المحتويات
2016/03/17
 
17491
صلح الإمام الحسن عليه السلام

صلح الإمام الحسن عليه السلام

صلح الإمام الحسن عليه السلام

المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
الطبعة الأولى
1425هـ / 2004م

الفهرس

كلمة الناشر
المقام الرفيع
سيد شباب أهل الجنة
أخلاق الأنبياء عليهم السلام
كريم أهل البيت عليه السلام
علاقته عليه السلام مع الله عز وجل
كرامته عليه السلام على الله
نبذة عن تاريخ الامام الحسن عليه السلام
فصل: الصلح المفروض
مؤلفات في باب الصلح
ضغوط داخلية
الشيعة المظلومون
الأوضاع السياسية والاجتماعية
سياسة معاوية في الإرهاب وقمع الشيعة
تصوير الإمام الباقر عليه السلام للأوضاع
من أسباب الصلح مع معاوية
من شروط الصلح
ما بعد الصلح
الإعداد لثورة الإمام الحسين عليه السلام
الخاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ)
صدق الله العلي العظيم
سورة الأنفال: الآية 61

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير محمّد وآله الطاهرين.
أمّا بعد، فربما يتساءل البعض قائلاً: لماذا صالح الإمام الحسن عليه السلام معاوية؟
ولماذا لم يقاتله كما قاتله من قبل والده أمير المؤمنين عليه السلام؟
وإذا كان الجواب أنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يملك الأنصار لقتال معاوية، فلماذا لم يثر ضدّه كما ثار سيّد الشهداء الحسين عليه السلام مع قلّة الأنصار ضدّ يزيد الطاغية؟
مجموعة أسئلة يردّدها البعض بين الحين والآخر دون أن يطّلع على الظروف القاسية التي حدت بريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب الجنّة إلى الصلح مع معاوية بن أبي سفيان.
وهذا الكتاب الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ عبارة عن إثارة للقضية وفتح باب لدراسة صلح الإمام الحسن عليه السلام وبيان دوافعه وأسبابه القاهرة التي جعلت سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضطر للصلح مع معاوية الذي تسلّط على رقاب العباد وأعاث في البلاد الفساد، وذلك لمصلحة أهم وهي حفظ الإسلام والمسلمين.
وقد تميّز الكتاب على صغر حجمه ببيان الأسباب الرئيسة لصلح الإمام الحسن عليه السلام بعد الإشارة إلى شيء من عظمة الإمام المجتبى عليه السلام ومدى ارتفاع مقامه العظيم عند الله تعالى وأهل البيت عليهم السلام.
والذي يزيد الكتاب أهميّة هو أنّ مؤلّفه نحرير من أهل العلم ومرجع فذّ من نوابغ العصر ألا وهو سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد الحسيني الشيرازي قدس سره الذي ترك للمجتمع خير الكتب في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام وبيان معارفهم وعلومهم.
يبقى القول بأنّ الكتاب بمثابة طرق الباب لكي يشمّر الآخرون عن سواعدهم فيحقّقوا أكثر في هذا الصلح الذي أُلجئ إليه سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام.

 مركز الجواد للتحقيق والنشر بيروت لبنان ص.ب: 5955/ 13 ‎

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين.
قبل أن نتحدّث عن صلح الإمام الحسن عليه السلام وما يرتبط به من الدوافع والأسباب والنتائج، نذكر بعض فضائل الإمام عليه السلام على ما ورد في الروايات الشريفة.
المقام الرفيع
إنّ للإمام الحسن عليه السلام مقامات عظيمة وفضائل كثيرة، أشار إليها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في كلماته ومواقفه الشريفة، نشير إلى بعضها:
منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام: (من أحبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة)(1).
ويستلهم من هذا الحديث لزوم اتباعهم فـ (إن المحب لمن يحب مطيع)(2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(3)، (4).
فإنه صريح في إمامتهما عليهما السلام وصحة ما قاما به، ومع ملاحظة هذه الروايات يتضح أن الحق في باب الصلح كان مع الإمام الحسن عليه السلام والصواب كان في سياسته وطريقته التي اتبعها بأمر من الله عز وجل، فإنهم عليهم السلام معصومون عن كل ذنب وخطأ.
إنهما في الجنة
وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس يوماً فقال: (يا أيّها الناس ألا اُخبركم بخير الناس جدّاً وجدّة)؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين، جدّهما رسول الله وجدّتهما خديجة بنت خويلد.
ألا أُخبركم بخير الناس أباً وأُمّاً؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين، أبوهما علي بن أبي طالب وأُمّهما فاطمة بنت محمّد.
ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس عمّاً وعمّة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين عمّهما جعفر بن أبي طالب، وعمّتهما أُمّ هانئ بنت أبي طالب.
أيّها الناس ألا أُخبركم بخير الناس خالاً وخالة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: (الحسن والحسين، خالهما القاسم بن محمّد رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
(ألا إنّ أباهما في الجنّة، وأُمّهما في الجنّة، وجدّهما في الجنّة، وجدّتهما في الجنّة، وخالهما في الجنّة، وخالتهما في الجنّة، وعمّهما في الجنّة، وعمّتهما في الجنّة، وهما في الجنّة، ومن أحبّهما في الجنّة، ومن أحبّ من أحبّهما في الجنّة)(5).
هذان ابناك
وروي أنّ فاطمة عليها السلام أتت بولديها الحسن والحسين عليهما السلام فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورّثهما شيئاً.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أمّا الحسن فإنّ له هدئي وسؤددي، وأمّا الحسين فله جودي وشجاعتي(6).
نعم الراكب
وعن ابن عبّاس أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حامل الحسن ابن علي على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ونعم الراكب هو(7).
أنا أبوهم
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله عزّ وجلّ جعل ذرّية كلّ نبي من صلبه خاصّة، وجعل ذرّيتي من صلبي ومن صلب علي بن أبي طالب، إنّ كلّ بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاّ أولاد فاطمة فإنّي أنا أبوهم)(8).
سيد شباب الجنة
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من سرّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة فلينظر إلى الحسن بن علي)(9).
اللهم إني أحبه
وعن أبي هريرة قال: ما رأيت الحسن قطّ إلاّ فاضت عيناي دموعاً، وذلك أنّه أتى يوماً يشتدّ حتّى قعد في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله يفتح فمه ثمّ يدخل فمه في فمه ويقول: (اللهمّ إنّي أُحبّه وأحب من يحبّه) يقولها ثلاث مرّات(10).
فضائل أُخرى
كما أشار أهل البيت عليهم السلام إلى مقام الإمام الحسن عليه السلام الرفيع ومكانته الخاصّة عند الله تعالى في روايات عديدة، والتي منها:
ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: (أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كتب لابنه الحسن عليه السلام بعد انصرافه من صفّين: أمّا بعد فإنّي وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت لك كتابي هذا إن أنا بقيت أو فنيت فإنّي أُوصيك بتقوى الله عز ّوجلّ ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله وذكر الوصية)(11).
من زارك فله الجنة
وعن الإمام الصادق عليه السلام: (بينا الحسن بن علي عليه السلام يوماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال: يا أبه ما لمن زارك بعد موتك؟
فقال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة)(12).
ذرية بعضها من بعض
وروي أنّ أباه علياً عليه السلام قال له: (قم فاخطب لأسمع كلامك. فقام فقال: الحمد لله الذي من تكلّم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده، أمّا بعد فإنّ القبور محلّتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، إنّ علياً باب من دخله كان مؤمناً، ومن خرج عنه كان كافراً، فقام إليه علي عليه السلام فالتزمه فقال: بأبي أنت وأُمّي ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم)(13).
إنه ابن النبي
ودعا أمير المؤمنين عليه السلام محمّد بن الحنفية يوم الجمل، فأعطاه رمحه وقال له: (اقصد بهذا الرمح قصد الجمل) فذهب فمنعوه بنو ضبة، فلمّا رجع إلى والده انتزع الإمام الحسن عليه السلام رمحه من يده وقصد قصد الجمل، وطعنه برمحه ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم، فتمعّر(14) وجه محمّد من ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
لا تأنف فإنّه ابن النبي وأنت ابن علي)(15).
إعظاماً له
وروى الإمام الباقر عليه السلام فقال: (ما تكلّم الحسين عليه السلام بين يدي الحسن عليه السلام إعظاماً له، ولا تكلّم محمّد بن الحنفية بين يدي الحسين عليه السلام إعظاماً له)(16).
أخلاق الأنبياء عليهم السلام
كان الإمام الحسن عليه السلام عظيم الأخلاق، حسن السجايا، يذكر الناس بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يعامل أشدّ أعدائه بالرفق واللين، ويقابل إساءتهم بالإحسان ممّا يؤدّي إلى هداية الكثير منهم.
فعن ابن عائشة: أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه!
والحسن عليه السلام لا يردّ.
فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام عليه فسلّم عليه وضحك وقال:
أيّها الشيخ أظنّك غريباً..
ولعلّك شبهت..
فلو استعتبتنا أعتبناك..
ولو سألتنا أعطيناك..
ولو استرشدتنا أرشدناك..
ولو استحملتنا حملناك..
وإن كنت جائعاً أشبعناك..
وإن كنت عرياناً كسوناك..
وإن كنت محتاجاً أغنيناك..
وإن كنت طريداً آويناك..
وإن كان لك حاجة قضيناها لك..
فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً.
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم(17).
كريم أهل البيت عليهم السلام
لقد اشتهر الإمام الحسن عليه السلام بالعطاء والجود والكرم حتّى سمّي بـ (كريم أهل البيت عليهم السلام) وكان معروفاً أنّ الذي تصله صرّة من صرر الإمام الحسن عليه السلام يستغني عن سؤال الناس.
وقد نقل في التاريخ الكثير من القصص الدالّة على كرمه عليه السلام منها:
عشرة آلاف درهم
عن سعيد بن عبد العزيز قال: إنّ الحسن عليه السلام سمع رجلاً يسأل ربّه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن عليه السلام إلى منزله فبعث بها إليه(18).
ما في الخزانة
وجاءه بعض الأعراب فقال: أعطوه ما في الخزانة، فوجد فيها عشرون ألف درهم، فدفعها إلى الأعرابي، فقال الأعرابي: يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي.
فأنشأ الإمام الحسن عليه السلام:

يرتع فيه الرجاء والأمل * * * نحن أُناس نوالنا خضل
خوفاً على ماء وجه من يسل * * * تجود قبل السؤال أنفسنا
لغاض من بعد فيضه خجل(19) * * * لو علم البحر فضل نائلنا

الأجر العظيم
ومنها: إنّ رجلاً جاء إليه عليه السلام وسأله حاجة فقال له: يا هذا حقّ سؤالك يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر لديّ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله عزّ وجلّ قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عنّي مؤونة الاحتفال والاهتمام لما أتكلّفه من واجبك فعلت.
فقال: يا بن رسول الله أقبل القليل وأشكر العطية وأعذر على المنع. فدعا الحسن عليه السلام بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها فقال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً.
قال: فما فعل الخمسمائة دينار؟
قال: هي عندي قال: أحضرها، فأحضرها فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل فقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمّالين، فدفع الحسن عليه السلام إليه رداءه لكراء الحمّالين.
فقال مواليه: والله ما بقي عندنا درهم، فقال: لكنّي أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم(20).
علاقته عليه السلام مع الله عز وجل
إنّ علاقة الإمام الحسن عليه السلام مع الله تعالى هي علاقة الإمام المعصوم العارف بخالقه المنعم عليه، ولذا فإنّه عليه السلام وفي كلّ حياته الشريفة كان يعيش في قمة العبودية لله تعالى، وينظر إليه بعين الإمامة العارفة.
روي أنّ الإمام الحسن بن علي عليه السلام كان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه فقيل له: في ذلك؟
فقال: حقّ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله.
وكان عليه السلام إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول: إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم(21).
ونقل أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتّى تطلع الشمس وإن زحزح ـ أي وإن أُريد تنحيه من ذلك باستنطاق ـ ما يهمّ(22).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ الحسن بن علي عليهما السلام حجّ خمسة وعشرين حجّة ماشياً وقاسم الله تعالى ماله مرّتين(23).
وفي خبر: إنّه عليه السلام قاسم ربّه ثلاث مرّات حتى نعلاً ونعلاً، وثوباً وثوباً، وديناراً وديناراً، وحجّ عشرين حجّة ماشياً على قدميه(24).
ولمّا حضرته الوفاة كأنّه جزع عند الموت فقال له الحسين عليه السلام كأنّه يعزّيه يا أخي ما هذا الجزع؟ إنّك ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وهما أبواك، وعلى خديجة وفاطمة عليهما السلام وهما أُمّاك، وعلى القاسم والطاهر وهما خالاك، وعلى حمزة وجعفر وهما عمّاك؟ فقال له الحسن عليه السلام: أي أخي إنّي أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل فيه(25).
كرامته عليه السلام على الله
هناك الكثير من القضايا الدالة على علو مقام الإمام الحسن عليه السلام وكرامته على الله تعالى، وقد أشار السيّد البحراني قدس سره في (مدينة المعاجز)(26) وابن حمزة في (الثاقب في المناقب)(27) إلى بعضها، كان منها:
ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
خرج الحسن بن علي عليه السلام في بعض عمره ومعه رجل من ولد الزبير يقول بإمامته، فنزلوا منهلاً من تلك المناهل تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرش للحسن عليه السلام تحت نخلة وللزبيري تحت نخلة أخرى. فقال الزبيري ورفع رأسه: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه.
فقال له الحسن: وإنّك لتشتهي الرطب؟
فقال الزبيري: نعم.
قال: فرفع يده إلى السماء فدعا بكلام لم أفهمه فاخضرّت النخلة ثمّ صارت إلى حالها وأورقت وحملت رطباً.
فقال الجمّال الذي اكتروا منه: سحر والله.
قال: فقال الحسن عليه السلام: ويلك ليس بسحر، ولكن دعوة ابن نبي مستجابة. فصعدوا إلى النخلة وصرموا ما كان فيه فكفاهم(28).
نبذة عن تاريخ الإمام الحسن عليه السلام:
ولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بالمدينة المنورة على ساكنها آلاف التحية والسلام في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة المباركة بعد وقعة أحد بسنتين، وكان بين وقعة أحد وبين مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سنتان وستة أشهر ونصف فكانت ولادته لأربع سنين وستة أشهر ونصف من التاريخ المذكور، وكان بين وقعة أحد وبدر سنة ونصف. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد بنى بفاطمة عليها السلام في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة، وكان الحسن عليه السلام أول أولادها، وكنيته أبو محمد.
لما ولد الإمام الحسن عليه السلام وأعلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه وأذن في أذنه وعق عنه بكبش وحلق رأسه وأمر أن يتصدق بزنته فضة.
كان الإمام الحسن (سلام الله عليه) أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللحسن عليه السلام من العمر سبع سنين وأشهر وقيل ثماني سنين.
قام الإمام الحسن عليه السلام بالأمر بعد أبيه عليه السلام وله سبع وثلاثون سنة، وأقام في خلافته ستة أشهر وثلاثة أيام، وصالح معاوية سنة إحدى وأربعين.
ثم خرج الإمام الحسن عليه السلام إلى المدينة وأقام بها عشر سنين، ومضى إلى رحمة الله تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة ـ وقيل في السابع منه ـ وله سبع وأربعون سنة وأشهر مسموماً شهيداً، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس وكان معاوية قد دس إليها من حملها على ذلك، وضمن لها أن يزوجها من يزيد ابنه، وأعطاها مائة ألف درهم، فسقته السم، وبقي عليه السلام مريضا أربعين يوماً إلى أن توفي، وتولى أخوه الإمام الحسين عليه السلام غسله وتكفينه ودفنه عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بالبقيع.
الحاصل
وبعد ما قدمناه من بعض فضائل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وعظيم شأنه ومقامه عند الله عز وجل، وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضله، يتبين مسبقاً أن ما قام به الإمام عليه السلام في قضية الصلح كان عين الصواب ومطابقاً لرضا الله عزوجل، فإنه الإمام المعصوم عليه السلام الذي شهدت له آية التطهير بالعصمة، قال تعالى: (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)(29).

فصل: الصلح المفروض

إنّ من يلاحظ حياة الإمامين الهمامين الحسن والحسين عليهما السلام يجد ارتباطاً وثيقاً بين دور الإمام المجتبى عليه السلام وأخيه الإمام الحسين عليه السلام إلاّ أنّ الإمام المجتبى عليه السلام تعرّض إلى لوم من قبل بعض الناس الذين لا يتمتعون ببعد النظر ودقة الرأي وصحيح العقيدة، فإن الامتحان الإلهي والتكليف الرباني الذي قام به الإمام عليه السلام كان صعباً جداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقّه وحق أخيه عليهما السلام: (هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا)(30).
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يشير في هذا الحديث إلى المستقبل ويخبر عما سيحدث وذلك بالعلم الغيبي الذي منحه الله عز وجل، فيؤكد للأمة صحة وصواب دور الإمام الحسن وأخيه الإمام الحسين عليهما السلام.
إنّ الإمام الحسن عليه السلام نهض أيضاً إلاّ أنّ نهضته المباركة انتهت بالصلح، ولم يتمكن بحسب الظاهر من القضاء على معاوية، وإن كان الأسلوب الذي اتخذه الإمام عليه السلام قضى على شرعية معاوية وبيّن للتاريخ الخط الصحيح في الإسلام من الخط المنحرف.
وكذلك الإمام الحسين عليه السلام فقد نهض بالشكل الذي يعرفه الجميع في قصة عاشوراء، ثمّ اختتمت نهضته بشهادته المفجعة وبذلك الأُسلوب المؤلم. فلم يوفّق بحسب الظاهر على القضاء على يزيد وحكومته، وإن قضى عليه بفضحه وفضح كل ظالم على طول التاريخ.
إذاً كل من الإمامين عليهما السلام لم تسنح له الفرصة لإزاحة الظالم من الحكم وتشكيل الحكومة العادلة، فانتهى نهج الأوّل بالصلح مع معاوية والثاني بشهادته المأساوية، ولكن قد أدى كل منهما ما عليه مما فيه رضا الله عزوجل ومصلحة الدين الإسلامي والأمة المحمدية.
وكان الفرق في سيرتيهما نتيجة الظروف المختلفة، فكانت الظروف في زمن معاوية غير الظروف في زمن ابنه يزيد، ولذلك عاش الإمام المجتبى عليه السلام بقية عمره (وهي عشر سنين تقريباً) جليس بيته، وكذلك كان الإمام الحسين عليه السلام بعد أخيه الإمام الحسن عليه السلام في عهد معاوية، فقد لزم بيته بعد الحسن عليه السلام عشر سنين، فلا فارق بينهما من حيث القعود في عهد معاوية.
ولكن بعد ما مات معاوية وجاء ابنه يزيد الذي كان يتظاهر بالفسق والفجور، اختلف الأمر، فكانت المصلحة في النهضة الحسينية المقدسة إلى أن انتهت بشهادة الإمام عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الكرام في يوم عاشوراء الدامية.
نعم إنّ امتحان الإمام الحسن عليه السلام كان من الصعوبة بحيث اضطرّ عليه السلام إلى الصلح، وذلك حفظاً للإسلام والمسلمين، كما أن المصلحة في زمن الإمام الحسين عليه السلام اقتضت الشهادة وذلك حفظاً للإسلام والمسلمين أيضاً على ما هو غير خفي على ذوي الألباب.
مؤلفات في باب الصلح
وقد كثر الكلام في باب صلح الإمام الحسن عليه السلام من قبل بعض أصحابه أيّام حياته وكذلك بعد شهادته وإلى يومنا هذا.
وقد كتب العديد من العلماء كتباً مفيدة في هذا الباب كان منها (صلح الحسن)(31) للمرحوم آل ياسين.
و(حياة الحسن عليه السلام)(32) للقرشي.
فضلاً عن الشيخ الصدوق رحمه الله الذي تناول تفاصيل القضية في كتابه (علل الشرائع)(33).
وكذا العلاّمة المجلسي رحمه الله في البحار ج33.
ومن قبلهم: عبد الرحمان بن كثير الهاشمي في كتابه (صلح الحسن عليه السلام) رواه النجاشي بأربع وسائط.
والشيخ الأجل أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني الكوفي المعروف بابن عقدة الزيدي الجارودي ـ ولد عام 249هـ وتوفي333 هـ ـ في كتابه (صلح الحسن عليه السلام ومعاوية).
وغيرهم من العلماء.
إلاّ أنّ من الأذهان ما لم تستقر فيها حكمة الصلح، فما زال البعض يزعم أنّ الإمام الحسن عليه السلام يختلف عن أخيه الحسين عليه السلام في شجاعة الحرب والقتال ومواجهة العدو.
ضغوط داخلية
في أيّام حياة الإمام المجتبى عليه السلام كان يأتيه بعض أصحابه ليعترض على الإمام عليه السلام وربما كان ينسى عصمة الإمام وحكمته فيقول ما لا يليق بشأنه المقدس، حيث خاطبه البعض بقولهم: (يا مذل المؤمنين)!. ووصل الأمر إلى بعض الجهال بحيث رفع السيف على الإمام عليه السلام وجرحه الآخرون بخناجرهم كي يخضع لرغباتهم.
وفي قبال هؤلاء كان البعض من أصحاب الإمام عليه السلام تلك الثلة المؤمنة التي كانت تتمتع بإيمان قوي، وبصيرة نافذة، فكان هؤلاء يعرفون عظمة الإمام عليه السلام وعصمته وحكمته، فيعلمون دقة ما اتخذه الإمام عليه السلام في بداية حركته ونهايته وصواب ما قام به.
وربما كان البعض كحجر بن عدي(34) ذلك الصحابي الجليل في الإسلام يتخذ بعض المواقف ليثير بعض الأذهان حتى يعرفوا الصواب، وربما لم يستوعب بعض أبعاد الصلح فقال: (لوددت أننا متنا معك ولم نر هذا اليوم)(35).
وقد اغتيل حجر هو وأصحابه على يد معاوية في قصة معروفة وقبره في بلاد الشام مزار للمؤمنين.
يا مذل المؤمنين!
عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاء رجل من أصحاب الحسن عليه السلام يقال له سفيان بن ليلى وهو على راحلة له فدخل على الحسن عليه السلام وهو محتب في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين!.
فقال له الحسن عليه السلام: انزل ولا تعجل.
فنزل، فعقل راحلته في الدار، ثمّ أقبل يمشي حتّى انتهى إليه.
قال: فقال له الحسن عليه السلام: ما قلت؟
قال: قلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين.
قال: وما علمك بذلك؟
قال: عمدت إلى أمر الأُمّة فخلعته من عنقك وقلّدته هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله.
قال: فقال له الحسن عليه السلام: ساُخبرك لِمَ فعلت ذلك، قال: سمعت أبي عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لن تذهب الأيّام والليالي حتّى يلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية فلذلك فعلت. ما جاء بك؟
قال: حبّك.
قال: الله؟!
قال: الله.
قال: فقال الحسن عليه السلام: والله لا يحبّنا عبد أبداً ولو كان أسيراً بالديلم إلاّ نفعه حبّنا، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر(36).
إنّ الإمام عليه السلام كان يعلم أنّ هذا الفرد محبّ له وإنّما جاء لزيارته إلاّ أنّ عقله غير قادر على تحليل القضايا السياسية خاصّة مثل هذه القضية.
ومن جرّاء عقليات كهذه عانى الإمام الحسن عليه السلام العديد من المضايقات، إذ أنّه للأسف لم تكن لبعض الأصحاب تلك القدرة اللازمة على التحليل والاستنتاج. هذا من جهة.
رعاية عوائل الشهداء
ومن جهة أُخرى فإنّ مشكلة عوائل الشهداء وأطفالهم (شهداء الجمل وصفّين والنهروان) كانت تؤرق الإمام عليه السلام ولذلك كانت إحدى بنود عقد الصلح الذي عقده مع معاوية أن يصرف الإمام عليه السلام خراج داراب لتمويل عوائل الشهداء في معركة الجمل وصفّين والنهروان(37).
القضاء على الشيعة
أمّا المعضلة الأُخرى التي كان الإمام الحسن عليه السلام يعاني منها فهي معضلة الضغط والجور الذي كان يمارسه معاوية ضدّ الشيعة حيث أراد القضاء عليهم بأكملهم وكان من مسؤولية الإمام عليه السلام الحفاظ على هؤلاء المؤمنين واستمرار هذا الخط الصحيح الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد وصل الأمر بمعاوية إلى أن أصدر حكمه بقتل الشيعة على التهمة والظنّة.
ففي الخبر أنّ معاوية أمر المنادي أن ينادي: أن قد برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب علي عليه السلام وفضل أهل بيته عليهم السلام وكان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة فاستعمل زياد ابن أبيه وضمّ إليه العراقين الكوفة والبصرة، فجعل يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم وطردهم وشرّدهم حتّى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد.
وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الأمصار، أن لاتجيزوا لأحد من شيعة علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام شهادة(38).
وينقل أنّ سعيد بن سرح هرب من زياد إلى الحسن بن علي عليه السلام فكتب الحسن إليه يشفع فيه فكتب زياد في جوابه: من زياد ابن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة وذكر نحواً من ذلك.
فلمّا قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسّم وأنفذ بالكتاب إلى معاوية.
فكتب معاوية إلى زياد يؤنّبه ويأمره أن يخلي عن أخي سعيد وولده وامرأته وردّ ماله وبناء ما قد هدّمه من داره، ثمّ قال: وأمّا كتابك إلى الحسن باسمه واسم أُمّه لا تنسبه إلى أبيه وأُمّه بنت رسول الله وذلك أفخر له إن كنت تعقل(39).
الشيعة المظلومون
على كل، فقد عانى الشيعة الأمرّين، فمنهم من هرب أو قتل أو سجن فضلاً عن الفقر الشديد الذي استولى عليهم من جراء تلك المضايقات الكثيرة من قبل السلطة. فكان الإمام الحسن عليه السلام يشهد كلّ ذلك، ويتجرّع آلامه كلّ لحظة.
وفي أحد الأخبار المفصّلة في الاحتجاج للطبرسي ـ والظاهر أن هذه الجلسة كانت في الشام:
إنّ حاشية معاوية اقترحت عليه أن يحضر الإمام الحسن عليه السلام ليتناولوه بالسبّ والشتم والتوهين وينالوا من أبيه أمير المؤمنين عليه السلام.
ولما وصل رسول معاوية إلى الإمام عليه السلام أمر جاريته أن تحضر ثيابه فارتداها وقصد المجلس، وحين بلغ المجلس ورأى الحاضرين عرف ما الأمر.
فجلس عليه السلام ينتظر ما يجري وإذا بمعاوية يقول: يا أبا محمّد لقد طلبك هؤلاء ليثبتوا أنّ أباك كان كذا وكذا.
فقال عليه السلام: لو كنت أعلم عدد حضّار المجلس لأتيت بمثلهم من بني هاشم ولكن لا بأس.
فتكلّم عمرو بن العاص، وعمر بن عثمان، ومروان بن الحكم وعدد آخر، فسمع الإمام كلامهم جميعاً، وحين انتهوا، قال عليه السلام: أنت سبب كلّ هذا السبّ والشتم يا معاوية وليس هؤلاء.
فهؤلاء لا يستحقّون جوابي، وأرى أن أُجيبك أنت أوّلاً.
إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن أباك وأخاك حيث لعن القائد والسائق والراكب(40).
فأخذ عليه السلام يعدّد مثالب معاوية. ثمّ التفت لعمرو بن العاص قائلاً: ليس لي أن أُكلّمك فأنت ابن ستّة أشخاص وقد اقترعوا عليك فأصابت باسم عاصم بن وائل.
وهكذا كلّمهم واحداً واحداً.
ثمّ التفت إلى عمرو بن عثمان وقال: وأمّا أنت يا عمرو بن عثمان فلم تكن حقيقاً لحمقك أن تتبع هذه الأُمور فإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإنّي أريد أن أنزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك، فكيف يشقّ عليَّ نزولك؟ وإنّي والله ما شعرت أنّك تحسن أن تعادي لي فيشقّ عليَّ ذلك وإنّي لمجيبك في الذي قلت(41).
نعم هكذا كان بعض الأصحاب والكثير من الأعداء يتعاملون مع سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام.
بل حتّى الآن هناك بعض الكتّاب(42) نسبوا ـ جهلاً ـ قصة
الحسن البصري(43) إلى الإمام المجتبى عليه السلام حيث مرّ أمير المؤمنين عليه السلام به وهو يتوضّأ فقال عليه السلام له: أسبغ الوضوء يا حسن، لقد أكثرت من إراقة الماء. فقال: إنّه ليس أكثر من الدماء التي أرقتها، فقال عليه السلام: وإنّك لمحزون عليهم، فأطال الله حزنك.
قال السجستاني: فما رأينا الحسن قط إلا حزينا، كأنه يرجع عن دفن حميم أو خربندج ضل حماره، فقلت له في ذلك، فقال: عمل فيّ دعوة الرجل الصالح(44).
فنسب هذا الكاتب المعاصر القصّة إلى الإمام الحسن عليه السلام والحال أنّ الجميع يعرف أنها بحقّ الحسن البصري والنصوص التاريخية صريحة في ذلك.
وقد روى الطبرسي في الاحتجاج، عن ابن عباس قال: لما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام قتال أهل البصرة وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب، إلى أن قال: ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ، فقال: يا حسن أسبغ الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس ويسبغون الوضوء، الخبر(45).
الأوضاع السياسية والاجتماعية
كان للأوضاع التي أحاطت بالعراقيين نتيجة الحروب التي خاضوها ضد المارقين والقاسطين والناكثين أن أثرت فيهم وفي نفسيتهم بما خلفت من مآسي وويلات، وكذلك حالة الإحباط التي أصابتهم بعد يوم التحكيم، فتولد لدى بعضهم الملل من الحرب.
وبدأ هذا الشعور يظهر إلى الوجود في أواخر عهد الإمام علي عليه السلام، وقد استغل معاوية هذه الروح لدى أهل العراق للتآمر على حكم الإمام علي عليه السلام والانقضاض عليه عن طريق منح الامتيازات المادية والاجتماعية لزعماء القبائل في الشام ملوحاً بها لزعماء القبائل في العراق ممن تهش نفسه وتبش لذلك، والذين لايرون في عدل علي عليه السلام إلا تضيقاً عليهم لأنهم طلاب دنيا فانية.
لذلك فقد صارت الشام مأوى وملاذاً آمناً لمن يغضب عليه الإمام عليه السلام من هؤلاء لما اقترف من جناية أو خيانة، فيهرب إلى معاوية ليجد عنده كل التقدير والتبجيل والعطاء الجزيل والمكانة المرموقة.
وفي هذا يذكر المؤرخون: أن سهل بن حنيف عامل الإمام علي عليه السلام على المدينة كتب إليه في قوم من أهلها لحقوا بمعاوية في خفية واستتار، فأجابه الإمام عليه السلام بكتاب يطمئنه ويبين له حقيقة أمرهم:
(أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، ويَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً ولَكَ مِنْهُمْ شَافِياً، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى والْحَقِّ، وإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى والْجَهْلِ، فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا ومُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ ورَأَوْهُ وسَمِعُوهُ ووَعَوْهُ، وعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الأَثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وسُحْقاً، إِنَّهُمْ واللَّهِ لَمْ يَنفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ، ولَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ، وإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ، ويُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ والسَّلامُ)(46).
فحقيقة هؤلاء طلب الاستئثار بالمال والجاه، فعرفوا أن علياً عليه السلام ليس كمعاوية، لا يقسم إلا بالسوية، ولا ينفل قوماً على قوم، ولا يعطي على الأحساب والأنساب كما يفعل غيره، فتركوه وهربوا إلى من يستأثر ويؤثر.
وكان معاوية يجد في العراق من أمثال هؤلاء الكثير، فكان يستخدمهم لتحقيق مآربه، ولزعزعة الصفوف، وإثارة النعرات الجاهلية، وتأجيج نار العصبية القبلية بين القبائل، ليلقي بينها العداوة والبغضاء، وإثارة وإحياء ماضي الجاهلية وأحقادها، فلقد كان يتمتع بحس قوي في إثارة هذه الروح في الوقت المناسب.
وفي هذا المجال يذكر المؤرخون: أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر، وظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمي، فقال له: سر إلى البصرة، فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان، ويعظمون قتله، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم موتورون حنقون لما أصابهم، ودوا لو يجدون من يدعوهم، ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان، واحذر ربيعة، وانزل في مضر، وتودد الأزد، فإن الأزد كلها معك إلا قليلاً منهم، وإنهم إن شاء الله غير مخالفيك.
فقال عبد الله بن الحضرمي له: إنا سهم في كنانتك، وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهيرك على قتلة عثمان، فوجهني إليهم متى شئت.
فقال: اخرج غدا إن شاء الله، فودعه وخرج من عنده. فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون، فقال لهم معاوية: في أي منزل ينزل القمر الليلة؟
فقالوا: بسعد الذابح.
فكره معاوية ذلك، وأرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري فأقام.
ورأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ بمصر عامله عليها يستطلع رأيه في ذلك. فكتب إليه وقد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين، وبعد تحكيم الحكمين. فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يحسن له رأيه ويحثه على التعجيل بهذا الأمر.
فلما جاءه كتاب عمرو، دعا ابن الحضرمي وقد كان ظن حين تركه معاوية أياماً لا يأمره بالشخوص، أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه، فقال يا ابن الحضرمي: سر على بركة الله إلى أهل البصرة، فانزل في مضر، واحذر ربيعة، وتودد الأزد، وانع ابن عفان، وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم، ومن لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى، وأثرة لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده. فودعه ثم خرج من عنده وقد دفع إليه كتابا وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس(47).
وقد عمل ابن الحضرمي بما أوصاه معاوية حرفياً، ونجح في مهمته هذه أي نجاح في إثارة الشحناء بين القبائل، حتى كادت تسري النار التي أججها بين قبائل البصرة إلى قبائل الكوفة، للقرابة النسبية فيما بين القبائل في البصرة والكوفة. فلما تناهى خبر ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام قام خطيباً فقال:
(مه، تناهوا أيها الناس، وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي. ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين. واذكروا إذ كنتم قليلاً مشركين متباغضين متفرقين، فألف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم، وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف، حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين، فانتهوا عنها لا أباً لكم تفلحوا وتنجحوا).
سياسة معاوية في الإرهاب وقمع الشيعة
لقد انتهج معاوية سياسة اتسمت بالإرهاب المنظم، ضد مناوئيه ومخالفيه وخصوصاً شيعة أهل البيت عليهم السلام في العراق، وفي هذا المجال يذكر المؤرخون: أن سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية، فقال: إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تغير على المدائن، ثم أقبل إليَّ واتق أن تقرب الكوفة. واعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار، وأهل المدائن، فكأنك أغرت على أهل الكوفة. إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق، ترهب قلوبهم، وتجرئ كل من كان له هوى منهم ويرى فراقهم، وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر. وخرب كل ما مررت به من القرى، وأقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك. وأحرب الأموال فإنه شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلوب. قال فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس فانتدبوا مع سفيان بن عوف