صُلحُ الحسن عليه السلام
تأليف: الشيخ راضي آل ياسين
تصدير بقلم: السيد عبد الحسين شرف الدين
الفهرس
التصدير
المقدمة
القسم الأول: الإمام الحسن عليه السلام
القسم الثاني: في الموقف السياسي
قبل البيعة
البيعة
الكوفة ايام البيعة
التصميم على الحرب
النفير والقيادة
عدد الجيش
عناصر الجيش
عبدالله بن عباس
بداية النهاية
موقف الحيرة
بين المبدأ والملك
التضحية
سرّ الموقف
القسم الثالث: الصلح
دوافع الفريقين للصلح
معاهدة الصلح
دراسة النصوص البارزة في المعاهدة
الاجتماع في الكوفة
الميدان الجديد
الوفاء بالشروط
معاوية وشيعة علي عليه السلام
نهاية المطاف
خاتمة في الموازنة بين ظروف الحسن وظروف الحسين عليهما السلام
1 - فهرس الأعلام
2 - فهرس الأمكنة والبلدان
3 - ثبت بأسماء الكتب المذكورة في الكتاب
التصدير
بِسِمِ اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم
كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية، من أشد ما لقيه أئمة أهل البيت من هذه الأمة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله.
لقي به الحسن عليه السلام محناً يضيق بها الوسع، لا قوة لأحد عليها الا باللّه عز وجل. لكنه رضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً بما يبتغيه من النصح للّه تعالى، ولكتابه عز وجل، ولرسوله، ولخاصة المسلمين وعامتهم، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل.
ولا وزن لمن اتهمه بأنه أخلد بصلحه إلى الدعة، وآثر العافية والراحة، ولا لمن طوحت بهم الحماسة من شيعته فتمنوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل إلى الحياة من طريق الموت، وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صنوه يوم الطف إلى نصره العزيز، وفتحه المبين.
ومن الغريب بقاء الناس في عشواء غماء من هذا الصلح إلى يومهم هذا، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها، عقلية ونقلية، وكم كنت أحاول ذلك، لكن اللّه عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولى بها، وأحق بكل فضيلة، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر (صلح الحسن) فاذا هو في موضوعه فصل الخطاب، ومفصل الصواب، والحد الفاصل بين الحق والباطل.
وقفت منه على فصول غرّ، تمثل فضل مؤلفها الاغر الابر، في كل ما يشتركان فيه من التحقيق، والدقة والاعتدال، وسطوع البيان والبرهان، والتأنق والتتبع، والورع في النقل، والرحابة في المناظرة، والاحاطة بما يناسب الموضوع، مع سهولة الاسلوب، وانسجام التراكيب، وبلاغة الايجاز اذا أوجز، وقبول الاطناب اذا أطنب.
فالكتاب يخضع لفكر منظم مبدع حجة، يصل وحدته بجداول دفاقة بالثراء العقلي والنقلي، وبروادف غنية كل الغنى، في كل ما يرجع إلى الموضوع، ويتم عليه عناصره القيمة.
فالاناقة فيه تخامر الاستيعاب، والوضوح يلازم العمق، والنقد التحليلي مرتكز هذه الخصائص.
أما المؤلف - اعلى اللّه مقامه - فانك تستطيع أن تستشف ملامحه، من حيث تنظر إلى مواهبه في كتابه هذا، ولو لم أره لقدرت أن ارسم له صورة أستوحي قسماتها من هذا السفر، اذ يريكه واضح الغرة، مشرق الوجه، حلو الحديث، هادئ الطبع، واسع الصدر، لين العريكة، وافر الذهن، غزير الفهم والعلم، واسع الرواية، حسن الترسل، حلو النكتة، لطيف الكناية، بديع الاستعارة، تنطق الحكمة من محاسن خلاله، ويتمثل الفضل بكل معانيه في منطقه وأفعاله، لا ترى أكرم منه خلقاً، ولا أنبل فطرة، عليماً زاخراً بعلوم آل محمد، علامة بحاثة، أمعن في التنقيب عن أسرارهم، يستجلي غوامضها، ويستبطن دخائلها، لا تفوته منها واردة ولا شاردة، إلى خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء.
ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، من أحوال الحسن ومعاوية، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالاً، وانما كانا في جبهتيهما خليفتين، استخلفهما الميراث على خلقين متناقضين: فخلق الحسن انما هو خلق الكتاب والسنة، وان شئت فقل خلق محمد وعلي. وأما خلق معاوية فانما هو خلق (الاموية)، وان شئت فقل: خلق أبي سفيان وهند، على نقيض ذلك الخلق.
والمتوسع في تاريخ البيتين وسيرة أبطالهما من رجال ونساء يدرك ذلك بجميع حواسه.
لكن لما ظهر الاسلام، وفتح اللّه لعبده ورسوله فتحه المبين، ونصره ذلك النصر العزيز، انقطعت نوازي الشر (الاموي)، وبطلت نزعات أبي سفيان ومن اليه مقهورة مبهورة، متوارية بباطلها من وجه الحق الذي جاء به محمد عن ربه عز وجل، بفرقانه الحكيم، وصراطه المستقيم، وسيوفه الصارمة لكل من قاومه.
وحينئذ لم يجد أبو سفيان وبنوه ومن اليهم بداً من الاستسلام، حقناً لدمائهم المهدورة يومئذ لو لم يستسلموا، فدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقلوبهم تنغل بالعدواة له، وصدورهم تجيش بالغل عليه، يتربصون الدوائر بمحمد ومن اليه، ويبغون الغوائل لهم. لكن رسول اللّه صلى الله عليه وآله كان - مع علمه بحالهم - يتألفهم بجزيل الاموال، وجميل الاقوال والافعال، ويتلقاهم بصدر رحب، ومحيا منبسط، شأنه مع سائر المنافقين من أهل الحقد عليه، يبتغي استصلاحهم بذلك.
وهذا ما اضطرهم إلى اخفاء العداوة له، يطوون عليها كشحهم خوفاً وطمعاً، فكاد الناس بعد ذلك ينسون (الاموية) حتى في موطنها الضيق - مكة -.
اما في ميادين الفتح بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فلم تعرف (الاموية) بشيء، سوى أنها من أسرة النبي ومن صحابته.
ثم أتيح بعد النبي لقوم ليسوا من عترته، أن يتبوأوا مقعده، وأتيح لمعاوية في ظلهم أن يكون من أكبر ولاة المسلمين، أميراً من أوسع أمرائهم صلاحية في القول والعمل.
ومعاوية اذ ذاك يتخذ بدهائه من الاسلام سبيلاً يزحف منه إلى الملك العضوض، ليتخذ به دين اللّه دغلاً، وعباد اللّه خولاً، ومال الله دولاً، كما انذر به رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فكان ذلك من اعلام نبوته.
نشط معاوية في عهد الخليفتين الثاني والثالث، بامارته على الشام عشرين سنة، تمكن بها في أجهزة الدولة، وصانع الناس فيها وأطمعهم به فكانت الخاصة في الشام كلها من أعوانه، وعظم خطره في الاسلام، وعرف في سائر الاقطار بكونه من قريش - أسرة النبي صلى الله عليه وآله - وأنه من أصحابه، حتى كان في هذا أشهر من كثير من السابقين الاولين الذين رضى اللّه عنهم ورضوا عنه، كأبي ذر وعمار والمقداد وأضرابهم.
هكذا نشأت (الاموية) مرة أخرى، تغالب الهاشمية باسم الهاشمية في علنها، وتكيد لها كيدها في سرها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامة بدهائها، وتشتري الخاصة بما تغذقه عليهم من أموال الامة، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها اللّه للخونة من أمثالهم، تستغل مظاهر الفتح واحراز الرضا من الخلفاء.
حتى اذا استتب أمر (الاموية) بدهاء معاوية، انسلت إلى احكام الدين انسلال الشياطين، تدس فيها دسها، وتفسد افسادها، راجعة بالحياة إلى جاهلية تبعث الاستهتار والزندقة، وفق نهج جاهلي، وخطة نفعية، ترجوها (الاموية) لاستيفاء منافعها، وتسخرها لحفظ امتيازاتها.
والناس - عامة - لا يفطنون لشيء من هذا، فان القاعدة المعمول بها في الاسلام - أعني قولهم: الاسلام يجبُّ ما قبله - ألقت على فظائع (الاموية) ستراً حجبها، ولا سيما بعد أن عفا عنها رسول اللّه وتألفها، وبعد أن قربها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات على المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم. فسارت في الشام سيرتها عشرين عاماً (لا يتناهون عن منكر فعلوه) ولا ينهون.
وقد كان الخليفة الثاني عظيم المراقبة لعماله، دقيق المحاسبة لهم، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلاً: تعتع بخالد بن الوليد، عامله على (قنسرين) اذ بلغه أنه اعطى الاشعث عشرة آلاف، فأمر به فعقله (بلال الحبشي) بعمامته، وأوقفه بين يديه على رجل واحدة، مكشوف الرأس، على رؤوس الاشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص، يسأله عن العشرة آلاف: أهي من ماله أم من مال الامة؟ فان كانت من ماله فهو الاسراف، واللّه لا يحب المسرفين. وان كانت من مال الامة فهي الخيانة، واللّه لا يحب الخائنين، ثم عزله فلم يولّه بعد حتى مات.
ودعا أبا هريرة، فقال له: (علمت أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين! ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار!) قال: (كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت). قال: (حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدِّه). قال: (ليس لك ذلك). قال: (بلى وأُوجع ظهرك). ثم قام اليه بالدرة فضربه حتى أدماه. ثم قال: (إئت بها). قال: (احتسبها عند اللّه). قال: (ذلك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعاً!. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا للّه ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة - يعني أمه - الا لرعية الحمر).
وفي حديث أبي هريرة: (لما عزلني عمر عن البحرين، قال لي: يا عدو اللّه وعدو كتابه، سرقت مال اللّه! فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني) الحديث.
وكم لعمر مع عماله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبعون.
عزل كلاً من أبي موسى الاشعري، وقدامة بن مظعون، والحارث بن وهب، أحد بني ليث بن بكر، بعد أن شاطرهم أموالهم(1).
هذه مراقبة عمر لعماله، لا هوادة عنده لاحد منهم، لكن معاوية كان أثيره وخلصه، على ما كان من التناقض في سيرتيهما. ما كف يده عن شيء ولا ناقشه الحساب في شيء، وربما قال له: (لا آمرك ولا أنهاك) يفوض له العمل برأيه.
وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه (الاموية). وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره ازاء خطر فظيع، يهدد الاسلام باسم الاسلام، ويطغى على نور الحق باسم الحق، فكانا في دفع هذا الخطر، أمام امرين لا ثالث لهما: اما المقاومة، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى اللّه عزّ وجل، والى صراطه المستقيم. اذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم، فواجه بهم القوة التي لا قبل لهم بها(2) مصمماً على التضحية، تصميم أخيه يوم (الطف) لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعاً، ولانتصرت (الاموية) بذلك نصراً تعجز عنه امكانياتها، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها. اذ يخلو بعدهم لها الميدان، تمعن في تيهها كل امعان، وبهذا يكون الحسن - وحاشاه - قد وقع فيما فر منه على أقبح الوجوه، ولا يكون لتضحيته أثر لدى الرأي العام الا التنديد والتفنيد(3).
ومن هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو اليه من الملك، لكن أخذ عليه في عقد الصلح، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الاموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالماً بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها(4).
هذا ما أعده عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه (الاموي) المموّه، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال (الاموية) كما هم جاهليين، لم تخفق صدورهم بروح الاسلام لحظة، ثأريين لم تنسهم مواهب الاسلام ومراحمه شيئاً من أحقاد بدر واُحد والاحزاب.
وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد، أملاه ظرف الحسن، اذ التبس فيه الحق بالباطل، وتسنى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية.
ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من ارثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت، يسترشد الرسالة في اقدامه وفي احجامه. امتحن بهذه الخطة فرضخ لها صابراً محتسباً وخرج منها ظافراً طاهراً، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها.
أخذ هذه الخطة من صلح (الحديبية) فيما أثر من سياسة جده صلى الله عليه وآله، وله فيه أسوة حسنة، اذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه، كما أنكر على الحسن صلح (ساباط) بعض الخاصة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.
وقد ترك هذه الخطة نموذجاً صاغ به الائمة التسعة - بعد سيدي شباب أهل الجنة - سياستهم الحكيمة، في توجيهها الهادئ الرصين، كلما اعصوصب الشر. فهي اذاً جزء من سياستهم الهاشمية الدائرة أبداً على نصرة الحق، لا على الانتصار للذات فيما تأخذ او تدع.
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنى له به أن يلغم نصر الاموية ببارود الاموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءاً، وريحاً هباءاً.
لم يطل الوقت حتى انفجرت اولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، اذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة. فقال - وقد قام خطيباً فيهم -: (يا أهل العراق، اني واللّه لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتزكوا، ولا لتحجوا، وانما قاتلتكم لاتأمر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون!. ألا وان كل شيء اعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدميَّ هاتين!).
فلما تمت له البيعة خطب فذكر علياً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فقال له الحسن: (على رسلك يا أخي). ثم قام عليه السلام فقال: (أيها الذاكر علياً! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة، فلعن اللّه أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!) فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).
ثم تتابعت سياسة معاوية، تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الاسلام، قتلاً للابرار، وهتكاً للاعراض، وسلباً للاموال، وسجناً للاحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطأة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سمية الذي نفاه عن ابيه الشرعي عبيد، والحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويفرقهم عباديد، تحت كل كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكل طريق.
ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرة، ويوم مكة اذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.
هذه خاتمة أعمال معاوية، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.
وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد، وتدور خطوب، وتزدحم محن، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي - في الحق - لو وزعت على دهر لضاق بها، وناء بحملها، ولو وزعت على عالم لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يطاق.
ومهما يكن من أمر، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها. وكان أهم ما يرمي اليه سلام اللّه عليه، أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد.
وقد تم له كل ما أراد، حتى برح الخفاء، وآذن أمر الاموية بالجلاء، والحمد للّه رب العالمين.
وبهذا استتب لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح اللّه بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الالباب.
وقد كانا عليهما السلام وجهين لرسالة واحدة، كل وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.
فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل اللّه، وانما صان نفسه يجندها في جهاد صامت، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية، قبل ان تكون حسينية.
وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطف لدى اولي الالباب ممن تعمق.
لان الحسن عليه السلام، أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكين قاعد.
وكانت شهادة (الطف) حسنية أولاً، وحسينية ثانياً، لان الحسن أنضج نتائجها، ومهد أسبابها.
كان نصر الحسن الدامي موقوفاً على جلو الحقيقة التي جلاها - لاخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح اللّه له فتحه المبين.
وكانا عليهما السلام كأنهما متفقان على تصميم الخطة: أن يكون للحسن منها دور الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألف من الدورين خطة كاملة ذات غرض واحد.
وقد وقف الناس - بعد حادثتي ساباط والطف - يمعنون في الاحداث فيرون في هؤلاء الامويين عصبة جاهلية منكرة، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الاسلام وأهله.
رأى الناس من هؤلاء الامويين، قردة تنزو على منبر رسول اللّه، تكشِّر للامة عن أنياب غول، وتصافحها بأيد تمتد بمخالب ذئب، في نفوس تدب بروح عقرب.
رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفف من شرها التربية الإسلامية، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمدية. فمضغ الاكباد يوم هند وحمزة، يرتقي به الحقد الاموي الاثيم، حتى يكون تنكيلاً بربرياً يوم الطف، لا يكتفي بقتل الحسين، حتى يوطئ الخيل صدره وظهره. ثم لا يكتفي بذلك، حتى يترك عارياً بالعراء، لوحوش الارض وطير السماء، ويحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الاسنة إلى الشام. ثم لا يكتفي بهذا كله، حتى يوقف حرائر الوحي من بنات رسول اللّه على درج السبى!!!...
رأى الناس الحسن يسالم، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة، حتى دس معاوية اليه السم فقتله بغياً وعدواناً. ورأوا الحسين يثور في حين أتيح للثورة الطريق إلى أفهامهم تتفجر فيها باليقظة والحرية، فلا تقف الوحشية الاموية بشيء عن المظالم، بل تبلغ في وحشيتها أبعد المدى.
وكان من الطبيعي أن يتحرر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً إلى زوايا التاريخ وأسراره، يستنزل الاسباب من هنا وهناك بلمعان ويقظة، وسير دائب يدنيه إلى الحقيقة، حقيقة الانحراف عن آل محمد، حتى يكون أمامها وجهاً لوجه، يسمع همسها هناك في الصدر الاول، وهي تتسار وراء الحجب والاستار، وتدبر الامر في اصطناع هذا (الداهية الظلوم الاموي) اصطناعاً يطفئ نور آل محمد، أو يحول بينه وبين الامة.
نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما كل خافية من أمر (الاموية) وأمور مسددي سهمها على نحو واضح.
أدرك - فيما يتصل بالامويين - أن العلاقة بينهم وبين الاسلام انما هي علاقة عداء مستحكم، ضرورة أنه اذا كان الملك هو ما تهدف اليه الاموية، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسم وأنواع الظلم والهضم، وتتقصى الاحرار الابرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!...
واذا كان الملك وحده هو ما تهدف اليه الاموية، فقد أزيح الحسين من الطريق، وتم ليزيد ما يريد، فما بالها لا تكف ولا ترعوي، وانما تسرف اقسى ما يكون الاسراف والاجحاف في حركة من حركات الافناء على نمط من الاستهتار، لا يعهد في تاريخ الجزارين والبرابرة؟؟..
أما ما انتجته هذه المحاكمة لأولي الالباب، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير، ومطالع النور في التاريخ الاسلامي، على انا فصلناه بآياته وبيناته في مقدمة (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) فليراجع، ولنكتف الآن بالاشارة إلى ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين، والتعاون بين هذين المظهرين، على كشف القناع عن الوجه الاموي المظلم، والاعلان عن الحقيقة الاموية، فأقول عوداً على بدء: كانت شهادة الطف حسنية اولاً، وحسينية ثانياً. وكان يوم ساباط، أعرق بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطف عند من تعمق واعتدل وأنصف.
الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الامة، والخبير بأسرار الأئمة، حجة الاسلام والمسلمين، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى اللّه مقامه.
ذلك لان أحداً من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له، وها هو ذا مشرف من القمة على الامة، ليسد في مكتبتها فراغاً كانت في فاقة إلى سده، فجزاه اللّه عن الامة وعن الائمة، وعن غوامض العلم التي استجلاها، ومخبآته التى استخرجها، ومحص حقائقها، خير جزاء المحسنين، وحشره في أعلى عليين [مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً].
حرر في صور (جبل عامل)
في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة
عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي
بِسمِ اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم
الحمُد للّهِ ربَ العَالمين وَصلى اللّهُ على محَمد وآلهِ وصحبهُ
المقدمة
وهأنذا مقدم - الآن - بين يدي قارئي الكريم، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ، التي لم يحفل في عرضها، بما تستحق - مؤرخونا القدامى، ولم يعن في تحليلها - كما يجب - كتابنا المحدثون.
تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الاسلام والتي جاءت بين دوافع الاولين، وتساهل الآخرين، صورة مشوهة من صور التاريخ. وتعرضت في مختلف ادوارها لما كان يجب ان يتعرض له امثالها من الفترات المطموسة المعالم، المنسية للحقائق، المقصودة - على الاكثر - بالاهمال او بالتشويه، فاذا بالحسن بن علي (عليه وعلى ابيه افضل الصلاة والسلام) في عرف الاكثرين من المتسرعين باحكامهم - من شرقيين وغربيين - الخليفة الضعيف السياسة! التوفر على حب النساء! الذي باع (الخلافة) لمعاوية بالمال!!.. إلى كثير من هذا الهذر الظالم، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق، ولا يرجع في تحكماته إلى دليل، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق او تدقيق.
وعمدت هذه الفصول إلى تقلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها - في ذاتها - ولا بموقعها (الاستراتيجي) في التاريخ - اذا صح هذا التعبير - عن اعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ الاسلام منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله والى يوم الناس، لانها كانت ظرف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلائف الآخرين، ولانها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الاسلام، واللحظة التي صدَّقت باحداثها الحديث النبوي الشريف الذي انبأ برجوع الامر بعد ثلاثين عاماً إلى الملك العضوض، ولانها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لاول مرة في تاريخ العقائد الاسلامية.
ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول، ان ترجع - بعد الجهد المرتخص في سبيلها - بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق - أبعد ما تكون تأتياً في البحث، واكثر ما تكون تفسخاً في المصادر، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الاحداث - فتعرضها في هذه السطور مجلوة على واقعها الاول، او على اقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين احضان جيلها المختلف الالوان.
فاذا الحسن بن علي (ع) - بعد هذا - وعلى قصر عهده في خلافته، من أطول الخلفاء باعاً في الادارة والسياسة، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الامور، وسموّه في علاج المشكلات، انه استغفل معاوية بن ابي سفيان اعنف ما يكون في موقفه منه حذراً وانتباهاً واستعداداً للحبائل والغوائل. واذا بزواجه الكثير دليل عظمته الروحية في الناس. واذا (بالصلح) الذي حاكه على معاوية اداته الجبارة للقضاء على خصومه في التاريخ، دون ان يكون ثمة اية مساومة على بيعة أو على خلافة أو على مال. واذا كل خطوات هذا الامام، وكل ايجاب او سلب في سياسته - مخفقاً او منتصراً - آية من آيات عظمته التي جهلها الناس وظلمها المؤرخون.
وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء، ان يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم، ناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق، او المغلوبين بسوء الطوية، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير، ثم يتحذلقون بالتطاول على الكرامات المجيدة، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث، فلا يدلون بتفريطهم في احكامهم الا على فرط الضعف في نفوسهم.
وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز. وان لهذا الامام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الاسنى من صفوة (العظماء) الخالدين.
وحسبنا من هذه السطور، أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس، عظمة هذا الامام، خالصة من كل شوب، سالمة من كل عيب، نقية من كل نقد.
وكانت النقود التي جرح بها وقاح الرأي سياسة الحسن عليه السلام، أبعد ما يكونون - في تجريحهم - عن النصف والعمق والاحاطة بالظرف الخاص، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام عليه السلام، وكان للشهوة الحزبية من بعض، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر، وللجهل بالواقع من ثالث، أثره فيما أسف به المتسرّعون إلى أحكامهم.
ونظروا اليه نظرتهم إلى زعيم أخفق في زعامته، وفاتهم أن ينظروا إلى دوافع هذا الاخفاق المزعوم، الذي كان - في حقيقته - انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته، بما كان قد طغى على هذا الجبل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس، وأيّ غضاضة على (الزعيم) اذا فسد جيله، أو خانت جنوده، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
وفاتهم - بعد ذلك - أن ينظروا اليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه، فيضع الخطط ويقرر النتائج، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر - بنتائجه - قبور خصومه قبراً قبراً، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة إلى الاصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم تُرى، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.
وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع - كما قلنا - أقرب شيء من الواقع، أو هي الواقع نفسه، مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية، وبالدراسات النفسية، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب، والقاعدة التي خرج منها إلى احكامه بسهولة ويسر، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء..
* * *
وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتاباً في أحوال الإمام الحسن (ع)، بوجه عام، وانما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب. وكان من التوفر على استيعاب هذا الموضوع أن نتقدم بفصل خاص عن الترجمة له، وأن نستطرد في أطوائه ما يضطرنا البحث اليه.
وان موضوعاً من العمق والعسر كموضوعنا، وبحثاً فقير المادة قصير المدد كبحثنا - ونحن نتطلع اليه بعد 1328 من السنين - لحريّ بأن لا يدرّ على كاتبه باكثر مما درّت به هذه الفصول، احرص ما تكون توفراً على استقصاء المواد، وتنسيق عناصر الموضوع، وتهذيبها من الزائف والدخيل. ونحن اذ نومئ إلى (فقر المادة) وأثره على البحث، لا نعني بالمادة الا هذه (الموسوعات) التي كان بامكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق. اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الاولين، مما كتب عن قضية الحسن (ع) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية، وطعمة الضياع والانقراض اخيراً. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الاسلام، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة امثال قضيتنا - موضوع البحث -.
فلم نجد - على هذا - من مصادر الموضوع: كتاب صلح الحسن ومعاوية، لاحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة 333 هجري، ولا كتاب صلح الحسن عليه السلام، لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لهشام بن محمد بن السائب، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة 283 هجري ولا كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في امر الحسن عليه السلام، ولا كتاب اخبار الحسن عليه السلام ووفاته، للهيثم بن عدي الثعلي المتوفى سنة 207 هجري، ولا كتاب اخبار الحسن بن علي عليه السلام، لابي اسحاق ابراهيم بن محمد الاصفاني الثقفي(5)، ولا نظائرها.
اما هذه المصادر التي قدّر لنا ان لا نجد غيرها سنداً، فيما احتاجت به هذه البحوث إلى سند ما، فقد كان اعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن عليه السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة، او رواية خطبة، او نقل تصريح، او الحكم على احصاء، بل لا يتفق سندان منها - على الاكثر - في تأريخ وقت الحادث او الخطبة من تقديم او تأخير، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً، او ترتيب القيادة بين الاثنين او الثلاثة، ولا في رواية طرق النكاية التي اريدت بالحسن (ع) في ميادينه، او في التعبير عن صلحه، او في قتله اخيراً، ولا في كل صغيرة او كبيرة من اخبار الملحمة، من ألفها إلى يائها.
وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
واذا كان من اصعب مراحل هذا التأليف، ارجاع هذه الحقائق إلى تسلسلها الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الاول، فقد كان من أيسر الوسائل إلى تحقيق هذا الغرض، الاستعانة عليه بقرائن الاحوال، وتناسق الاحداث، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع.
وكان من حسن الصدف، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة، فكانت - بمجموعها - وعلى نقص كل منها، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
ووقفنا في فلسفة الموقف - عند مختلف مراحله - وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور، التي لا تستسلم للنقل اكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه، إلى التصريحات الشخصية التي جاءت ادلّ على الغرض من روايات كثير من المؤرخين.
وهي - بعد - بضاعتي المزجاة التي لا اريد منها الا ان تكون مفتاح بحوث جديدة، من شأنها ان تكشف كثيراً من الغموض الذي دار مع قضية الحسن في التاريخ.
فان هي وُفِّقَتْ إلى ذلك، فقد أوتيت خيراً كثيراً.
وما توفيقي الا باللّه عليه توكلت واليه انيب.
المؤلف
القسم الأول: الإمام الحسن عليه السلام
أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وامه سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه. صلى اللّه عليه وعليهم.
ولا أقصر من هذا النسب في التاريخ، ولا أشرف منه في دنيا الانساب.
مولده:
ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث للهجرة.
وهو بكر أبويه.
وأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فور ولادته. فأذن في اذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثم عق عنه. وحلق رأسه. وتصدق بزنة شعره فضةً فكان وزنه درهماً وشيئاً. وأمر فطُلي رأسه طيباً، وسُنَّت بذلك العقيقة والتصدّق بوزن الشعر.
وسماه (حسناً). ولم يعرف هذا الاسم في الجاهلية.
وكنّاه (أبا محمد). ولا كنية له غيرها.
القابه:
السبط. السيد. الزكيّ. المجتبى. التقيّ.
زوجاته:
تزوج (ام اسحق) بنت طلحة بن عبيد اللّه. و(حفصة) بنت عبد الرحمن بن ابي بكر. و(هند) بنت سهيل بن عمرو. و(جعدة) بنت الاشعث بن قيس، وهي التي اغراها معاوية بقتله فقتلته بالسم.
ولا نعهد انه اختص من الزوجات - على التعاقب - باكثر من ثمان أو عشر.. على اختلاف الروايتين.. بما فيهن امهات اولاده.
ونسب الناس اليه زوجات كثيرات، صعدوا في أعدادهن ما شاؤوا.. وخفي عليهم ان زواجه الكثير الذي أشاروا اليه بهذه الاعداد، واشار اليه آخرون بالغمز والانتقاد، لا يعني الزواج الذي يختص به الرجل لمشاركة حياته، وانما كانت حوادث استدعتها ظروف شرعية محضة. من شأنها ان يكثر فيها الزواج والطلاق معاً، وذلك هو دليل سمتها الخاصة.
ولا غضاضة في كثرة زواج تقتضيه المناسبات الشرعية، بل هو - بالنظر إلى ظروف هذه المناسبات - دليل قوة الامام في عقيدة الناس - كما اشير اليه -. ولكن المتسرعين إلى النقد، جهلوا الحقيقة وجهلوا انهم جاهلون. ولو فطنوا إلى جواب الإمام الحسن عليه السلام لعبد اللّه بن عامر بن كريز، وقد بنى بزوجته، لكانوا غيرهم اذ ينتقدون.
اولاده:
كان له خمسة عشر ولداً بين ذكر وانثى، هم زيد والحسن وعمرو والقاسم وعبد اللّه وعبد الرحمن والحسن الاثرم وطلحة، وام الحسن وام الحسين وفاطمة وام سلمة ورقية وام عبد اللّه وفاطمة.
وجاء عقبه من ولديه الحسن وزيد، ولا يصح الانتساب اليه من غيرهما.
أوصافه:
(لم يكن أحد اشبه برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الحسن بن علي عليه السلام خلقاً وخلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً).
بهذا وصفه واصفوه. وقالوا:
كان ابيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، كأن عنقه ابريق فضة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكراديس، دقيق المسربة، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً.
او كما قال الشاعر:
مادب في فطن الاوهام من حسنٍ * * * الا وكان له الحظ الخصوصيُّ
كأنَّ جبهته من تحت طرّته * * * بدر يتوّجه الليل البهيميُّ
قد جلّ عن طيب اهل الارض عنبره * * * ومسكه فهو الطيب السماويُّ
وقال ابن سعد: (كان الحسن والحسين يخضبان بالسواد).
وقال واصل بن عطاء: (كان الحسن بن علي عليهما السلام، عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك).
عبادته:
حج خمساً وعشرين حجة ماشياً، والنجائب لتقاد معه، واذا ذكر الموت بكى، واذا ذكر القبر بكى، واذا ذكر البعث بكى، واذا ذكر الممر على الصراط بكى، واذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها، واذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل اللّه الجنة وتعوذ باللّه من النار.
وكان اذا توضأ، او اذا صلى ارتعدت فرائصه واصفر لونه.
وقاسم اللّه تعالى ماله ثلاث مرات. وخرج من ماله لله تعالى مرتين. ثم هو لا يمر في شيء من احواله الا ذكر اللّه عز وجل.
قالوا: (وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا).
اخلاقه:
كان في شمائله آية الانسانية الفضلى، ما رآه أحد الا هابه، ولا خالطه انسان الا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه ان ينهي حديثه أو يسكت.
قال ابن الزبير فيما رواه ابن كثير (ج 8 ص 37): (واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي).
وقال محمد بن اسحق: (ما بلغ احد من الشرف بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله، ما بلغ الحسن بن علي. كان يبسط له على باب داره فاذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمر أحد من خلق اللّه اجلالاً له، فاذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس).
ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى، فما من خلق اللّه احد الا نزل ومشى حتى سعد بن ابي وقاص، فقد نزل ومشى إلى جنبه.
وقال مدرك بن زياد لابن عباس، وقد امسك للحسن والحسين بالركاب وسوى عليهما ثيابهما: (انت أسن منهما تمسك لهما بالركاب؟). فقال: (يا لكع! وما تدري من هذان، هذان ابنا رسول اللّه، أوَليس مما أنعم اللّه علي به ان امسك لهما واسوي عليهما!)
وكان من تواضعه على عظيم مكانته انه مر بفقراء وضعوا كسيرات على الارض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: (هلم يا ابن رسول اللّه إلى الغداء!) فنزل وقال: (ان اللّه لا يحب المتكبرين). وجعل يأكل معهم. ثم دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم.
وكان من كرمه انه اتاه رجل في حاجة، فقال له: (اكتب حاجتك في رقعة وارفعها الينا). قال: فرفعها اليه فأضعفها له، فقال له بعض جلسائه: (ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول اللّه!). فقال: (بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف اهلاً. أما علمت ان المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فاما من أعطيته بعد مسألة، فانما اعطيته بما بذل لك من وجهه. وعسى ان يكون بات ليلته متململاً أرقاً، يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة الرد، ام بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق، فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فان ذلك أعظم مما نال من معروفك).
وأعطى شاعراً فقال له رجل من جلسائه: (سبحان اللّه اتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان!). فقال: (يا عبد اللّه ان خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وان من ابتغاء الخير اتقاء الشر).
وسأله رجل فأعطاه خمسين الف درهم وخمسمائة دينار وقال له: (ائت بحمال يحمل لك). فأتى بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: (هذا كرى الحمال).
وجاءه بعض الاعراب. فقال: (اعطوه ما في الخزانة!). فوجد فيها عشرون الف درهم. فدفعت اليه، فقال الاعرابي: (يا مولاي، ألا تركتني أبوح بحاجتي، وانشر مدحتي؟). فأنشأ الحسن يقول:
نحن اناس نوالنا خضل * * * يرتع فيه الرجاء والامل
تجود قبل السؤال أنفسنا * * * خوفاً على ماء وجه من يسل
وروى المدائني قال: (خرج الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر حجاجاً ففاتتهم اثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا عجوزاً في خباء فاستسقوها فقالت: هذه الشويهة احلبوها، وامتذقوا لبنها، ففعلوا. واستطعموها، فقالت: ليس الا هذه الشاة فليذبحها أحدكم. فذبحها احدهم، وكشطها. ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا. وقالوا عندها، فلما نهضوا، قالوا: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فاذا عدنا فألمي بنا، فانا صانعون بك خيراً. ثم رحلوا فلما جاء زوجها، أخبرته فقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين: نفر من قريش. ثم مضت الايام، فأضرت بها الحال، فرحلت حتى اجتازت بالمدينة، فرآها الحسن (ع) فعرفها، فقال لها: أتعرفينني؟ قالت: لا. قال: أنا ضيفك يوم كذا وكذا، فأمر لها بالف شاة والف دينار، وبعث بها إلى الحسين (ع) فأعطاها مثل ذلك، ثم بعثها إلى عبد اللّه بن جعفر فأعطاها مثل ذلك).
وتنازع رجلان، هاشمي واموي. قال هذا: (قومي اسمح). وقال هذا: (قومي اسمح). قال: (فسل انت عشرة من قومك، وانا اسأل عشرة من قومي). فانطلق صاحب بني امية فسأل عشرة، فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم. وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي، فأمر له بمائة وخمسين الف درهم، ثم أتى الحسين فقال: (هل بدأت بأحد قبلي؟). قال: (بدأت بالحسن) قال: (ما كنت أستطيع أن ازيد على سيدي شيئاً) فأعطاه مائة وخمسين الفاً من الدراهم. فجاء صاحب بني امية يحمل مائة الف درهم من عشر أنفس، وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة الف درهم من نفسين. فغضب صاحب بني أمية، فردها عليهم، فقبلوها. وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما، فأبيا ان