المحتويات
2015/08/29
 
7902
قالوا.. في الإمام الحسن - الأخلاق الحَسنيّة (10)

قالوا.. في الإمام الحسن - الأخلاق الحَسنيّة (10)

قالوا.. في الإمام الحسن عليه السلام
سلسلة الأخلاق الحَسنيّة (10)

تأليف: جعفر البياتي
الناشر: العتبة الحسينية المقدسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية

يكفي الإمامَ الحسنَ المجتبى عليه السلام شرفاً ورفعةً وكرامةً أنّه محلّ ثناء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيّبين الميامين سلام الله عليهم أجمعين.
لقد كان من حُجّيّة إمامته سلام الله تعالى عليه أن ظهرت مناقبه بين الناس ظهوراً نافذاً أقرّ بها الجميع: الصديق والعدوّ, المحبّ الموالي والمبغض المعادي, بل وحتّى الحسود, والمعاند والعنود, والمناوئ اللدود! ولعلّ هذا مِن بعض معاجزه وكراماته صلوات ربّنا تبارك وتعالى عليه.
وها نحن ـ أيّها الإخوة الأحبّة ـ نورد جملةً مما قيل في الإمام الحسن الزكيّ المجتبى؛ لكي نتبيّن أمرَينِ ـ على أقلّ الفروض ـ: الأوّل ـ بعض مراقي الشرف الأسمى لهذا الإمام الهمام, والثاني ـ بعض مظلوميّته سلام الله عليه, حيث كان ما كان من الناس من إعراضٍ عنه, أو إساءةٍ إليه, أو غصبٍ لحقوقه, أو إقلالٍ لذِكْره, أو تحيّرٍ في إمامته, أو عدم التفاتٍ إلى جلال فضائله الروحيّة والأخلاقيّة.. وهذا غيضٌ من فَيض, بما يسمح به المقام:
* تبرّكاً نبدأ بقولى تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ الْبَيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهِيراً)(1).
* عن سلمان المحمّديّ رضوان الله عليه قال: كنتُ جالساً عند النبيّ المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم, إذ دخل العبّاس بن عبد المطّلب فسلّم, فردّ النبيّ عليه ورحبّ به, فقال: يا رسول الله, بِمَ فُضِّل علينا عليُّ بن أبي طالبٍ أهلَ البيت والمعادنُ واحدة؟ فقال له النبيّ المكرّم:
(إذاً أُخبِرُك يا عمّ, إنّ الله تبارك وتعالى خلَقَني وخلق عليّاً ولا سماءٌ ولا أرض, ولا جنّة ولا نار, ولا لَوحٌ ولا قلم, ولمّا أراد الله بَدْوَ خلقنا تكلّم بكلمةٍ فكانت نوراً, ثمّ تكلّم بكلمةٍ ثانية فكانت روحاً, فمَزَج فيما بينهما فاعتدلا, فخلقني وعليّاً منهما. ثمّ فتق من نوري نورَ العرش, فأنا أجَلُّ من نور العرش, ثمّ فتق من نور عليٍّ نورَ السماوات, فعليٌّ أجَلُّ مِن نور السماوات, ثمّ فتق من نور الحسن نورَ الشمس, ومن نور الحسين نورَ القمر, فَهُما أجَلُّ من نور الشمس ومن نور القمر.
وكانت الملائكة تسبّح اللهَ تعالى وتقدّسه, وتقول في تسبيحها: سُبّوحٌ قُدّوسٌ مِن أنوارٍ ما أكرمَها على الله تعالى! فلمّا أراد الله جلّ جلاله أن يَبلُوَ الملائكة أرسل عليهم سَحاباً من ظُلمة, فكانت الملائكة لا ينظر أوّلها مِن آخِرِها, ولا آخِرُها من أوّلها, فقالت الملائكة: إلهَنا وسيّدَنا, منذُ خلقتَنا ما رأينا مِثلَ ما نحنُ فيه! فنسألك بحقّ هذه الأنوار إلّا ما كشفتَ عنّا, فقال الله تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي لَأفعَلَنّ. فخلق نورَ فاطمة يومئذٍ كالقنديل, وعلّقَه في قُرْط العرش, فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع, ومِن أجل ذلك سُمِّيت فاطمة الزهراء, وكانت الملائكة تسبّح الله وتقدّسه, فقال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي, لَأجعلنّ ثوابَ تسبيحكم وتقديسكم إلى يوم القيامة لِـمُحبّي هذه المرأة وأبيها, وبعلِها وبنيها)(2).
* وعن أبي هريرة, أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(لمّا خلق الله آدمَ ونفخ فيه مِن روحه, اِلتفَتَ آدم يَمنةَ العرش, فإذا خمسةُ أشباح, فقال: يا ربّ, هل خلقتَ قَبلي من البشـر أحداً؟ قال: لا, قال: فَمَن هؤلاءِ الذين أرى أسماءَهم؟ فقال: هؤلاء خمسةٌ مِن وُلدك, لولاهم ما خلقتُك ولا خلقتُ الجنّةَ ولا النار, ولا العرشَ ولا الكرسيّ, ولا السماءَ ولا الأرض, ولا الملائكة ولا الجنّ ولا الإنس. هؤلاء خمسة شققتُ لهم ٱسماً مِن أسمائي: فأنا المحمود وهذا محمّد, وأنا الأعلى وهذا عليّ, وأنا الفاطر وهذه فاطمة, وأنا ذو الإحسان وهذا الحسن, وأنا المحسن وهذا الحسين. آليتُ على نفسـي أنّه لا يأتيني أحدٌ وفي قلبه مثقالُ حبّةٍ من خردلٍ من محبّة أحدهم إلّا أدخلتُه جنّتي, وآليتُ بعزّتي أنّه لا يأتيني أحدٌ وفي قلبه مثقال حبّةٍ من خردلٍ من بُغض أحدهم إلّا أدخلتُه ناري. يا آدم, هؤلاءِ صفوتي مِن خَلقي, بهم أُنْجي مَن أُنجي, وبِهِم أُهلِك مَن أُهلك)(3).
* وبسنده عن عمرو بن ثابت, عن أبيه عن أبي فاختة, روى ابن عساكر أنّه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لابنته: (يا فاطمة, أنا وأنتِ وهذين (أي الحسن والحسين) وهذا الراقد (وأشار إلى عليّ) في مقامٍ واحدٍ يومَ القيامة)(4).
* وعن أبي فاختة أيضاً ـ وهو سعيد بن علاقة, يروي عن الإمام عليٍّ عليه السلام ـ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: (إنّي وإيّاكِ وهذا (يَعْنيني ـ الكلمة لعليٍّ عليه السلام), وهذين (يعني الحسن والحسين)، يومَ القيامة في مكانٍ واحد)(5).
* وعن ابن السمّاك: قال الحسين بن عليّ عند قبر أخيه الحسن يومَ مات: (رَحِمَك اللهُ يا أبا محمّد إن كنتَ لناصر الحقّ مَظانّه (كذا)(6), وتُؤثر اللهَ عند مداخص الباطل في مواطن البقيّة بحُسن الرويّة(7), وتستشفّ جليلَ معاظم الدنيا بعينٍ لها حاقرة, وتقبض عنها يداً طاهرة(8), وتردع ماردةَ أعدائك بأيسـر المؤونة عليك(9), وأنت ٱبنُ سلالة النبوّة(10), ورضيعُ لِبانِ الحكمة, وقد صِرتَ إلى رَوحٍ ورَيحانٍ وجَنّةِ نعيم. أعظَمَ اللهُ لنا ولكمُ الأجرَ عليه, ووهَبَ لنا ولكمُ السَّلوةَ وحُسنَ الأسى عليه)(11).
* ويوم أراد معاوية الفتنة فقال لعبد الله بن جعفر الطيّار ابن عمّ الحسين عليه السلام: أنت سيّد بَني هاشم, أجابه عبد الله بغَيرةٍ وبصيرة: كلّا, بل سيّدُ بَني هاشم: حَسَنٌ وحُسَين, لا ينازعهما في ذلك أحد(12).
* ويوم أمسك عبد الله بن عبّاس برِكاب دابّة الإمام الحسن عليه السلام وسَوّى عليه, وبركاب دابّة الإمام الحسين عليه السلام وسوّى عليه, قال له مُدرك أبو زياد: أنت أكبر منهما, تُمسِك لهما وتُسوّي عليهما؟! أجابه ابن عبّاس: يا لُكَع! أتدري مَن هذان؟! هذانِ ٱبنا رسول الله، هذا ممّا أنعَمَ الله علَيّ أن أُمسك لهما, وأُسوّيَ عليهما(13).
* وعن ميمون بن مهران قال: كان ابن عبّاس لمّا كُفّ بصره يقول لقائده: إذا أدخلتَني على معاوية فسدّدني لفراشه, ثمّ أرسِلْ يَدَيّ, لا يَشمت بي معاوية. ففعل ذلك يوماً, فقال معاوية لبعض جلسائه: لِيغتَمَنّ! فلمّا جلس معه على فراشه قال له: يا ابنَ عبّاس, آجَرَك الله في الحسن بن عليّ, قال: أمات؟! قال: نعم, فقال ابن عبّاس:
رحمة الله ورضوانه عليه, وألحَقَه بصالح سلفه.
ثمّ قال لمعاوية يردّ عليه شماتته: أما والله ـ يا معاوية ـ لا تَسدُّ حفرتَه, ولا تأكل رزقه, ولا تخلد بعده. ولقد رُزئنا بأعظمَ فَقْداً منه, رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم, فما خَذَلَنا الله(14).
وفي روايةٍ أخرى أنّ معاوية قال له: يا ابنَ عبّاس, هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال: لا أدري ما حدث, إلّا أنّي أراك مستبشراً وقد بَلغَني تكبيرُك! فقال معاوية: مات الحسن, فقال ابن عبّاس:
رَحِم الله أبا محمّد ـ ثلاثاً ـ, واللهِ ـ يا معاوية ـ لا تَسدّ حفرتُه حفرتَك, ولا يزيد عمرُه في عمرك. ولَئن أُصِبْنا بالحسن فلَقَد أُصِبنا بإمام المتّقين, وخاتم النبيّين, فجَبَر الله تلك الصدعة, وسكّن تلك العَبرة, وكان الخَلَف علينا مِن بعده(15).
* وذاك جابر بن عبد الله الأنصاريّ يقف بين الناس يُعلن أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَن سَرّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة, فَلْينظُرْ إلى الحسن بن عليّ)(16).
* وعبد الله بن الزبير, رغم أحقاده على أهل بيت النبوّة عامّة, وعلى أمير المؤمنين خاصّة, إلّا أنّه فاه بما لم يستطع كتمانه, وبما أصبح حجّةً عليه وعلى مَن على شاكلته!
قال عبد الله بن عروة: رأيتُ عبد الله بن الزبير قعد إلى الحسن ابن عليّ في غداةٍ من الشتاء باردة, فَوَاللهِ ما قام حتّى تفسّخ جبينُه عَرَقاً! فغاظني ذلك, فقمتُ إليه فقلت: يا عمّ, قال: ما تشاء؟ قلت: رأيتك قعدتَ إلى الحسن بن عليّ, فما قمتَ مِن عنده حتّى تفسّخ جبينك عرقاً! قال: يا ابنَ أخي, إنّه ابنُ فاطمة, لا واللهِ ما قامت النساءُ عن مِثله!(17)
وسمع عبد الله هذا يوماً رجلاً يتحدّث عمّن هو أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال له: أنا أحدّثكم بأشبهِ أهله به وأحبِّهم إليه, الحسن بن عليّ...(18).
* وكان ممّا أقرّ به عثمان بن عفّان في الحسن والحسين عليهما السلام, وفي عبد الله بن جعفر ابن عمّهما أن قال بعد مسألةٍ: أولئك فَطَموا العِلمَ فَطْماً, وحازوا الخير والحكمة(19).
* فيما قال عبد الله بن عمر بن الخطّاب في الحسن والحسين سلام الله عليهما بعد مسألةٍ أيضاً: إنّهما يُغَرّانِ العِلمَ غَرّاً!(20)
* وأبو هريرة, ينقل عنه مساور مولى بني سعد بن بكر أنّه قام على مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم استُشهِد الإمام الحسن عليه السلام, فنادى بأعلى صوته: يا أيُّها الناس, مات اليومَ حِبُّ رسول الله (أي حبيبُه), فابكُوا!(21)
* وأنس بن مالك, وقد أنكر بيعة الغدير إذ تناساها, لكنّه قال: لم يكن فيهم أحدٌ أشبهَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحسن(22).
وربّما هكذا المراد: لم يكن أحدٌ من الصحابة أشبهَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خَلقه وخُلقه وخصاله وفضائله من سبطه وريحانته الحسن المجتبى صلوات الله عليه.
* وروى ابن عساكر قائلاً: أخبَرَنا أبو الحسين ابن الفرّاء, وأبو غالبٍ وأبو عبد الله ٱبنا البنّاء, قالوا: أنبأَنا أبو جعفر, أنبأنا أبو طاهر, أنبأنا أحمد بن سليمان, أنبأنا الزبير قال: حدّثني أبو الحسن المدائنيّ(23), أنبأَنا أبو اليقظان قال: قَدِم البصرةَ بوفاة الحسن بن عليّ عبدُ الله بن سلمة بن سِنان أبو المحَبَّق الهذليّ... فنعاه زيادٌ لجلسائه, فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفيّ فنعاه للناس فبَكَوا, فسمع أبو بكرة البكاء فقال لِـمَيسة بنت شحام امرأتِه ـ وهو مريض ـ: ما هذا؟! قالت: نُعي الحسن بن عليّ فاستراح الناس مِن شرٍّ كبير! فقال لها: وَيْحَكِ بل أراحه الله مِن شرٍّ كبير, وفَقَد الناسُ خيراً كثيراً(24).
* وقال أبو اليقظان: أخبرني عمّي مصعب بن عبد الله أنّ النجاشيّ (الشاعر) قال وهو يرثي الحسنَ بن عليٍّ رضي الله عنهما:

يا جُعْدُ بَكِّيهِ ولا تَسأمي * * * بكاءَ حقٍّ ليس بالباطلِ
علَى ٱبنِ بنتِ الطاهرِ المصطفى * * * وٱبنِ ٱبنِ عمِّ المصطفَى الفاضلِ
كان إذا شبّت له نارُهُ * * * يُوقِدُها بالشرفِ القابلِ
لكي يَراها بائسٌ مُرْمَلٌ * * * أو فردُ حيٍّ ليس بالآهِلِ
لم تُغلقي باباً على مِثْلِهِ * * * في الناس مِن حافٍ ولا ناعلِ
أعني فتىً أسْلَمَه قومُهُ * * * للزمنِ المستحرج الماحِلِ
نِعمَ فتى الهيجاءِ يومَ الوغى * * * والسيّدِ القائلِ والفاعلِ(25)

* وروى البيهقيّ أنّ معاوية قال ذات يومٍ ـ وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم ـ: أخبروني بخير الناس أباً وأُمّاً, وعمّاً وعمّة, وخالاً وخالة, وجَدّاً وجَدّة. فقام إليه مالك بن العجلان فأومأ إلى الحسن وقال:
هذا هو ذا: أبوه عليّ بن أبي طالب, وأمّة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وعمُّه جعفر الطيّار في الجِنان, وعمّته أُمّ هاني بنت أبي طالب, وخاله القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وخالته بنت رسول الله زينب, وجَدُّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وجَدّته خديجة بنت خُوَيلد.
فسكت القوم، ونهض الحسن, فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: أَحُبُّ بني هاشم حَملَك على أن تكلمتَ بالباطل؟! فقال ابن العجلان: ما قلتُ إلّا حقّاً, وما أحدٌ من الناس يطلب مرضاة مخلوقٍ بمعصية الخالق إلّا لم يُعطَ أُمنيّتَه في دنياه, وخُتم له بالشقاء في آخرته. بنو هاشمٍ أنضرُهم عُوداً, وأوراهم زنداً, كذلك يا معاوية؟! قال: اَللهمّ نعم(26).
* وقد ذكرنا ما جاء من رسالة الحسن بن أبي الحسن البصريّ إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام يسأله حول الاستطاعة حيث ظهر القَدَريّون, وانتشر مبدأ أهل الاعتزال, فكتب البصريّ:
إنّكم ـ معاشرَ بني هاشمٍ ـ الفُلكُ الجارية في اللُّجج الغامرة, والأعلامُ النيّرةُ الشاهرة, أو كسفينة نوحٍ عليه السلام التي نزلها المؤمنون, ونجا فيها المسلمون. كتبتُ إليك ـ يا ابنَ رسول الله ـ عند اختلافنا في القدر, وحيرتنا في الاستطاعة, فأخبِرْنا بالذي عليه رأيُك ورأي آبائك, فإنّ مِن عِلمِ الله عِلمَكم, وأنتم شهداءُ على الناس, والله الشاهد عليكم, (ذُرّيّةً بعضُها مِن بعضٍ, واللهُ سميعٌ عليم)(27).
* وروى المسعوديّ أنّه لمّا دُفن الإمام الحسن عليه السلام, وقف أخوه محمّد بن الحنفيّة على قبره فقال: لَئن عزّت حياتُك, لقد هدّت وفاتُك, ولَنِعم الروحُ روحٌ تضمّنَه كفَنُك, ولَنِعمَ الكَفَنُ كفنٌ تَضمّنَ بدنَك, وكيف لا تكون هكذا وأنت عقب الهدى, وخَلَف أهل التقوى, وخامس أصحاب الكساء, غذَّتْك بالتقوى أكُفُّ الهدى, وأرضعتك ثديُ الإيمان, ورُبِّيتَ في حِجر الإسلام, فطِبتَ حيّاً وميّتاً, وإن كانت أنفُسُنا غيرَ سخيّةٍ بفراقك, رَحِمَك الله أبا محمّد(28).
وابن عبد ربّه روى ذلك أيضاً باختلافٍ يسير, هكذا: وقف محمّد بن الحنفيّة على قبر الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما فخنقته العبرة, ثمّ نطق فقال: يرحمك الله أبا محمّد, فلئن عزّت حياتُك فَلَقد هدّت وفاتك, ولَنِعم الروحُ روح ضَمَّه بدنُك, ولَنعم البدنُ بدنٌ ضمّه كفَنُك, وكيف لا يكون كذلك وأنت بقيّة الأنبياء, وسليلُ الهدى وخامسُ أصحاب الكساء, غذّتك أكُفُّ الحقّ, ورُبّيتَ في حِجر الإسلام, فطِبتَ حيّاً وميّتاً, وإن كانت أنفسُنا غيرَ طيّبةٍ بفراقك, ولا شاكّةٍ في الخيار لك(29).
وروى ذلك الزرنديّ الحنفيّ بعين ما تقدّم ولكن إلى قول ابن الحنفيّة: وكيف لا تكون هكذا؟! ثمّ قال: وأنت سليلُ الهدى, وحليفُ أهل التُّقى, وخامسُ أصحاب الكساء, وابنُ سيّدة النساء, رُبِّيتَ في حِجْر الإسلام, ورضعتَ ثدي الإيمان, ولك السوابقُ العظمى, والغايات القُصوى, وبك أصلح اللهُ بين فئتَينِ عظيمتينِ من المسلمين, ولَمَّ شعَثَ الدِّين, وإنّك وأخاك سيّدا شبابِ أهل الجنّة.
ثمّ التفَتَ إلى أخيه الحسين فقال له: بأبي أنت وأُمّي, وعلى أبي محمّدٍ السلام, فَلقَد طبتَ حيّاً وميّتاً. ثمّ انتحب طويلاً والحسينُ معه (أي أخذ ينتحب), وأنشد (أي الحسين سلامُ الله عليه):

أَأَدهُنُ رأسي أَم تَطيبُ مَحاسني * * * وخَدُّك معفورٌ وأنت سَليبُ؟!
سأبكيك ما ناحَتْ حمامةُ أيكةٍ * * * وما ٱخْضَرّ في دَوح الرياضِ قَضيبُ
غريبٌ وأكنافُ الحِجازِ تَحوطُهُ * * * ألا كُلُّ مَن تحتَ الترابِ غريبُ(30)

* وتلك كلمة واصفة صدرت من واصل بن عطاء, حيث قال: كان الحسن بن عليّ عليه سِيماءُ الأنبياء, وبهاء الملوك(31).
* وكتب الزمخشريّ: وقف رجلٌ مِن وُلد أبي سفيان بن الحرث ابن عبد المطّلب على قبر الحسن بن عليٍّ فقال: أما إنّ أقدامَكم قد نَقَلت, وأعناقَكم قد حَملَت, إلى هذا القبر وليّاً مِن أولياء الله, يُسَرّ نبيُّ الله بمَقدمِه, وتُفتح أبوابُ السماء لروحه, وتبتهج الحورُ العِين بلقائه, وتبشّ به سادة نساء أهل الجنّة من أُمّهاته, ويوحش أهلَ الحِجى والدِّين فَقْدُه. رحمة الله عليه, وعند الله تُحتسَب المصيبةُ به(32).
* ولمّا بلغ معاويةَ وفاةُ الحسن عليه السلام, كَبَّر في الخضراء ـ قصره الفَخْم ـ فكبّر أهل الخضراء, ثمّ كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء, فخرجت فاختة بنت قَرَظَةَ بنِ عمرو بن نوفل بن عبد مَنافٍ من خوخة لها (بستان) فقالت: سَرّك اللهُ يا أمير المؤمنين, ما هذا الذي بلغك فسُرِرتَ به؟! قال: موتُ الحسن ابن عليّ! فقالت:
ـ إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون! ثم بكت وقالت:
ـ مات سيّد المسلمين, وابن بنت رسول الله!(33)
* وتلك كلمة عمرو بن العاص الذي طالما حارب أهل البيت وشهر السيف في وجوههم, لكنّ الإعجاب غلب حقده يوماً فقال ما قال!
قال العِيزار بن حُرَيث: بينما عمرو بن العاص جالسٌ في ظلّ الكعبة, إذ رأى الحسن بن عليٍّ مُقْبلاً فقال: هذا أَحَبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء(34).
* وخاطب منظور بن زياد الإمامَ الحسن عليه السلام فقال ما في قلبه مثبّتاً حقيقةً تَهرَّب منها الكثير: إنّك أكرمُهم بيتاً, وأكرمهم نَفْساً(35).
* وأخرج البزّار عن رجاء بن ربيعة قال: كنت جالساً بالمدينة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حلقةٍ فيها أبو سعيد وعبد الله بن عمرو, فمرّ الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما, فسَلّم فردّ عليه القوم وسكت عبد الله بن عمرو, ثمّ أتبعه فقال له: وعليك السلامُ ورحمة الله. ثمّ قال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء, واللهِ ما كلّمتُه منذ ليالي صِفّين.
فقال أبو سعيد: ألا تنطلق إليه فتعتذر إليه, قال: نعم. قال: فقام فدخل أبو سعيد فاستأذن فأذِنَ له, ثمّ استأذن لعبد الله بن عمرو فدخل, فقال أبوسعيد لعبد الله بن عمرو: حدِّثْنا بالذي حدّثتَنا به حيث مرّ الحسن, فقال: نعم, أنا أُحدّثكم به, إنّه أحَبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء, فقال له الحسن: (إذا علمتَ أنّي أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء, فَلِم قاتَلْتَنا؟!)(36).
* ولم يَدَع الحقد لمعاوية استقراراً ولا بصيرة, حتّى جعله يستشير أبا الأسود الدُّؤليّ ـ وهو من مُريدي أهل البيت عامّة وأمير المؤمنين خاصّة ـ في التعرّض للإمام الحسن المجتبى عليه السلام, فنهاه أبو الأسود وقال له: إنّه لَهُوَ المهذّب, قد أصبح من صريح العرب في غُرّ لُبابها, وكريمِ مَحْتدِها, وطيّبِ عنصرها, فلا تفعل!(37)
* وذاك عمير بن إسحاق قالها بعد زمنٍ صادقاً: ما تكلّم أحدٌ ـ أحبُّ إليّ أن لا يسكت ـ من الحسن بن عليّ, وما سمعتُ منه كلمةَ فُحشٍ قطّ(38).
* وأراد أحمد بن حنبل أن يعرّف شأنَ ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يذكر إلّا هذه العبارة: الحسن بن عليّ بن أبيّ طالب: مدنيّ, تابعيّ, ثقة(39).
* وكتب محمّد بن طلحة الشافعيّ معرِّفاً بالحسن الزكيّ عليه السلام: كان الله عزّ وجلّ قد رزقه الفطرة الثاقبة في إيضاح مراشد ما يُعانيه, ومَنَحَه النظرة الصائبة لإصلاح قواعد الدِّين ومَبانيه, وخصّه بالجِبِلّة التي درّت لها أخلاق مادّتها بصور العلم ومعانيه(40).
* وفي (تذكرة خواصّ الأمّة) خصّص سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ البابَ الثامن من كتابه هذا لذِكر الإمام الحسن عليه السلام وبيان خصائصه وفضائله, وما جرى له بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام, إلى شهادته عليه السلام وسببها, وذِكر أولاده، فبلغ ذلك الفصل أكثر من أربعين صفحة, كان فيها عبارته هذه:
كان الحسن مِن كبار الأجواد, وله الخاطرُ الوَقّاد, وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّه حبّاً شديداً(41).
* وفي تمييز الصحابة والتعريف بهم, كتب شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلانيّ الشافعيّ (ت ٨٥٢ هـ): الحسن بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مَناف الهاشميّ, سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وريحانة أمير المؤمنين. أبو محمّد, وُلِد في نصف شهر رمضان..(42).
* أمّا المحدّث أحمد بن حجر المكّيّ الهيتميّ الشافعيّ (ت ٩٧٤ هـ) فقد خصّص في كتابه (الصواعق المحرقة) البابَ العاشر لخلافة الحسن وفضائله ومزاياه وكراماته, في ثلاثة فصول, وقد عبرّ عنه أنّه: خليفة حقّ, وإمام عدلٍ وصِدق, تحقيقاً لِما أخبر به جَدُّه الصادق المصدوق صلّى الله عليه (وآله) وسلّم... وكان رضي الله عنه سيّداً كريماً حليماً, زاهداً ذا سكينةٍ ووقارٍ وحشمة, جواداً ممدوحاً(43).
* وجاء عن الحافظ السيوطيّ الشافعيّ تعريفه أنّ الحسن عليه السلام سبط رسول الله وريحانته, وأنّ مناقبه رضي الله عنه كثيرة(44).
* وفي (حِلْيته) كتب أبو نُعَيم الأصفهانيّ: فأمّا السيّدُ المحبَّب, والحكيم المُقرَّب, الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما, فله في معاني المتصوّفة الكلامُ المشرقُ المرتَّب, والمَقامُ المُونِقُ المهذَّب(45).
ذلك أنّ المتصوّفة افتقروا إلى المعاني العليا للتعبير عن العقائد, فلجؤوا إلى أهل البيت عليهم السلام يَسْتَقون منهم شيئاً من المعارف التوحيديّة والمعاني العرفانيّة. وقد كتب ابن أبي الحديد في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة:
وقد عرفتَ أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهيّ؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم, ومعلومه أشرف الموجودات, فكان هو أشرفَ العلوم. ومن كلامه (أي كلام الإمام عليٍّ) عليه السلام اقتُبِس, وعنه نُقل, وإليه انتهى, ومنه ابتدأ... ومن العلوم: علمُ الطريقة والحقيقة, وأحوال التصوّف, وقد عرفتَ أنّ أربابَ هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون, وعندَه يَقِفون, وقد صرّح بذلك: الشِّبْليّ, والجُنَيد, وسَرِيّ (بن المغلس السقطيّ), وأبو زيد البسطاميّ, وأبو محفوظ معروف الكرخيّ, وغيرهم. ويَكفيك دلالةً على ذلك الخِرْقةُ التي هي شعارهم إلى اليوم, وكونهم يُسنِدونها بإسنادٍ متّصلٍ إليه عليه السلام(46).
* وفيما كتبه الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير في حديثه حول بيعة أهل الكوفة للإمام الحسن عليه السلام:
ولو كانوا يعلمون لَعظّموا ما أنعَمَ الله به عليهم مِن مبايعتهِمُ ٱبنَ بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وسيّدَ المسلمين, وأحدَ علماء الصحابة وحلمائهِم, وذوي آرائهم, والدليلَ على أنّه أحد الخلفاء الراشدين..(47).
*وفي تعريف شموليّ, كتب عزّ الدين أبو الحسن عليّ, ابن الأثير: الحسن بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم ابن عبد مَناف القرشيّ الهاشميّ, أبو محمّد, سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وأُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّدة نساء العالمين, وهو سيّد شباب أهل الجنّة, وريحانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشبيهُه. سمّاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحسنَ وعقّ عنه يومَ سابعه, وحلق رأسه وأمر أن يُتصَدَّق بِزِنة شعره فضّة, وهو خامس أهل الكساء(48).
* وكتب ابن سعد اليافعيّ في (مرآة الجنان): ومناقب الحسن بن عليّ بالأنساب والاكتساب, والقرابة والنجابة, والمحاسن في الظاهر والباطن, معروفةٌ مشهورة, وفي تَعدادها غير محصورة. وكان مع نهاية الشرف والارتفاع, في غاية التلطّف والاتّضاع(49).
* وقال الحافظ المحدّث يوسف بن عبدالله بن محمّد بن عبد البَرّ القرطبيّ المالكيّ: وكان الحسن رضي الله عنه حليماً وَرِعاً فاضلاً, دعاه ورعُه وفضله إلى ترك المُلك والدنيا رغبةً فيما عند الله(50).
أي: حينما بلغ الأمر إلى اختيارين: التمسّكِ بالحكم وعليه تُسفَك دماء المسلمين وتُهتك حرماتهم بلا عائدةٍ نافعة, أو تركِه وبه تُحقَن دماؤهم وتُحفَظ حرماتهم حتّى تظهر الحقائق ويَعِيَ المسلمون تكاليفَهم إذا استيقظت الضمائر, وثارت الغَيرة على الإسلام, بعد أن يفهموا كيف اغتُصِبَت الخلافة الإلهيّة وظُلم أهلها أيَّ ظلمٍ عظيم!
* وفي مؤلَّفه (الأئمّة الاثنا عشر) كتب مؤرّخ دمشق شمس الدين محمّد بن طولون (ت ٩٥٣ هـ): روى (أي الحسن المجتبى عليه السلام) عن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أحاديث, وروت عنه عائشة وجماعاتٌ من التابعين... تُوفّي بالمدينة مسموماً.. وكان الحسن رضي الله عنه شبيهاً بالنبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم, سمّاه النبيّ.. وهو خامس أهل الكساء... وكان حليماً كريماً وَرِعاً, دعاه حلمُه وورعه إلى ترك الدنيا والخلافة لله تعالى... ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة(51).
ولم يكن الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه مِن أهل الدنيا يوماً ما أبداً حتّى يتركَها, وإنّما ترك الحكمَ حين نافسه عليه معاويةُ يريد الرئاسة الباطلة والحكومة المغتَصَبة, فترك ذلك له ليحفَظَ حرمات الإسلام, حتّى يفتضح المنافقون الذين تقمّصوا ثوب الإسلام!
* وفي (أعلامه) كتب خير الدين الزركليّ: كان الحسن عاقلاً حليماً, محبّاً للخير, فصيحاً مِن أحسن الناس منطقاً وبديهة. وكان معاوية يُوصي أصحابه باجتناب محاورة رجلَين, هما: الحسن بن عليّ, وعبد الله بن عبّاس؛ لقوّة بداهتهما..(52).
* هذا, وقد كتب الأستاذ عبد القادر أحمد اليوسف: لِتكُنْ للقارئ فكرةٌ مبدئيّة على أنّ الحسن بن عليٍّ وابنَ بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومَن تلاه من الأئمّة المعصومين, يعتبرون أنفسَهم أحقَّ مِن غيرهم, لا بل همُ المكلَّفون بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنشر الإسلام والمحافظة على السُّنن والشرائع المحمّديّة؛ لِما لهم مِن: وشائج القُربى, ونقاوة النَّفْس, وتَفهُّم التنزيل(53).
وقيل الكثير في الإمام الحسن الزكيّ وما يزال يُقال, وكُتِب الكثير فيه وما يزال يُدوَّن ويُبحث, حتّى تألّفت مكتبةٌ كبيرةٌ ضخمة يمكن أن تُسمّى بالمكتبة الحسنيّة التخصّصيّة, تضمّ مئات الكتب, فيها: المقالات والأبواب والفصول, بل والمجلّدات والدورات(54), تتحدّث حول شخصيّة الإمام المجتبى وفضائله ومناقبه وخصائصه ومعارفه, والآراء فيه والتصوّرات الخاصّة حوله وفقَ مباني الُمرتَئِين, ولكن:
ليس بالضرورة أنّ كلَّ مَن مَدَح الإمامَ الحسن عليه السلام أو أثنى عليه كان موافقاً موالياً, أبداً. نعم, هنالك مَن ذكروا الإمام ومجّدوه عن: علمٍ ومعرفة, وإيمانٍ وبصيرة, وعن ولاءٍ وتولٍّ له سلام الله عليه, ولكن هنالك الكثير ممّن ذكروه عن: إعجابٍ أو إنصاف, أو عن إقرارٍ أو اعتراف, وربّما لم يتحمّل بعضُهم إلّا أن يبوح بالحقيقة وقد أخذت منه مأخذَها فضاق بها صدرُه, واختنقت لها أنفاسه, فألقاها دون إرادته, ودون أن يَحسِب لها حساباً أنّ مقولته هذه هي حُجّةٌ حاكمةٌ عليه؛ لأنّ هذا الذي يمدحه ويُظهِر فيه إعجابَه به, هو نفسه الذي حاربه واتّهمه, أو تمرّد على إمامته وخالفه إلى مناوئه, أو لم يقبل ولايته ووصاية رسول الله له ـ على أقلّ الفروض ـ! فيكون قد وقع في التناقض والتعارض بين قوله وموقفه, وبين عقله الذي يثبّت له الحقيقة البيّنة وبين نفسه التي تخالف تلك الحقيقة وتعاندها وتغالطها وتتهرّب منها، وقد تحاربها.. عن جحودٍ مع علم, وعن إنكارٍ ـ أحياناً ـ لتعصّبٍ باطلٍ أو أحقادٍ قديمة!
وقد أدرجنا ما فيه تأكيدٌ على أفضليّة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام على أهل زمانه, وأحقّيّته بالإمامة من غيره, وعلى مظلوميّته في الوقت ذاته, مُثْبِتين أنّ هناك إجماعاً على فضائل الإمام الزكيّ وأفضليّاته, وأحقيّاته ومظلوميّاته.
وأخيراً.. لم يكن الشعراء بالمتخلّفين عن مدح الإمام الحسن السبط صلوات الله عليه, فقد نالوا شرف ذلك حينما جاشت مشاعرهم مُعجَبةً أو مُحبّةً أو موالية, ففاضت قرائحهم بقصائد اعتزّت بها الدواوين والمؤلّفات فحَفِظَتْها بين دفّاتها, بعد أن حَفِظتها الصدور بين جوانحها.
* من ذلك ما قاله عمرو بن أُحَيحَة يوم الجمل في خطبة الحسن ابن عليٍّ عليهما السلام مخاطباً إيّاه بعد خطبة عبد الله بن الزبير:

حَسَنَ الخيرِ ياشبيهَ أبيهِ * * * قُمتَ فينا مَقامَ خيرِ خطيبِ
قُمتَ بالخُطبةِ التي صَدَع اللهُ بها عن أبيك أهلَ العيوبِ
وكشفتَ القِناعَ فاتّضَحَ الأمرُ وأصلحتَ فاسداتِ القُلوبِ
لستَ كابنِ الزُّبيرِ لَجْلَجَ في القول وطأطأ عِنان فَسْلٍ مُريبِ
وأبى اللهُ أن يقوم بما قام به ٱبنُ الوصيِّ وٱبنُ النجيبِ
إنّ شخصاً بينَ النبيِّ لكَ الخيرُ وبينَ الوصيِّ غيرُ مَشوبِ(55)

* وقال السيّد رضا الموسويّ الهنديّ في رثاء الحسن السِّبط عليه السلام:

يا دَمعُ سُحَّ بِوَبْلِكَ الهَتِنِ * * * لِتَحولَ بينَ الجِفنِ والوَسَنِ
كيف العزاءُ وليس وَجْديَ مِن * * * فَقْدِ الأنيسِ ووحشةِ الدِّمَنِ
بل هذه قوسُ الزمانِ غَدا * * * منها الفؤادُ رَمِيّةَ المِحَنِ
وٱستَوطَنَت قلبي نَوائبُهُ * * * حتّى طَفِقتُ أَهيمُ في وطني
وأَذَلْتُ دمعاً كنتُ أحبِسُهُ * * * وأصونُ لُؤلُؤَه عنِ الثَّمنِ
ما الصبرُ سهلاً لي فأركبُهُ * * * فدَعِ الفؤادَ يَذوبُ بالحَزَنِ
ما للزمانِ إذا ٱستلَنْتُ قَسا * * * ورُمِيتُ مِنه بجانبٍ خَشِنِ
أَوَ كان ذَنْبيَ أن ألَنْتُ لَهُ * * * جَنْبي, ولولا الحِلمُ لم يَلِنِ
أَم دهرُنا كبَنيهِ عادتُهُم * * * يَجْزون بالسُّوأى عَنِ الحَسَنِ
أَم كلُّ مَن تُنْميهِ هاشمُ لا * * * يَنفكُّ في حربٍ معَ الزمنِ
أَوَ ما نظرتَ إلى صفيِّ بَني * * * مُضَرِ الكرامِ وخيرِ مُؤتمَنِ
شبلِ الوصيِّ وفَرخِ فاطمةٍ * * * وٱبنِ النبيِّ وسبطِهِ الحَسَنِ
كم نالَ بعدَ أبيهِ مِن غُصصٍ * * * يَطوي الضلوعَ بها على شَجَنِ
 * * *
حُشِدَت لِنُصرتهِ الجنودُ وهُم * * * بين البُغاةِ وطالِبِي الفِتنِ
ومحكِّمٍ ومُؤَمِّلٍ طمَعاً * * * ومُشكِّكٍ بالحقِّ لم يَدِنِ
حتّى إذَا ٱمتحنَ الجُموعَ لكي * * * يَمتازَ صفوُهُمُ مِن الأَجِنِ
نَقَضُوا مواثقَهم سِوى نَفَرٍ * * * نَصَحوا له في السِّرِّ والعَلَنِ
وبِما عليه ضلوعُهم طُوِيَتْ * * * مِن لاعجٍ للحقدِ مُكتَمَنِ
نَسَبوا إليه الشِّركَ وهْوَ مِن الْـ * * * إيمانِ مِثلُ الروحِ للبدنِ
جَذَبوا مُصلّاهُ, فِداهُ أبي * * * مِن كاظمٍ للغَيظِ مُمْتَحَنِ
قَسَماً بِسُؤْددِه ومَحْتِدِهِ * * * وبِحِلمِه المُوفي عَلَى القننِ
لو شاءَ أفناهُمُ بمَقْدرةٍ * * * لو لم تكنْ في الكونِ لم يَكُنِ
* * *
لَهْفي لَه مِن واجدٍ كَمِدٍ * * * مُستضعَفٍ في الأرضِ مُمتهَنِ
ما أبصَرَت عينٌ ولا سَمِعتْ * * * أُذْنٌ بِمَن ساواهُ في المِحَنِ
يَرعى عِداه بِعينِه ويَعي * * * شَتمَ الوصيِّ أبيهِ فِي أُذُنِ
ويَرى أذلَّ الناسِ شيعتَهُ * * * وأعزَّهم عَبّادةُ الوَثَنِ
وقدِ ٱرتدى بالصبرِ مُشتمِلاً * * * بالحِلمِ مُحتفِظاً عَلَى السُّننِ
حتّى سَقَوه السُّمَّ فاقتطَعُوا * * * مِن دَوْحِ أحمدَ أيَّما غُصُنِ
سُمّاً يقطِّعُ قلبَ فاطمةٍ * * * وَجْداً على قلبِ ٱبنِها الحَسَنِ
وهوى شَهيداً صابراً فهَوَتْ * * * حُزْناً عليهِ كواكبُ الدُّجَنِ
* * *
وتَجهّزَت بالجُندِ طائفةٌ * * * مُقتادةٌ لِلبغيِ في شَطَنِ
يا لِلورى لِصدورِ طائفةٍ * * * شُحِنَتْ من الشَّحناء والإحَنِ
أقصَتْ حشا الزهراءِ عن حَرَم الـْ * * * ـهادي وأَدْنَت مِنه كلَّ دَني
أفَسُبْعُ أثمانٍ تَضيقُ وقَدْ * * * وَسِعَ العِدى تِسعانِ مِن ثُمُنِ؟!
اَللهُ مِن صبر الحسينِ, بهِ * * * حاطت ذَوُو الأحقادِ والضَّغَنِ
تَركوا جَنازةَ صِنوِهِ غَرَضاً * * * لِلنَّبْلِ يُثبَت مِنه في الكَفَنِ
ويَصدُّه عنهُم وصيّتُهُ * * * حاشاه مِن فَشَلٍ ومن وَهَنِ
فمضى بهِ نحوَ البقيعِ إلى * * * خيرِ البقاعِ بأشرفِ المُدنِ
واراهُ والأرزاءُ مُورِيةٌ * * * بِحَشاه زَنْدَ الهَمِّ والحَزَنِ
ودعا وأدمُعُه قدِ ٱنحدَرَتْ * * * مِن أعيُنٍ نابَت عنِ المُزنِ
أيَطيبُ بَعدَك مجلسٌ ليَ أَمْ * * * عيشي الهَنيُّ, وقد فَقدتُ, هَني؟!
أَفديهِ مِن ثاوٍ بِحُفرتِهِ * * * مُستودَعٍ في الأرضِ مُرتَهَنِ(56)

* وقال السيّد محسن الأمين في رثاء الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:

أهاجَ شَجْوَك ربعٌ دارسُ الدِّمَنِ* * * فباتَ طَرْفُك مِنه فاقدَ الوَسَنِ
ربعٌ على رملةِ الدَّهناءِ غَيّرَهُ * * * مَرُّ الرياحِ وتَسكابُ الحَيا الهَتِنِ
أم هَل تذكّرتَ عهدَ الإلْفِ حينَ شَدَتْ * * * وِرْقُ الحَمائمِ أو غَنَّت على فَننِ
كلّا ولكنّما تَجري الدموعُ دماً * * * منّي, وحقَّ لها، حُزناً على الحَسَنِ
سِبطِ النبيِّ ٱبنِ مولى المؤمنينَ علىٰ‌ * * * شرعِ النبيِّ أبيهِ خيرِ مُؤتمَنِ
إمامُ حقٍّ مِن اللهِ العظيمِ لَهُ * * * رياسةُ الدِّينِ والدُّنيا على سُنَنِ
الزاهدُ العابدُ الأوّابُ مَن خلُصَتْ * * * للهِ نِيّتُه في السِّرِّ والعَلَنِ
والواهبُ المالَ لايَبغي عليهِ سِوى * * * ثوابِ بارئِهِ الرحمانِ مِن ثَمَنِ
وقاسَمَ اللهَ ما قَد كان يَملِكُهُ * * * مِنه ثلاثاً بلا خوفٍ ولا مِنَنِ
ومرّتينِ غدا مِن كلِّ ما ملَكَتْ * * * يَمينُه خارجاً في سالفِ الزَّمنِ
والقاصدُ البيتَ لم تَحمِلْه راحلةٌ * * * خمساً وعشرينَ، والنَحّارُ للبُدَنِ
وذُو المناقبِ لا يُحصي لها عدداً * * * يَراعُ ذِي فَطِنٍ أو قولُ ذي لَسِنِ
غيرَ الحسينِ وغيرَ السيّدِ الحسَنِ * * * نسلٌ لأحمدَ خيرِ الخَلقِ لم يَكُنِ
سبطانِ حبُّهما دِينٌ، وبُغضُهما * * * كفرٌ, وقالِيهِما للهِ لم يَدِنِ
رَيحانتا أحمدَ المختارِ قد جَنَيا * * * مِن روضِ فَضلٍ بأزهارِ الكمالِ جَني‌
فرعانِ قد بَسقا مِن دوحةٍ سُقيتْ * * * ماءَ النبوّة والأكوانُ لم تَكُنِ
أكرِمْ بِسبطَي رسولِ الله مَن رَقَيا‌* * * مِن ذِروةِ المَجدِ والعَليا إلَى القَنَنِ
* * *
وقال خيرُ الوَرى قولاً فأسمَعَهُ * * * لمّا دعا كلَّ ذي قابٍ وذي أُذُنِ:
اِبنايَ هذانِ دونَ الناسِ حُبُّهما * * * حُبِّي, ومَن أبغضَ السبطَينِ أبغضني
هُما الإمامانِ إن قاما وإن قَعَدا * * * بذاكَ جِبريلُ عن باريهِ أخبرني
أَوصى بعِترتِه الهادي وأكّدَ ما * * * أوصى, وحذّرَنا مِن غابرِ الفِتَنِ
خانَتْ عُهودَ رسولِ اللهِ أُمّتُهُ * * * فِيهم, وقد قَلَّ مَنْ للعهدِ لم يَخُنِ
لم يَبْغِ أجْراً له إلّا المودّةَ في الْـ * * * ـقُربى, فجازَوه بالبغضاءِ والإحَنِ
يا أُمّةَ السوءِ ما هذا الجزاءَ لَهُ * * * مِنكُم على ما لكُم أَسْدى مِن المِنَنِ
ضاعتْ دماءُ رسولِ اللهِ في مُضَرٍ * * * وفي ربيعةَ والأحياءِ مِن يَمَنِ
سِبطاهُ ما بينَ مسمومٍ ومُنجَدِلٍ * * * نهبَ الصوارمِ والعسّالةِ اللدنِ
وآلُه قُتِّلَت في كلِّ شارقةٍ * * * مِن البسيطةِ لم تُنصَرْ ولم تُعَنِ
صِينَت بناتُ البَغايا في مقاصرِها‌* * * لكنْ بناتُ رسولِ اللهِ لم تُصَنِ
 ثاراتُ بدرٍ ويومِ الفتحِ أدركَها * * * مِن آلِ طه بَنُو عَبّادةِ الوَثَنِ
* * *
لَهفي علَى الحسنِ الزاكي وما فَعَلتْ * * * به الأعادي وما لاقى مِن المِحَنِ
سقَتْه بَغياً نقيعَ السُّمِّ لا سُقِيَتْ * * * صوبَ الحَيا مِن غوادي عارضٍ هَتِنِ
فقطَّعَت كَبِداً للمصطفى ورَمَتْ * * * فؤادَ بَضعتِهِ الزهراءِ بالحَزَنِ
وأوسَعَتْ مِن عليٍّ قلبَه حُرَقاً * * * وغادَرَته رَهينَ الوجدِ والشَّجَنِ
وللحسينِ حنينٌ مِن فؤادِ شجىً * * * بالوجدِ مُضطرَمٍ بالحُزنِ مُرتَهَنِ
وهْيَ التي منعتْ مِن دفنِ جُثّتِهِ * * * عندَ النبيِّ وأبدَتْ كامِنَ الضَّغَنِ
مَن مِنه أَولى بقُربِ المصطفى, تَرِبتْ * * * أكفُّها ما جَنَت رِبحاً سِوَى الغَبَنِ
تُدْني البعيدَ إلَيهِ, والقريبُ له * * * تُنْئيهِ, والصبحُ عن نَصْبِ الدليلِ غَني‌
للهِ رُزءُ ٱبنِ بنتِ المصطفى فَلَقَد * * * أضحى له الصبحُ مِثلَ الفاحِمِ الدَّجِنِ
رُزْءٌ له هُدَّ رُكنُ الدِّينِ وٱنفصَمَتْ * * * مِنه العُرى, وٱكتسى بالذُّلِّ والوَهَنِ
رزءٌ أناخَ علَى الإسلامِ كَلْكلُهُ * * * فغالَه ومضى بالفَرضِ والسُّننِ
رزءٌ تَهونُ له الأرزاءُ أجمعُها * * * مِن عُظْمِه وهْوَ حتَّى اليومِ لم يَهُنِ
رزءٌ له حُرَمُ الجبّارِ في حَزَنٍ * * * وبعدَه حَرَمُ الجبّارِ لم يُصَنِ
 رزءٌ له مِن مِنىً تبكي مشاعرُها * * * وخَطْبُه نازلٌ بالبيتِ ذِي الرُّكَنِ
سَقَى البقيعَ ومَن ضَمَّ البقيعُ حَياً * * * يَهمي به في ثَراه صَيِّبُ المُزُنِ
* * *
يا آلَ أحمدَ لا يَنفكُّ رُزؤُكمُ * * * يُهيجُ لي ذِكرَ أشجانٍ تُؤَرِّقُني
ولستُ أَسلُوكمُ عُمرَ المَدى أبداً * * * حتّى يُفرَّقَ بينَ الرُّوحِ والبَدَنِ
أنتُم سفينةُ نوحٍ والنجاةُ بِكُم * * * وليسَ في البحرِ مِن مُنجٍ سِوَى السُّفُنِ
دِيني وِلاكمْ, وبعد الموتِ حبُّكُمُ * * * ذُخري, إذا صرتُ رَهنَ اللَّحدِ والكَفَنِ
حَمَلتُ عِبءَ ذنوبٍ جَمّةٍ، وسِوى * * * وِلاكمُ يومَ حَشري ليس يَنفعُني
اَللهُ أنزلَ فِيكم وَحْيَه، وعلى * * * ولائِكُم بُنِيَ الإسلامُ حينَ بُنِي(57)
* وقال الشيخ محمّد علي اليعقوبيّ في ذكرى ميلاد الإمام الحسن الزكيّ عليه السلام:
بِذِكراك يا ٱبنَ المصطفَى ٱبتهجَ الدهرُ * * * وقد مَلأَ الدنيا بميلادِك البِشْرُ
تَجلَّيتَ في أُفْقِ الإمامةِ نيِّراً * * * لَه عَنَتِ الشمسُ المنيرةُ والبدرُ
 بيومٍ بهِ شَطْرُ التهاني لأحمدٍ * * * وللدِّينِ والدنيا بِمَولدِهِ شَطرُ
بهِ المصطفى قد قَرَّ طَرْفاً وحيدرٌ * * * ونالَت بهِ آمالَها فاطمُ الطُّهرُ
وعَمَّ بِبُشراهُ السَّما فتَنزّلَتْ * * * تُهنّي رسولَ اللهِ أملاكُها الغُرُّ
تُحيِّيهِ حتّى مطلعِ الفجرِ بِالهَنا * * * فأسفَرَ عن نورِ الهدى ذلك الفجرُ
وتاهَ أمينُ اللهِ جِبريلُ يَزدهي * * * بخدمتِهِ فخراً، وحَقَّ له الفَخْرُ
تَهلَّلَ شهرُ اللهِ فيهِ كأنَّما * * * بهِ العيدُ ليس الفِطرُ عِيداً ولا النَّحْرُ
على ألفِ شهرٍ ليلةُ القَدْرِ فُضِّلَتْ * * * وكلُّ ليالي الشهرِ فيهِ هيَ القَدْرُ
* * *
وليدٌ حَباهُ اللهُ بالشرفِ الذي * * * يَضوعُ ليومِ الحشرِ مِن ذِكرِه النَّشْرُ
تكوّنَ مِن سِرِّ الإلهِ وقُدسِهِ * * * فَلِلّهِ في إبداعِ تكوينِهِ سِرُّ
فيا أوّلَ السِّبطَينِ يا مَن صفاتُهُ * * * يُقصِّر عن إدراكِها الوهمُ والفِكرُ
ورابعَ أصحابِ الكِسا حينَ ضَمَّهُم * * * وما تحتَه زيدٌ سِواهُم ولاعَمْرُو
إذا فاضتِ السَّبعُ الزَّواخرُ لم تكنْ * * * تُقاسُ بها في الجُودِ أنمُلُه العَشْرُ
فَكَم مِن قُرونٍ قد تَوَلَّت وأعصُرٍ * * * ولم يَخْلُ مِن ذِكراهُ قَرنٌ ولا عصرُ
* * *
كريمُ بَني الوحيِ الذي غَمَر الورى * * * وأغنى عُفاةَ الناسِ نائلُه الغَمرُ
 هو المجتبَى الزاكي نَجاراً ومَحتِداً * * * عن الرِّجْسِ في تطهيره صَدعَ الذِّكْرُ
فكَمْ مِن نَدى كفَّيهِ في الَجدْب أخصَبَتْ * * * خمائلُ منها أينَعَ الحمدُ والشكرُ
وذُو نجدةٍ فيه الهدى شَدَّ أَزْرَهُ * * * وفي حُبِّهِ تُمحَى الخطيئاتُ والوِزْرُ
تَربّى بحِجْرِ المصطفى وبِبيتِهِ * * * فأعظِمْ ببيتٍ دونَه البيتُ والحِجْرُ
* * *
بِنفسي إماماً سالَمَ القومَ صابراً * * * على غُصصٍ عن بعضِها يَنفَد الصبرُ
وكابَدَ مِن جَورِٱبنِ صخرٍ وحزبِهِ * * * عَناً لو يلاقي الصخرَ لَانصَدعَ الصخرُ
وما مَدَّ عن ذُلٍّ يَدَيهِ مُصافحاً * * * يداً لِابنِ هندٍ كان مِن شأنِها الغَدرُ
ولكنْ رأى حقنَ الدماءِ فريضةً * * * على حين خان الصحبُ والقومُ قد فَرُّوا!
وليس لَديهِ مِن ذوي الصِّدقِ والوفا‌ * * * سوى فئةٍ قَلَّت وأعداؤُها كُثْرُ
وذاك هو السِّلمُ الذي أمَرَ الهدى * * * بهِ لم تُدنِّسْه الخيانةُ والمَكْرُ
وليس سلاماً ما يكونُ وراءَهُ * * * دَمارٌ, كما تحت الرمادِ ٱختفَى الجَمرُ
* * *
فيَا ٱبنَ الأُلى قد جاء في الذِّكرِ مَدحُهم * * * فأنّى يُوفّي حقَّها النَّظْم