المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية
(ملتقى القطيف الثقافي)
المكتبة الأدبية المختصة (3)
الفهرس
الإهداء
المقدّمة
البدء
افتتاحية الندوة
القسم الأوّل
جانب البحوث والدراسات
الإمام الحسن مواقف وأهداف
حديث الطائفتين من المسلمين بين القبول والرفض
إطلالة على محنة الذكرى
إثارات حول صلح الإمام الحسن عليه السلام
حدود العصمة
معطيات رسائل الإمام الحسن عليه السلام إلى معاوية
القسم الثاني
الجانب الأدبي
واقع الشعر الإسلامي بعد الخلافة
ثمرة الاقتران المقدّس دراسة في مستويات التلقّي
قراءات في وادي السنا
سمات البقيع
كبد وجراحك الخضراء
الندى المحترق
البوح المشتهى
صوفيّة جرح
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى من نحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هيبته وسؤدده.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وجدتك بعضي بل كلّي
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطاهرين ومَن تبعهم بإحسان.
ما برحت مدرسة أدب الولاء لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاخصةً بجهودها الخالدة على طريق المفاداة الحقّة لأمناء الوحي وأئمة الهدى، حيث امتدت على طول مساحة التاريخ الإسلامي وعرضِه حتى عُدَّ الشعرُ - مثلاً - فنّاً شيعيّاً ناهيك عن فنون الأدب الاُخرى التي أسهم فيها اُدباء الحق إسهامات جلّى في بناء صرح الكلمة الصادقة المعبّرة، العصيّة على الاضطهاد والتنكيل، الجهيرة دون خوفٍ، المتألّقة الصافية، الشجاعة الحاضرة في كلّ موقفٍ فذٍّ، المنافحة عن الحقيقة المظلومة، الذابّة دون الخير والصلاح والحريّة.. وهكذا فقد امتدّت هذه الكلمة منذ أوائل صدر الإسلام مارّةً بأدوارها التاريخيّةِ المعهودةِ في كلّ عصور الاُمّة حتى وصلت إلى يومنا الحاضر وهي تحمل سمات تجذّرها العريق وامتدادها الخصب في عروق الأرض والإنسان والفكرة.. وكثيراً ما يُحمد لبيئاتٍ معروفةٍ خلال هذا السفار الطويل بزوغها المبكّر وألقها الناضح بالجمال في احتضان النور واجتلائه بصدورها الواعية وألسنتها الشاهدة وذلك الحنين المتدفّق رغم الشجى المعترض في الحناجر والأصوات والحروف.. ولعلَّ(القطيف): حاضرة التشيّع علماً وأدباً وجهاداً ورسوخاً في الولاء هي المثال الساطع على ما سلف، حيث بقيت رافداً صافياً من روافد سلسال الكوثر الموعود لم تكدّره الأعاصير العابرة أو الخطى الغريبة الخائضة.. والمطبوعة الماثلة بين يدَي قارئنا العزيز هي نتاجُ (ملتقى القطيف الثقافي) في ندوته الثانية عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام - التي تناوبت على منصتها أصوات عديدةٍ لبيئاتٍ شيعيّةٍ عديدةٍ - آثرتنا بنشرها لجنة الندوة الموقّرة، شعوراً منهم ومنّا جميعاً بمسؤولية الانتصاف للأدب المقال في أهل البيت عليهم السلام، ووفاءً لعهدٍ قطعته المكتبة الأدبية المختصة على نفسها ان تحتضن كل جهدٍ أدبيٍّ ولائي رائقٍ لا سيّما وانّه قد شارك فيه نخبة من علماء واُدباء الحوزة العلمية المباركة ببحوثهم وقصائدهم المبدعة.. فإلى حيث نسرِّح الطرفَ والقلبَ في صفحات هذا الجهد الرائد المبارك، المؤسِّس - فيما نظنُّ - لحالةٍ ناضجةٍ من الأداء المعاصر للنص الأدبي الشيعي العتيد.. وإلى حيث نوفّق في أيامنا القابلة - إن شاء الله - إلى المزيد من نشرِ اعمالٍ حافلةٍ اُخرى.
فرات الأسدي
مدير المكتبة الأدبية المختصة
غرة رمضان المبارك 1419 ه
وهكذا.. انتشر الضوء في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستقبلاً فجر الرسالة الجديد، المولود البكر لملتقى النورين علي وفاطمة عليهما السلام، فأطلّ أبو محمّد الحسن بن علي عليهما السلام ليغشى الوجود بحلّته الخضراء.
ويأتي جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليقول لعلي عليه السلام: هل أسميته؟ فيقول: ما كنت لأسبقك بإسمه، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: وما كنت لأسبق بإسمه ربّي عزّ وجلّ، وبعد هذه المحاورة القصيرة هبط الأمين جبرئيل عليه السلام من السماء حاملاً معه خبر تسمية المولود المبارك، قائلاً بعد تهنئة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قِبَل الله عزّ وجلّ: إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسمّيه بإسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شبّر، قال: لساني عربي، قال: سمّه الحسن، فسمّاه به.
وتمرُّ الليالي والأيام على تلك الثمرة اليانعة والشمعة المضيئة في بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تحتضنها الحجور الطاهرة، وتؤويها الأحضان المباركة، وترضع من ثدي الإيمان والهدى، وجده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحبوه الأوسمة الكبيرة.
ثم يأتي القدر فيرفع تلك الشجرة الوارفة الظلال، لتسكن دار الخلود، فتهبُّ الأعاصير على زهراتها المتفتحات، ويعيش الإمام الحسن عليه السلام مع أبيه عليه السلام أيام المحنة والفتنة، ثم يشتدُّ الأمر عليه، بعد استشهاد أبيه العظيم أمير المؤمنين عليه السلام، فيقوم بالأمر مع أخيه الحسين عليهما السلام.
ويبقى أبو محمّد الحسن عليه السلام الصابر المجاهد، تتكسّر أمواج الفتنة عند أعتاب حنكته، إلاّ أنّ معاصريه لم يدركوا بُعْدَ مداه، وعمق رؤاه، فاتّهموه بما لم يكن فيه، وألحّوا على ما كان فيهم، فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم، وإنّه الخسران المبين.
ويأتي قلم التأريخ المزيّف ليقف موقفه المتعثّر في أوحال الخيانة المعهودة، ويسجّل قساوة آرائه وخبث طويّته وحقده، وغضبه، فيزيد في طين التعاسة بلّة المروق عن الحق، فيرمي الإمام عليه السلام بوابل التهم المجوّفة، وينسى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أخيه الإمام الحسين عليه السلام: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
إنّه التاريخ الذي تمرّد على الحقيقة في مواقف متعددة، ولكنّ الضياء المتوهج أبى إلاّ أن يخترق الحجب الداكنة السواد، فبدت لنا الأشعة تنسل من زوايا الظلماء.
من هنا.. ورفعاً لبعض المظلومية التي أحاطت بحياة الإمام الحسن عليه السلام انبثقت فكرة ندوة الإمام الحسن عليه السلام الثقافية، التي أقامها (ملتقى القطيف الثقافي) - الأدبي سابقاً - فشارك فيها مجموعة من الفضلاء والاُدباء، وتناولوا حياة الإمام عليه السلام من زوايا متعددة وبأساليب مختلفة، شاكرين حسن استجابتهم وتعاونهم.
وقد استمرّت الندوة ليلتين متتاليتين: الجمعة والسبت: 14 - 15 / 9 رمضان / 1417 ه، وقد رأينا طبع مادة الندوة ليكون الإصدار الثاني للملتقى خدمة للعلم والأدب، حيث كان الأوّل(الإمام الحسين عليه السلام وهج القصيد) 1416 ه وفي هذه الآونة والكتاب معد للطبع، اقترح علينا الأخ الاُستاذ الأديب فرات الاسدي مدير المكتبة الأدبية المختصة التابعة لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني(مدّ ظلّه)، أن تقوم المكتبة بطباعة الكتاب فنزلنا عند رغبته نرجو الله له وللجميع بالتوفيق، وأن يجعل المكتبة الأدبية لبنة في صرح الأدب العربي والولائي بالخصوص..
ونودُّ أن نشير إلى أنّ وقت الندوة لم يتسع إلى بعض الكلمات والقصائد فآثرنا نشر ما سمحت نفس صاحبها بها.
وفي الختام نشكر جميع مَن شارك وحضر، كما نشكر الاُستاذ الناقد(ثامر الوندي) على استجابته لنا بكتابة مقاله القيم (ثمرة الاقتران المقدّس دراسة في مستويات التلقّي) حول القصائد التي اُلقيت، مقدّرين له وللجميع الخُلُق الرفيع والروح العالية، كما نشكر الأخ فضيلة الشيخ(مصطفى الموسى) على إدارته للندوة، سائلين المولى عزَّ وجل أن يوفّقنا جميعاً لما يحب ويرضى إنّه أكرم مسؤول وخير معطٍ.
لجنة الندوة
10 / ذو الحجّة الحرام / 1417 ه
ملاحظة (ترتيب المواد حسب إلقائها)
افتتاحية الندوة
السيّد محمّد العوّامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
القطيف واحة تواجه أمواج الخليج من جهة، ورياح الصحراء من جهتها الاُخرى، لها أعماق غائرة في صلب التاريخ، طالما أوصل البحر إليها غزاة تركوا آثارهم فيها عندما غادروها، فأصبحت نسيج حضارات امتزجت مع بعضها حتى صارت جزءاً من تكوين المنطقة عبر امتداد الغزو منذ الفينقيين إلى البرتغاليين.
وفي يوم من أيام التاريخ الإنساني المشرق، نشرت رياح الصحراء على المنطقة راية خفّاقة استظلت بها القطيف ولا زالت تستظلّ بأفيائها الفينانة. وتحدّثت القطيف فكانت لغة الذوبان والارتباط الصميمي بأهل البيت عليهم السلام منبع الفكر ومصدر الإشعاع وخزّان العلم.
انعكست هذه الأجواء على أرض القطيف صرحاً حضارياً له امتداد متميز في ميادين العلوم الدينية، ودور واضح المعالم في تفعيل وتنشيط الحركة الفكرية في العالم الإسلامي.
ففي الوقت الذي نشطت فيه الحركة العلمية والأدبية في كثير من الحواضر الإسلامية، كما في حوزة النجف الأشرف أو في الأزهر الشريف - على سبيل المثال - اُطلق على القطيف اسم - النجف الصغرى - وهذه التسمية تحمل دلالات ومؤشّرات واضحة لما تملكه المنطقة من عدد كبير من الفقهاء والمجتهدين ذوي المكانة العلمية، ومن شعراء واُدباء هم في الطليعة أيضاً، بامتداد تاريخي واضح المسار منذ الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد إلى جملة من الشعراء المعاصرين.
إنّ الحركة العلمية النشطة، وجهود علماء المنطقة تركت تراثاً هائلاً في مختلف ميادين العلوم الدينية والفكرية وفي تخصصات اُخرى، غير أن عوامل متعددة ساهمت بشكل أو بآخر على إبقاء هذا التراث الفكري رهين المكتبات الخاصة أو حبيس أيدي من لا يعرف العلم وأهله، فاندثر الكثير من هذا التراث ولم يبق منه إلاّ نزر يسير كثمالة الكأس.
ومن هنا تأتي خطورة المهمة الملقاة على عاتق الأبناء لإكمال المسيرة التي بدأها الآباء، فلقد واصل الآباء مسيرة البناء تلك التي اعتبروها أمانة سلّمها لهم مَن كان قبلهم، فحافظوا عليها بحسب الآلية المتاحة لهم والظروف التي عاشوها.
ونحن اليوم في سباق مع الزمن، بل في لهاث وراء ثورة معلوماتية هائلة تعجُّ من حولنا بشتى أصناف المعرفة. لذا علينا أن نجعل من تراثنا جزءاً منها كما علينا أيضاً الاستفادة من التقنية العالية في مجال المعلومات.
المنطقة - القطيف - تمتلك مخزوناً كبيراً وهائلاً من طاقات الفكر والعلم والأدب، بحيث لو جمع ودوِّن لشكّل مكتبة إسلامية متكاملة في كل أبعاد المعرفة، ولكن تبقى الأرقام التي أشرنا إليها مقبولة إلى حدّ ما وغير مبالغ فيها.
نقدّم شاهداً على ما تختزنه المنطقة من تراث فكري وأدبي كبير، وهو ما شاهدته الكاتبة والأديبة المصرية بنت الشاطئ التي زارت القطيف سنة 1370 ه -1951 م، وسجّلت هذه الزيارة في كتابها(أرض المعجزات) قالت الأديبة:
(أكتب هذا وما تزال ملء مسمعي أصداء آتية من بعيد، أصداء قوية لسمر أدبي حافل، ملأ احدى امسياتنا في شرق الجزيرة حين اجتمعنا بأخوتنا من علماء القطيف واُدبائها على ساحل الخليج). وأضافت تقول: (كم تألّمت وأنا اُصغي إلى حديث اُدباء القطيف عن معاركنا النقدية ومذاهبنا الفنية؟ وكم خجلت وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاتنا نحن الذين لا نشعر بهم أو نلقي إليهم بالا).
(كم تأثّرت وأنا أسمع الشاعر عبد الرسول الجشي يعرفنا بلده الذي هو قطعة من بلدنا الشرق العربي).
كلمة لا تحتاج إلى تعليق لما انطوت عليه من اللغة الصريحة عن تراث هذه المنطقة، أو عن القطيف التي ضرب عليها سياج لكي لا يتعرّف أحد على عطائها وفكرها، ومع كل التقدير والاعتزاز بما بذل من جهود في هذا المضمار، من إيجاد بعض المراكز العاملة على إحياء هذا التراث، وكذلك ما حقّق من بعض الكتب فعلاً وخرج إلى النور، فإنّ هذه المساعي والجهود لا تشكل إلاّ نقطة من بحر، وهي لا تتناسب مع حجم التراث الهائل والكبير الذي تركه العلماء الأفذاذ في الماضي، لكنّنا نقول: إنّ مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
هذا بالنسبة للتراث الذي نبارك للأخوة المساهمين في تحقيق نصوصه، وفي إنشاء مراكز إحيائه لرفد مسيرة الحاضر، أمّا بالنسبة لما هو معاصر فإنّنا نشدّ على أيدي الأخوة العاملين على المنتديات والملتقيات الثقافية، بل نقف معهم لتوجيه الطاقات وتحريك الهمم والمشاركة الفعّالة في المحافظة على الزخم العلمي الحضاري الذي تتصف به المنطقة وأبناؤها المخلصون للإسلام الحنيف.
ونحن نبارك هذه الخطوة المباركة لملتقى القطيف كشكل من أشكال التواصل مع مسيرة العطاء، حيث يستقبل الملتقى نخبة من الأفاضل والأدباء والشعراء لتسليط الأضواء على شخصية الإمام الحسن عليه السلام في كل أبعادها، من خلال الكلمة والقصيدة. فتبقى الذكرى منطلقاً لإبراز الطاقات العلمية والأدبية والتعريف بها فيكون الملتقى ساحة لتلاقح الأفكار، وبعد ذلك لتصبّ هذه الرؤى والتصورات والإبداعات في مسيرة العطاء والبناء نحو الهدف المنشود.
وكمحاولة للمشاركة والاصطفاف مع الجهود المخلصة أقدم بحثي القصير عن الإمام الحسن عليه السلام.
جاء الإمام الحسن عليه السلام إلى الخلافة في مناخ قلق غير مستقر، وفي ظروف التعقيد والصراع التي برزت وتأزّمت في أيام الإمام الحسن عليه السلام. تلك هي شريحة زمنية جاءت بين دوافع الأوّلين وتساهل الآخرين صورة مشوّهة من صور التاريخ، وتعرضت في مختلف أدوارها لما كان يجب أن يتعرّض له أمثالها من الفترات المطموسة المنسية الحقائق، فإذا بالحسن عليه السلام في عرف الكثير من المتسرعين من شرقيين وغربيين ذلك الخليفة الضعيف الذي باع الخلافة بثمن زهيد إلى كثير من التخرّصات التي لا تستند إلى دليل أو منطق.
جاء الإمام الحسن عليه السلام في خضم تيارات متعددة من الاُمويين والخوارج وغيرهم، وأمام كل هذه التحديات تبرز عدّة نقاط تشكّل عائقاً أمام المخططات الإلهية التي كان يرومها الإمام الحسن عليه السلام في مواصلة جهود المسيرة منها:
1 - عدم رسوخ فكرة النص أو نزولها إلى الساحة، فهي لم تكن مألوفة ولا معروفة لدى الجمهور الذي عاصره الإمام الحسن، لذا لم يتعامل معه الجمهور على انّه إمام ومفترض الطاعة.
2 - تولّي الإمام الحسن عليه السلام بعد أبيه قوّى الشك في رسالية المعركة، فأصبح في نظر الكثير انّ المعركة معركة بين بيت وآخر: اُموي وهاشمي، وليست معركة رسالية.
من خلال هذين العاملين وأسباب اُخرى دقّق الإمام الحسن عليه السلام عدّة من الخيارات:
الأوّل - إغراء الزعامات وأصحاب النفوذ لاستقطابهم، وهذا الاقتراح اقترحه البعض على الإمام الحسن لكنّه رفض هذا بقوله: (أتريدون أن أطلب النصر بالجور فوالله ما كان ذلك أبداً).
الثاني - أن يخوض معركة، لكنّ المقاومة في دور الإمام الحسن عليه السلام كانت تؤدّي إلى فناء الصف المدافع عن الدين فلو غامر الإمام الحسن عليه السلام لقُتِل هو ومَن معه من بني هاشم وتنتصر الاُموية. وأيضاً يمكن أن يكون دخول الإمام عليه السلام في معركة يائسة يجعل معركته في نظر الكثير بمستوى المعركة التي خاضها ابن الزبير، وقد نتساءل هل أحدٌ من المسلمين فكّر بابن الزبير؟ هل حققت معركته مكسباً للإسلام؟ الجواب: كلاّ؟ والإمام الحسن عليه السلام يدرك كل هذه الأبعاد والتفصيلات.
الثالث - الصلح وهو مجرّد اُطروحة تشكّل هدنة زمنية مؤقتة وهي تجسّد امتداداً لمنهجية بدأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية وللإمام الحسن عليه السلام اُسوة بجدّه، ولا غرو أن يسير الأبناء على ما خطّه الآباء، هذا مع العلم بأنّ الصلح تضمن مجموعة من البنود الهامة التي لعبت دوراً كبيراً، وحقّقت مكاسب في طريق الإسلام.
وبذلك تمكّن الإمام الحسن عليه السلام بصلحه من أن يكشف زيف الاُموية، ويعري أولئك الذين تستّروا بالإسلام وساهموا بانحراف المسيرة عن الطريق المستقيم، فالإمام الحسن عليه السلام كشف اللِّثام عن هؤلاء ومهّد الطريق أمام الحسين عليه السلام ليكمل المسيرة ويحقّق الانتصار الكبير للإسلام على الجاهلية والاُموية. وندرك بعد ذلك أنّ الإمام الحسن والحسين وجهان لرسالة واحدة، فكان للإمام الحسن دور الصابر الحكيم، وكان للحسين عليه السلام دور الثائر الكريم.
إذاً - لا شك - ندرك حجم التضحية التي قام بها الإمام الحسن عليه السلام من أجل الإسلام، كما قال المصلح الكبير السيّد شرف الدين: (كانت شهادة الطف حسنية أوّلاً وحسينية ثانياً) كم تحمل هذه الكلمة من معان مؤشرات لأطروحة الصلح، وكيف تحوّل الصمت والهدوء إلى قنبلة موقوتة جاءت في وقتها المناسب؟.
جانب البحوث والدراسات
الشيخ مهدي العوازم
السيد علي الجراش
الشيخ محمّد جواد الطريحي
السيد محمّد العمدي
الشيخ حسين البدر
الشيخ نزار سنبل
الشيخ مهدي العوازم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
توطئة
هناك ممّن يدّعي التحضّر من يتهم الإمام الحسن عليه السلام بعدم التدبير مدّة حكمه، وضحالة سياسته في حركتهِ ضد معاوية فقالوا: إنّ معاوية كان أولى بالحنكة والسياسة، وأدهى في تدبير الاُمور من الإمام الحسن عليه السلام.
وأعجب من ذلك ما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي عن الشيخ ابن سينا في كتابه(الشفاء) من أنّ معاوية كان أسوس من الإمام علي عليه السلام وإن كان أمير المؤمنين أعلم(1).
والمبرر لتلك الكلمات الاعتماد على بعض المناطات الاعتبارية التي جعلت هي المقياس للتفصيل، مضافاً للجهل بالحقائق التاريخية والواقعية الموجب لألقاء الاستفهامات المتكررة منهم على مواقف الإمام الحسن عليه السلام فقالوا: لماذا فسح الإمام الحسن المجال للعناصر المختلفة للالتحاق بالجيش الزاحف لمحاربة معاوية مع معرفته بهم؟ ولماذا ولّى عبيد الله بن عباس على مقدمة الجيش وولّى آخرين مع معرفته بل بتصريحه بغدرهم؟ ولماذا لم يقطع رؤوس الفساد في الجيش؟ ولماذا لم يقدِم الإمام الحسن عليه السلام على الشهادة كالإمام الحسين عليه السلام، بل أقدم على الصلح حفاظاً على نفسه وبعض أهله من أهل بيته؟ ولماذا لم يقم بعد تصريح معاوية بان كل شرط اشترطه للإمام الحسن عليه السلام فهو تحت قدمه مع أنّ كبار أصحابه استعد لذلك؟.
وكل هذه الاستفهامات تنبئ عن الجهل بحقائق الواقع والمقاييس الصحيحة لمعرفة حقائق الرجال وأحوالهم.
ونحن نحاول في هذا المقال التعرّف على بعض جوانب الأحداث التي دارت بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، ونطلّ من نوافذ نورية على تلك الحقبة الزمنية لنرى مدى صحّة واستقامة مواقف الإمام الحسن عليه السلام، ومدى سقم وفساد موقف معاوية. ومن خلال طرح تلك الومضات من تلك النوافذ نعرف أنّ هناك مقاييس خاصّة عند أهل بيت النبوّة بها يتعاملون وبها يحكمون الناس، وبذلك يتضح الجواب على كل تلك الاستفهامات:
من هو الإمام الحسن عليه السلام ومَن هو معاوية؟
الإمام الحسن أبو محمّد ريحانة المصطفى، وقرّة عين المرتضى، وثمرة فاطمة الزهراء، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وأحد الذين أطعموا الطعام على حبّ الله مسكيناً ويتيماً وأسيرا، ومن أحد الثقلين اللّذين خلفهما الرسول في اُمّته ومَن باهل بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصارى نجران، ومن الذين أوجب الله الصلاة عليهم، وهو السيد والسبط والزكي والتقي والمجتبى.
• مولده:
وُلِدَ في الخامس عشر من شهر رمضان سنة ثلاث بعد الهجرة، وهو قول أكثر العلماء ومنهم الشيخ المفيد والشيخ الطوسي(2). وفي اُصول الكافي انّه وُلِدَ في السنة الثانية للهجرة(3)، وروى الصدوق في العلل والأمالي بأسانيده عن زيد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عليهما السلام قال: (لمّا ولدت فاطمة عليها السلام الحسن عليه السلام قالت لعلي عليه السلام سمِّه).
فقال: (ما كنتُ لأسبق باسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج إليه في خرقة صفراء فقال: (ألم أنهكم ان تلفّوه في خرقة صفراء) ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها ثم قال لعلي عليه السلام: (هل سمّيته؟) فقال: (ما كنتُ لأسبقك باسمه) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وما كنتُ لأسبق باسمه ربّي عزّ وجل)، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل: (إنّه قد وُلِدَ لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ابن فاهبط فاقرأه السلام وهنّه، وقل له: ان عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم بن هارون)، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عزّ وجل ثم قال: (إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون)، قال: (وما كان اسمه؟) قال: (شبّر) قال: (لساني عربي)، قال: (سمّه الحسن)(4).
• صفاته:
وكان الإمام الحسن عليه السلام أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلقاً وهيبة، هديا وسؤدداً،(وكان أبيض اللون مشربا بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، دقيق المسربة، كثّ اللحية، ذا وفرة، كأن عنقه إبريق فضة، ليس بالطويل ولا بالقصير مليحاً من أحسن الناس وجهاً)(5).
• نشأته:
نشأ الإمام الحسن عليه السلام في كنف جدّه ورعايته وتربيته سبع سنين، فتزين بأحلى زينة وهي شبهه بجده خَلْقاً وخُلُقاً فتأدّب بأحسن الآداب، وتخلّق بأتمّ مكارم الأخلاق، وحصل على أوسمة من الشرف ظلت وستظل خالدة في جبين الدهر. فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: (أمّا الحسن فان له هيبتي وسؤددي)(6).
وأيُّ هيبة أعظم من هيبة خاتم الأنبياء، وأي سؤدد أشرف من سيّد الكون محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال فيه وفي أخيه الإمام الحسين عليه السلام: (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)(7)، فهما سيّدا شباب مخلوقات الجنّة من الأنس والجن وغيرهما وكل ما صدق عليه أنّه من أهل الجنّة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا)(8).
فأشار بذلك إلى ما يكون من الإمام الحسن عليه السلام من الصلح وما يكون من الإمام الحسين عليه السلام من القيام، أو أشار إلى ما يكون من كل منهما من القيام في فترة والقعود عن المجابهة في فترة اُخرى. إلى غير ذلك من كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم النورانية التي هي عبارة عن أوسمة شرف وسمو وسيادة قلَّدها ابنه الإمام الحسن عليه السلام.
ثم كان مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام في مظلوميته ومواقفه وفي سكونه وحركته، فمشى على منهاجه وترعرع في ظلاله، ومشى خلفه مشية الفصيل خلف اُمّه، فكان من أعبد الناس وأزهدهم وأفضلهم وأكرمهم وأهيبهم.
فإذا ما واجهه أحد طأطأ رأسه أمامه، وإذا ما جلس عند باب بيته امتنعت المارة من السير في طريقه، وإذا ما ترجّل في طريقه إلى الحج ترجّل الحجيج، وما أكثر حجّه ماشياً، ولربما مشى حافياً ليكون أحمز الأعمال.
وكان إذا ذكر الموت بكى وإذا ذكر القبر بكى وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى بكى وشهق شهقة يغشى عليه منها.
وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يديي ربّه عزّ وجل، وإذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم(وهو من لدغته العقرب) وسأل الله الجنّة وتعوّذ به من النار. ولم ير في شيء من أحواله إلاّ ذاكراً لله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقاً)(9) ، فهذا هو الإمام الحسن عليه السلام.
• معاوية بن أبي سفيان:
وأمّا معاوية فهو من أخبث الناس كما جاء على لسان صديقه المغيرة بن شعبة(10)، وليس فيه خصلة واحدة تقربه من الخلافة كما عن ابن عباس(11)، وهو اللعين ابن اللعين كما عن محمّد بن أبي بكر(12)، وهو كهف المنافقين كما عن أيوب الأنصاري(شرح ابن أبي الحديد: 2 / 280)، والوثن ابن الوثن كما عن قيس بن سعد بن عبادة، وانّه ممّن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله كما عن عمّار بن ياسر(تاريخ الطبري: 6 / 7).
وتاريخ معاوية كلّه أسود ملطّخ بالعار وبالدم في جميع مراحله، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن آكلة الأكباد، فقد شرب من ثديها دم الجريمة، فقتل الكثير من أصحاب أمير المؤمنين، واعتاد منها المسكر(13)، وترعرع في حضنها الماجن، ثم يقف أمام الوثن ليجعله إلهه الذي يمدّه بكل شرّ ويسلخ منه أي خصلة خير يمكن أن تكون فيه. ولقد كانت تربيته في بيت حافل بالوثنية متهالك في الظلم والعدوان متفان في عادات الجاهلية، ترف عليه رايات العهارة وأعلام البغاء، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف تنزيل جعل أصابعه في اُذنيه(14).
ولقد كان هو وأبوه في العير والنفير ممّن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقف محارباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر حاملاً لواء الشرك ثم اُحد والأحزاب. وكل ذلك وهو في ضلال الشرك يعبد اللاّت والعزّى ويرى حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرضاً واجباً.
ولقد أورد علماء السنة الكثير من الأحاديث في ذمّه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن ما رواه علماؤنا. ويكفيك مطالعة ما كتبه العلاّمة الفيروز آبادي في كتابه(السبعة من السلف) رحمه الله لتجد الكثير من الروايات التي نقلها عن صحيح مسلم وكنز العمّال ومسند داود وميزان الأعتدال وتاريخ بغداد ومسند أحمد وتهذيب التهذيب وغيرها.
ومن تلك الروايات: قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أشبع الله بطن معاوية).
ودعاؤه عليه وعلى عمرو بن العاص: (اللهم اركسهما في الفتنة ركساً ودُعَّهما في النار دعّا).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمع معاوية وعمر بن العاص إلاّ على غدرة).
وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بقتال القاسطين وهم معاوية وأصحابه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها(15) وإنّه وأصحابه لفئة باغية)(16). وقد استقصى العلاّمة الأميني في كتابه الغدير(ج 10، ج 11) الكثير من هذه الروايات.
ويحسن بنا أن نقرأ ماذا يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام:
ففي نهج البلاغة: كتاب 9 يقول عليه السلام: (إنّه امرؤ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده قد دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتَّبعه فهجر لاغطاً وضل خابطاً).
وفي كتاب 10 يقول له: (دعتك الدنيا فأجبتَها وقادتك فاتّبعتَها وأمرتْك افأطعتَها). إلى أن يقول: (ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية وولاة أمر الاُمّة بغير قدم سابق ولا شرف باسق).
وفي كتاب 28 يقول: (وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس، وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حنّ قدح ليس منها). إلى أن يقول: (وانّك لذهّاب في التيه روّاغ في القصد).
وفي الكتاب 64: (وأمّا تلك التي تريد فأنّها خدعة الصبي عن اللبن في أوّل الفصال).
وفي الكتاب 44 يقول: (فإنّما هو شيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرّته). إلى غير ذلك من الكلمات التي وردت في نهج البلاغة وغيره.
وقد قارن الإمام الحسن عليه السلام بينه وبين نفسه فقال: (أنا ابن علي وأنت ابن صخر، وجدّك حرب وجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واُمّك هند واُمّي فاطمة وجدتي خديجة وجدتك نثيلة، فلعن الله ألأمنا حسباً وأقدمنا كفراً وأخملنا ذكراً وأشدّنا نفاقاً) فقال له عامّة أهل المجلس: آمين. وكل مَن كتب وسمع هذه الرواية يقول: آمين ونحن نقول أيضاً آمين.
فهذا هو الإمام الحسن عليه السلام وذلك معاوية فهل يمكن أن يقاس الثّرى بالثريّا؟.
فقد رأيت من خلال المقارنة بين الشخصيتين مدى التفاوت بينهما تربية وأخلاقاً وديانة وإنسانية وعقلاً ومعرفة و... إلى غير ذلك من درجات التفاضل بينهما. وهذه إحدى النوافذ التي تطلعنا بوضوح على عدم إمكان تفضيل معاوية في آرائه وسياساته...
• المدبّر المؤمن:
نتطلّع من خلال هذه النافذة إلى الشرائط التي يجب توفرها في القائد المدبّر للاُمور لنرى مدى تلبّس معاوية بها فنقول:
إنّ كلّ حركة تحتاج إلى مدبّر وإلاّ كانت فاشلة وينتج عنها السلبيات الوخيمة على المجتمع والدين، وهذا المدبّر لا بدّ أن يتسم بصفات ينتج عنها استقامة حركته والحصول على أهدافها، ولا سيّما إذا كانت للوصول إلى الأهداف الإلهية، فلا بد من تحلّي المدبّر المؤمن بها. وهذه الصفات يجمعها عناصر ثلاثة يتفرّع منها بقية الصفات وهي:
(1) الإيمان بالله وبرسوله وما جاء به:
فلو لم يكن مؤمناً لم يكن عنده الميزان الذي به يميّز الحق من الباطل والعدل من الظلم.
(2) العلم والحكمة:
فبالعلم يعرف كيف يعامل المجتمع وكيف يتعامل مع الأعداء، فيحارب إذا علم انّ الحرب هي الحل الأمثل، ويسالم إذا علم انّ المسالمة هي الخير كلّه له ولأتباعه ومبادئه. وبذلك تنفتح السبل إلى الله عزّ وجلّ(ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة) والجهل بالحكمة هو الذي يوجب النقد والانتقاد.
ولذا قال الإمام الحسن عليه السلام جواباً على مَن سأله لِمَ صالحتَ معاوية: (أما علمتَ أنّ الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام؛ إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً)(17).
(3) التقوى:
وهو العنصر الذي يأخذ بيد الإنسان نحو السبيل إلى الله والوصول إلى مدارج الكمال في قيادته وتدبيره. قال تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). ويحتاج في الحصول على هذا العنصر إلى اُمور كثيرة منها:
حياة قلبه بالموعظة، إماتته بالزهد، تقويته باليقين، تنويره بالحكمة، تذليله بذكر الموت، تقريره بالفناء، تبصيره لفجائع الدنيا، تحذيره صولة الدهر وتقلّب الليالي والأيام، تذكيره بأخبار الماضين وما أصابهم.
وإذا أردتَ المزيد فأقرأ وصية أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام فقد تضمّنت اُموراً كثيرة لتأديب الإنسان والأخذ بيده للوصول إلى مدارج الكمال.
فقد أوصى أمير المؤمنين عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام قائلاً: (أي بني إنّي وإن لم أكن عمّرتُ عمر مَن كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأنّي بما انتهى إليّ من اُمورهم عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفتُ صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لكَ من كل أمر نخيله، وتوخّيت لك جميله، وصرفتُ عنك مجهوله).
فجعل الإمام الحسن خلاصة كل أمر ذي بال وجميل كل حدث وعرَّفه ما هو السقيم من السليم. فإذا عرفنا كل ما ذكرناه فهل يمكن أن يكون معاوية متلبّساً بصفات هذا المدبّر وشرائطه؟ فهل هو المؤمن حقّ الإيمان أم الإمام الحسن عليه السلام؟ ومَن هو العالم بالشرائع وأحوال الماضين؟ ومَن هو المتقي لله حقّ تقاته؟ لا أظنّ أنّ من له شيء من المعرفة للتاريخ يساوي معاوية بالإمام الحسن عليه السلام في ذلك فضلاً عن تفضيله. فما أسلم معاوية إلاّ خوفاً من حدّ السيف، بل لم يؤمن قلبه طرفة عين.
وأي علم كان عند معاوية ومِن أي معلم أخذه؟ ومتى اتقى معاوية في أمر من الاُمور وهو القاتل لحجر بن عدي وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام(18)، وهو المصلّي صلاة الجمعة يوم الأربعاء(19)، وهو الماكر المخادع والناقض للعهود والمواثيق، فهل من الممكن أن يساوى بسيّد شباب أهل الجنة وأحد أصحاب الكساء، والذي معلمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام الحائز على كل كرامة الذي اعترف بفضائله أعداؤه فضلاً عن شيعته ومحبّيه.
وبذلك يثبت أنّ المدبّر المؤمن هو الإمام الحسن عليه السلام لا معاوية الذي لا يتوفر فيه شرط من شروط المدبّر المؤمن.
• الهدف الحقيقي والمزيّف:
كلّ حركة دينية لا بدّ أن يكون وراءها هدف مناسب لها، وإلاّ كانت عشوائية. وهذه قاعدة تشمل حتى الخلق الإلهي، وقد بيّن الله تعالى الهدف من خلقة الخلق من جنبتين:
الجنبة العملية: وهي عبارة عن عبادة الله كما قال تعالى:(وما خلقتُ الجن والإنس إلاّ ليعبدون).
الجنبة العلمية: وهي عبارة عن معرفة الله تعالى كما روي في الحديث القدسي: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أعرف فخلقتُ الخلق لكي أعرف).
وقد كمن هذا الهدف في كل مخلوق على وجه الوجود:(وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده). فكل حركة من حي لها هدف، وهو حقيقي تارة واُخرى مزيّف.
فإذا صار الهدف إلى ما جعله الله هدفاً من العبادة لله وحده والمعرفة فهو الهدف الحقيقي، وإذا ما خالفه كان الهدف المزيّف.
وإذا ما لاحظنا هدف الإمام الحسن عليه السلام في حركته وهدف معاوية لوجدنا أنّ هدف الإمام الحسن عليه السلام هدف حقيقي بخلاف هدف معاوية.
فهدف الإمام الحسن عليه السلام في حربه وسلمه هو نشر الدين والحفاظ عليه، بينما هدف معاوية هو التأمّر على المسلمين وملك رقابهم وتخريب الدّين ومحو اسم الرسول والرسل والرسالة من أنحاء مملكته.
ويتبيّن ذلك بالرجوع إلى كلمات الإمام الحسن عليه السلام في أسباب الصلح وكلمات معاوية بعد الصلح وسيأتي الإشارة إليها. فهل يُقاس معاوية بالإمام الحسن عليه السلام في أهدافه؟
(4) البعد الرابع:
من المعلوم أنّ كل جسم له ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع. وهناك بعد رابع لا يستغني عنه الجسم في وجوده وهو التوأم الذي يوجد معه، وهو البعد الزمني.
فالبعد الزمني يدخل في وجود الجسم لا ماهيته، ولا يمكن أن يتحقق الجسم إلاّ بالزمان.
ولهذا البُعد تأثير كبير على الجسم في تشكّله وتفاعلاته وآثاره. وكل حركة مادية بجميع أشكالها وكل حركة معنوية كذلك يواكبها البُعد الرابع، فمسيرة الحركة بُعد أوّل وسعة الحركة بُعد ثان وسمو الحركة بُعد ثالث والزمان بُعد رابع. فالزمان يحتاج إليه في كل حركة، بل انّ خلق الله للمادّة قدره الله بالزمان فخلق الأرض في يومين (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر أقواتها في أربعة أيّام)، (فقضاهنّ سبع سموات في يومين)، (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام).
فنلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الزمان في خلقه وإن لم نعلم نحن مقدار هذا الزمان بملاحظة أيّام الأرض.
وما سنة الاستدراج والإمهال إلاّ نصيب من البُعد الزمني (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون)،(فمهّل الكافرين مهّلهم رويدا).
كما أنّ له دوراً في توقيت الرسالة الخاتمة التي لا تحتاج إلى رسالة اُخرى في الأرض بل هي تمتد بأهدافها إلى التكامل.
وتواكب مسيرتها إلى الهدف الحقيقي الأخير وهو وراثة الأرض وانتشار العدل فيها في عهد صاحب الزمان - عجّل الله فرجه الشريف..
وقد لاحظ الإمام الحسن عليه السلام هذا البعد كما لاحظه سائر الأئمة عليهم السلام في حركتهم للوصول إلى الأهداف الحقيقية ونشر الدين في ربوع الأرض وإيصال الأمانة الإلهية عبر الأجيال ليتسلمها أخيراً صاحب الأمر.
فدعوتهم وحركتهم لها بُعد رابع مقدّر لا يحيفون عنه فبمقدار ما يحفظ الدين يتحرّكون وبمقدار ما يستمر الدين يسالمون بزمان مقدّر عندهم فيسكت أمير المؤمنين عليه السلام إلى زمن، ثم يتحرّك إلى زمن ثم يسكت. ويتحرّك الإمام الحسن عليه السلام في زمن ثم يسكت. ويسكت الإمام الحسين عليه السلام إلى زمن ثم يتحرّك ويسكت بقية الأئمة عليهم السلام.
ويسكت صاحب الزمان ثم يتحرّك.
وفي بعض كلمات الإمام الحسن عليه السلام: (ولا تكون علينا دولة إلاّ وتكون لنا العاقبة)(20)، مشيراً إلى ما ذكرناه، فهل يقاس قصير النظر ببعيده هيهات.
• الهندسة الإلهية:
يخلق الله الإنسان ويزوّده بما يحتاج إليه في مسيرة حياته ويهديه النجدين، ثمّ يكون معه الشيطان ليغويه ويزوّده بأدوات الشرّ فيقف الإنسان في مفترق طريقين: الخير كلّه والسعادة الخالدة، والشرّ كلّه والشقاوة الأبدية، فالإنسان مخيّر بين طريق الله وطريق الشيطان، ولكن لماذا الشيطان؟ ولماذا يقف الإنسان متحيّراً؟ ولماذا الأنبياء وعذابهم على طول التاريخ؟.
هذه هي الهندسة الإلهية والتقدير الإلهي فهي المحدّدة لوجود الأشياء في عالمنا المشهود، من حيث وجودها وآثار وجودها وخصوصيات كونها بما أنّها متعلّقة الوجود والآثار باُمور خارجة من العلل والشرائط، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها، فهي مقولبة بقوالب من داخل وخارج تعين لها من العرض والطول والشكل وسائر الأحوال والأفعال ما يناسبها)(21)(الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى)(22).
قال الإمام الرضا عليه السلام في خبر مفصّل: أوَ تدري ما قدَّر؟ قال: لا. قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء(23).
والأنبياء والأوصياء عليهم السلام وإن علموا بالمقدّرات الإلهية إلاّ أنّهم لا يمكنهم أن يقفوا أمامها حيث كانت تحت المسيرة الإلهية وإلى الهدف الحقيقي.
وإذا لاحظنا بعض إجابات الإمام الحسن عليه السلام نجد ذلك واضحاً منه. ففي حديث أجاب الإمام الحسن عليه السلام عن قول القائل: تترك يا ابن رسول الل