الحاجة إلى وجودهم في الجيوش فعرضوا على الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ذلك لكنه أبى أن يشاركهم في غزو البلدان, (فقد استشار عمر بن الخطاب عثمان فيمن يبعث قائداً لجيشه, فقال عثمان: ابعث رجلاً ذا تجربة في الحرب وبصيراً بها, قال عمر: من هو؟ قال: علي بن ابي طالب, قال: فالقه وكلمه وذاكره ذلك, فهل تراه مسرعاً إليه أو لا, فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك فأبى علي عليه السلام ذلك وكرهه)(21).
أو أن الخلفاء كانوا يترددون من أن يقود الإمام علي عليه السلام للجيش خوفاً من عدم إطاعة أوامرهم او العمل برأيه في تلك المواقف وفي مجريات الأمور, فقد (استشار أبو بكر عمر بن الخطاب في ارسال علي قائلاً له: إني عزمت أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب فإنه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه ورفقه بما يحاول من الأمور, قال عمر: صدقت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, إن علياً كما ذكرت وفوق ما وصفت, ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة: أخاف أن يأتي لقتال القوم فلا يقاتلهم, فإن أبى ذلك فلن تجد أحداً يسير إليهم إلا على المكروه, ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة فانك لا تستغني عنه)(22).
أي أن عمر خاف من علي عليه السلام أن يصالح القوم إن اذعنوا للسلم أو دخلوا الإسلام, -كما هو في عهدِ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين أرسله إلى اليمن فأسلم أهلها- فلا يقاتلهم وهنا لا يحصل الخلفاء على الغنائم.
ولا شكَّ أن الحسنين لا يعصيان أمر والدهما وهما في حياته فيخرجان في غزوٍ كره والدهما الاشتراك فيه, وقد انضما تحت لواء أمراء الجور والطغيان ليتم لهم تثبيت حكمهم وإرسال قواعد دولتهم.
ثانياً: ربما تخلف علي وبنوه عن الفتوح لأنها أفنت العباد, فقد قتل كثير من المسلمين الذين سيقوا جبراً لها وبقيت عوائلهم تحت رحمة اليتم والفقر كما قتل من أهالي تلك المناطق خلق كثير.
فلو أنها كانت حروباً عقدية لنشر الإسلام وبيان مبادئه السامية وخطوطه العريضة لآمن بها أهالي تلك المناطق إيماناً حقيقياً, إلا أنهم أجبروا على الاسلام بألسنتهم وبقيت عقائدهم تخالف ما يعلنون, ولولا ذلك لما ظهرت تلك الفرق الضالة مثل الزنادقة والمنوية وغيرهم.
وما انتشار الإسلام في دول شرق آسيا مثل ماليزيا واندونيسيا إلا مثال لما قام به التجار ودعاة الإسلام من الإقناع والتبليغ ما أخذ مأخذه عند سكان تلك المناطق دون حرب أو خسائر بشرية.
وقد جلبت هذه الفتوح الدعاية السيئة للإسلام, والتي لا يزال كتاب الغرب يلصقونها بالمسلمين, وهي أن الإسلام انتشر بالسيف وإراقة الدماء والقتل والاستيلاء على ممتلكات البلدان, وهو ما لا يرضاه الإسلامُ قطعاً.
ثالثاً: لقد كانَ من أسباب تلك الفتوحات كسب الأموال والحصول على الغنائم والاستيلاء على الأراضي بالقوة, وهناك كثير من الشواهد التاريخية على عناية الحكام وأعوانهم بالغنائم والأموال, منها:
أ. أن زياداً بعث الحكمَ بن عمر الغفاري على خراسان فأصابوا غنائم كثيرة فكتب إليه زيادٌ: أما بعد: فإن أمير المؤمنين كتب أن يصطفي البيضاءَ والصفراءَ ولا يقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة, فرفض الحكمُ ذلك, وقسمه بين المسلمين فوجه إليه معاوية من قيده وحبسه, فمات في قيوده ودُفن فيها وقال: إني مخاصم(23).
ب. إن عمر بن الخطاب حاول أخذ الجزية من رجل أسلم, على اعتبار أنه أسلم متعوذاً, فقال له ذلك الشخص: إن في الإسلام لمعاذاً, فقال عمر: إن في الإسلام لمعاذاً(24).
ولطالما سعى عمر إلى أخذ الجزية حتى ممن أسلم من أهل الذمة, وذلك بحجة أن الجزية بمنزلة الضريبة على العبد, فلا يسقط إسلام العبد ضريبته, وما مضاعفة الجزية على نصارى تغلب الا نتيجة لهذه السياسة(25).
فكان أن أثرى كبار الصحابة ثراءً فاحشاً على حساب الطبقات الفقيرة التي تعيش الفقر والحرمان وعلى حساب عوائل الذين أسلموا حديثا, ويحدثنا التاريخ عن الذهب والفضة اللذين يكتنزهما كل من عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وغيرهم, فيما تعيش آلاف العوائل تحت طائلة الفقر.
لقد وزعت تلك الغنائم على وضّاعي الحديث وداعمي السلطة, وعلى من باع دينه في سبيل تأييد الحكام وتثبيت أركان دولتهم, حتى أصبحت تلك الأموال حكراً على أعوان السلطة من الولاة والحكام وقادة الجيوش فيما حرم المؤمنون وأتباع أهل البيت من أعطياتهم لعدم مناصرتهم للظالمين.
رابعاً: إنّ الحكام يستفيدون من توجيه الجيوش الإسلامية لفتح البلدان وضمِّ المعترضين على حكمهم إليها ليأمنوا ثورتهم ليتخلصوا من خطرهم, والدليل على ذلك أنه: (لما تفاقمت النقمة على عثمان استدعى بعض المقربين منه, وهم معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر واستشارهم فيما ينبغي عمله لمواجهة نقمة الناس ومطالبتهم بعزله, فقال عبد الله بن عامرٍ: رأيي لك يا أميرَ المؤمنين: أن تأمرهم بجهادٍ يشغلُهم عنك, وأن تجهِّزهم في المغازي حتى يذلوا لك, فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه, وما هو عليه دَبرة دابتهِ وقمّل فروته, فردّ عثمان عُمّاله على أعمالِهم, وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث, وعزمَ على تحريمِ أُعطياتِهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه)(26).
وما تهجيرُ أكثر من مئتي ألفِ نسمةٍ من عوائل أهل الكوفة إلى خراسانَ بأمرِ زياد بن أبيه إلا لإبعادهم عن الثوراتِ والتدخلِ في شؤونِ الخلافةِ, ولأن الكوفة من الحواضر الثائرة ضدَّ الأمويين والمناهضة لحكمهم...
خامساً: يعتقد الشيعة الإمامية طبقاً لأقوالِ أئمةِ أهلِ البيت (أنّ الجهادَ الابتدائيَّ يحتاجُ إلى إذنِ الإمامِ العادل وتحريم الجهاد مع غير الإمام العادل)(27).
وقد وردَ التحريم على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: لا يخرجُ المسلمُ في الجهادِ مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفِّذُ في الفيء أمرَ الله عز وجل, فانه إن ماتَ في ذلك المكان كان معيناً لعدونا في حبسِ حقِّنا والإشاطة بدمائنا وميتته ميتةٌ جاهلية(28).
وقَد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام عدةُ أقوالٍ بهذا الخصوص: فقد ورد عن محمد بن الحسن الطاطري عن بشير الدهان قال: (قلتُ له (أي الإمام الصادق عليه السلام) إني رأيتُ في المنامِ أني قلت لك أنَّ القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرامٌ مثل الميتةِ والدمِ ولحمِ الخنزير, فقلت لي: هو كذلك, فقال الإمام عليه السلام هو كذلك هو كذلك)(29).
كما روي أن أبا عبد الله الصادق عليه السلام قال لعبد الملك بن عمرو: (يا عبد الملك: ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال: قلت: وأين؟ قال: جدّة وعبادان والمصيصة وقزوين, فقلت: انتظاراً لأمرِكم والاقتداء بكم, فقال عليه السلام: إي واللهِ لو كانَ خيراً ما سبقونا إليه)(30).
وعن ابن شُعبة عن الإمام الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون, قال عليه السلام: (الجهادُ واجبٌ مع إمامٍ عادلٍ)(31).
فهم عليهم السلام يرغبونَ في نشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ليمتَّد حكُم الله في الأرض ولا يُعبد إلهٌ سواه, ولكن الطريقةَ والأسلوبَ اللذين كانا متبعانِ في عهدِ الحُكّام الظالمين غيرُ صحيحٍ, وكان قادة الجيش وولاةُ الأمصار يبتزون أموال النــــاس ويســتأثـــرونَ بالغنـائــم وينشـــرون الرعـــــب لانتفاءِ العدالةِ وامتثالِ أحكام الشريعة, وفي الأخبار (أنّ عثمان جمع أكابرَ الصحابة وكان بينهم الإمام
علي عليه السلام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستشارهم في غزو افريقيا فرأوا في الأكثر أن المصلحة في أن لا تقعَ بأيدي أصحابِ الأغراضِ والأهواءِ والمنحرفين)(32).
وما ذلك إلا لتخوفهم من ولاةِ عثمان وتماديهم في التحلُّلِ من تعاليمِ الإسلامِ وأحكامه في الحربِ ومعاملةِ الأسرى وأهلِ الأرضِ المفتوحة.
سادساً: أن الإمامَ علياً عليه السلام كانَ قد منع ولديه في صفين من الاشتراك في القتال مع بلوغهما من الرجولة والشباب (33-34) سنةً, وفي حربٍ هو يخوضها وفي أيام خلافته ضدَّ عدوٍ باغٍ يعرفُ عصيانه ومروقه عن الدين, ولم يأذن لولديه بالقتالِ والاشتراكِ في الحرب, فكان حينما رأى الحسن بن علي متهيئاً للقتالِ مستعداً ليحمل على صفوف أهل الشام قال لمن حوله (أمسكوا عني هذا الغلام لا يهدني, فإنني أنفس بهذين الغلامين –يعني الحسنَ والحسينَ- لئلا ينقطع بهما نسلُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(33): وما ذلك إلا لحفظِ نسلِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاويةَ جاءَ فيه (وإني كنتُ لسخياً بنفسي عن الدنيا, طيبَ النفسِ بالموت, ولقد هممت بالإقدامِ على القومِ فنظرت إلى هذين -يعني الحسنَ والحسينَ- قد ابتدراني.. فعلمتُ أن هذين إن هلكا انقطع نسل محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأُمة فكرهتُ ذلك فأشفقت على هذين أن يهلكا...)(34).
وكلماته عليه السلام في الإمام الحسن عليه السلام معروفةٌ ومشهورةٌ ومنها وصيته عليه السلام إليه حيث يقولُ له: (وجدتك بعضي, بل وجدتك كلي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني وكأنّ الموت لو أتاك أتاني)(35).
فكيف يوافق الإمام على إرساله ولديه إلى أماكنَ بعيدةٍ كخراسان وشمال إفريقيا وهما بعد في أول شبابهما, ولم يكن له غيرهما وتحت قيادة حاكمٍ جائرٍ لم يأمن شرَّه, وهو قد ضنّ بهما وخاف عليهما معه وفي جيشه وتحت قيادته ومع أن له عشرة أولاد فخاف أن ينقطعَ بهما نسلُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سابعاً: لو رَجعنا إلى رواية الطبري عن غزو سعيد بن العاص طبرستان لوجدنا النصَّ يقول (غزا سعيد بن العاص من الكوفةِ سنة ثلاثين يريد خراسان, ومعه حذيفةُ بن اليمان والحسن والحسين)(36).
فهل كانَ الحسنان موجودين في الكوفة؟ والرواياتُ تؤكد أنهما لم يغادرا مدينة جدهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عام 35هـ حيث أرسل الإمام ولده الحسن عليه السلام إلى الكوفة ومعه عمار بن ياسر, وهل كان الحسنان جنديين في جيش ابن العاص حتى يذهب بهما من الكوفة إلى خراسان؟ لا شك أنّ الرواية تثير شكوكاً كثيرةً كانت قد خفيت على كاتبها وراويها.
ثامناً: لو سلمنا جدلاً أنّ ولدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجا يريدان الجهاد مع سعيد بن العاص أو عقبة بن نافع إلى خراسان وإفريقيا, وهما -لا شك- مكانان بعيدان عن مركز الخلافةِ الإسلامية الذي انطلق إليه الجيش الإسلامي, ونقل الجيش والمؤن كان وقتذاك على الإبلِ والخيول, ويحتاجُ إلى ايامٍ طويلةٍ ومددٍ متباعدةٍ, فهل تكلم هذان الإمامان, وهما من عاشا في أحضان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؟ وهل أثر عنهما حديث لهذا الجيش الذي يبلغ كما يقال عشرة آلافٍ؟ وهل تحدثا بحديث أفادا به تلك الجموع؟ كلُّ هذا لم يذكره التاريخ ولم تورد الروايات أنّ أحداً قال حدثنا الإمام الحسن أو الحسين ونحن في خراسان أو طبرستان أو في شمال افريقيا!.
كلُّ هذه الأدلة لا شك أنها كافية لدحضِ ادّعاءِ من يقول أنّ الإمام الحسنَ بنَ عليِّ شاركَ في غزوِ خراسان أو فتح شمال إفريقيا.
الخاتمة
إنها أسطرٌ قليلةٌ تتناسب مع بحثٍ مختصرٍ, ولو أردنا أن نؤلفَ فيه كتاباً لاحتجنا إلى كثيرٍ من الوقتِ والجهدِ والبحثِ والتنقيبِ, ولكن هذه الأدلة كافيةٌ في ردِّ من يقول باشتراك الإمام الحسن بن عليٍّ عليه السلام في غزو إفريقيا سنة 26هـ مع عقبة بن نافع وفي غزو خراسان سنة 30هـ مع سعيد بن العاص.
فمن تضعيف الروايات التي أوردها الطبري في تاريخه وهو المتوفى سنة 310هـ, وهو يسندها بأربعةِ طرقٍ إلى رجل مشترك في غزو خراسان واسمه حنش التغلبيُّ وبروايتين إحداهما تذكر أن الحسنين مع الغزو والأخرى تنفي ذلك, إلى رواية ابن خلدون في العبر, والذي توفي سنة 808, وجاءت روايته خاليةً من السند إلى راوٍ أو كتاب, وقد رأينا الاضطراب واضحاً في النصِّ حيث تذكرُ أنّ سعيد بن العاص خرج من الكوفة ومعه الحسنان, وهما لم يصلا الكوفة مطلقاً.
وما لمسناه من مُجمل حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام, وأنه يكره الاشتراك في حروبٍ يقودها حكّامٌ ظلمةٌ غصبوا حقه في الخلافة أو أن يُشرِكَ ولديه فيها وهي تهدفُ إلى تقويةِ سلطانهم وتثبيت ملكهم.
ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام يضنُّ بولديه أن يشتركا في حربٍ تحت لوائه وبقيادته, ويخشى عليهما من أن ينقطع بهما نسلُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فكيف يرسلهما إلى أماكن متباعدةٍ, وليس له غيرهما وتحت قيادة حكام لا يأمن بهم.
ومن الناحية الشرعية والعقدية للشيعة الإمامية فإن الائمة المعصومين عليهم السلام يحرمون على شيعتهم الاشتراك في مثل هذه الفتوح, لأنها لم تكن بموافقة الحاكم العادل, ويغنينا قولُ الإمام
الصادق عليه السلام لعبد الملك بن عمرو: لو كان خيراً ما سبقونا إليه, فكيف يخالف الإمامان هذه القاعدة.
وقد استشفّ الباحثُ من الحادثة كثيراً من الأدلةِ على بطلانِ هذه الروايةِ وضعفها, بل وسقوطها ومن الله التوفيق.

                   الباحث/ حسن عبد الأمير الظالمي
                             النجف الاشرف

المصادر
1. ابن خلدون, تاريخ ابن خلدون (العبر) مؤسسة جمال للطباعة, بيروت, ط1/1979.
2. ابن سعد, الطبقات, جـ2, مطبعة دار صادر, بيروت, ط2, 1985.
3. ابن أعثم/ أحمد, فتوح البلدان, جـ3, دار الندوة, بيروت, لبنان.
4. ابن أبي الحديد, شرح نهج البلاغة, دار الكتاب العربي, بغداد, ط1, 2007.
5. البدري, السيد سامي, صلح الحسن, مطبعة الفقه, ط1, 2012.
6. جورج جرداق, الإمام علي صوت العدالة الإنسانية, دار صعصعة, البحرين, ط1, 2003.
7. الحسني, هاشم معروف, سيرة الأئمة الاثني عشر, دار القلم, بيروت, ط2, 1978.
8. الحريزي, فارس رزاق, الإمام الحسن المجتبى في التاريخ, ط1, 2014 منشورات دار الرافد.
9. الحاكم النيسابوري, أبو عبد الله, المستدرك على الصحيحين, مطبعة دائرة مجلس المعارف/ الهند/ 1341 هـ جـ3.
10. الطبري, محمد بن جرير, تاريخ الأمم والملوك, دار إحياء التراث العربي, بيروت, ط1, 2008.
11. طالب, عايدة عبد المنعم, الإمام الحسن في محنة التاريخ, دار المحجة البيضاء, ط1, 2002.
12. العاملي, الحر, وسائل الشيعة, المكتبة الإسلامية, طهران, إيران.
13. القريشي, باقر شريف, موسوعة سيرة أهل البيت, الحسن بن علي, جـ10, ط1, 2009 مط نكارش, قم.
14. الكليني, محمد بن يعقوب, الكافي, كتاب الجهاد, مطبعة مؤسسة إحياء الكتب الاسلامية, قم, 1428.
15. المسعودي, أبو الحسن, مروج الذهب ومعادن الجوهر, جـ1, مطبعة دار الأنوار, بيروت, ط1, بدون سنة.
16. المجمع العالمي لأهل البيت, الإمام الحسن المجتبى, ط1, 1422 مطبعة ليلى, ايران.

 

 

 

 

الهوامش:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن خلدون/ تاريخ ابن خلدون أو (العبر)/ جـ2 ص128, مؤسسة جمال للطباعة/ بيروت/ 1979/ ط1.
(2) الطبري/ أبو جعفرٍ محمد بن جرير, تاريخ الأمم والملوك جـ4/ 182, دار إحياء التراث العربي, بيروت ط1, 2008.
(3) م. ن/ 4/ 183.
(4) انظر تاريخ ابن خلدون (العبر) جـ2 ص182.
(5) ابن سعد, الطبقات, جـ2 ص138, مطبعة دار صادر, بيروت, 1985.
(6) اليعقوبي/ أحمد بن إسحاق, تاريخ اليعقوبي, ص114, ط1, 1429, مطبعة مؤسسة العطار الثقافية, قم, إيران.
(7) ابن أعثم, أحمد, فتوح البلدان, مجلد 3/ ص131, دار الندوة, بيروت, د.ت.
(8) المسعودي, أبو الحسن, مــــروج الذهـــــب ومعـــــــــادن الجــــــوهـــــــــــــر, جـ1 / ص279, مطبعة دار الأنوار بيروت, لبنان, ط1, د.ت.
(9) ابن الأثير, أبو الحسن علي بن أبي الكرم, الكامل في التاريخ, جـ3 / ص54 دار صادر, بيروت سنة الطبع: 1965م.
(10) القرشي / باقر شريف/ موسوعة أهلِ البيت, الإمام الحسن بن علي جـ10 / 248 ط1, 2009, مطبعة نكارش/ قم.
(11) م. ن/ ص10/ 249.
(12) الحسنــــي/ هاشــــــــــم معــــــــروف/ سيـــــــرة الأئمــــــة الاثني عشـــــر/ ص535, دار القلم, بيروت, ط2, 1978.
(13) الحسنــــــــي/ هاشـــــــــــــــم معــــروف/ سيـــــرة الأئمـــــــــــة الاثني عشر/ ص536.
(14) م. ن ص537.
(15) الحريزي/ فارس رزاق/ الإمــــام الحســـن المجتبى في التاريخ/ ص36, ط1/ 2014 منشورات الرافد.
(16) م. ن / ص37.
(17) عايدة عبد المنعم طالب/ الإمام الحســــن في محنــــــة التاريــــخ: ص158-160, دار المحجة البيضاء ط1 2002.
(18) م. ن/ ص161.
(19) البدري/ السيد سامي/ صلح الحسن/ ص203 ط1/ 2012 مطبعة الفقه للطباعة والنشر.
(20) المجمـــــــع العالمي لأهل البيـــــت/ الإمــــــــام الحســــــن المجتبـــــــى/ ص71/ الطبعـــــــة الأولى/ مطبعة ليلى/ قم/ 1422هـ.
(21) ابن أعثم/ أحمد/ فتوح البلدان: 1/72 دار الندوة/ بيروت ط1.
(22) ن. م 1/ 72.
(23) الحاكم النيسابوري, أبو عبد الله, المستدرك على الصحيحين, مطبعة دائرة مجـــــــــلس المعـــــــــارف, الهنـــــد, 1341هـ, جـ3 ص442.
(24) المصنف, 6/94.
(25) ال