المحتويات
2015/08/29
 
7166
الرحمة الحسَنيّة - الأخلاق الحَسنيّة (9)

الرحمة الحسَنيّة - الأخلاق الحَسنيّة (9)

الرحمة الحسَنيّة

سلسلة الأخلاق الحَسنيّة (9)

تأليف: جعفر البياتي
الناشر: العتبة الحسينية المقدسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية

إشارات
إنّ الأصل في هذا الوجود الذي ابتدعه الله تعالى بحكمته ومشيئته هو الرحمة، حيث قال جلّ مِن قائل: (وَلَو شاءَ ربُّكَ لَجعَلَ الناسَ أُمّةً واحدةً ولا يَزالُونَ مُختَلِفينَ * إلّا مَن رَحِمَ ربُّك، ولِذلكَ خَلَقَهُم، وتَمَّتْ كلمةُ ربِّكَ..)(1)، قيل في تفسير هاتَينِ الآيتين الشريفتين: (ولا يَزالُونَ مُختلِفِين) أي الناس، يُخالف بعضُهم بعضاً في الحقّ أبداً، إلّا الذين رَحِمَهمُ الله، فإنّهم لا يختلفون في الحقّ ولا يتفرّقون عنه، والرحمة هي الهداية الإلهيّة كما يُفيده قوله تعالى: (فَهَدَى اللهُ الَّذينَ آمَنُوا لِـمَا ٱختَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذنِه)(2).. فكأنّ المراد بقوله: (إلّا مَن رَحِم) إلّا مَن هَداه الله تعالى من المؤمنين(3).
والرحمة الإلهيّة هي عهدٌ وثيق بشّر الله تبارك وتعالى به عبادَه، حيث قال في وحيه الكريم مُخاطباً حبيبَه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ (وإذا جاءَكَ الَّذينَ يُؤمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَليكُم كَتَبَ ربُّكُم عَلى نفسِهِ الرَّحْمَةَ..)(4)، قيل: المراد بكتابة الرحمة على نفسه جلّ وعلا إيجابُها على نفسه، أي استحالة انفكاك فعله عن كونه مُعَنْوَناً بعنوان الرحمة(5).
ـ (قُلْ لِـمَنْ ما في السَّماواتِ والأرضِ قُلْ لِله، كَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ..)(6)، قيل: الكتابة هي الإثبات والقضاء الحَتْم، وإذا كانت الرحمة ـ وهي إفاضة النعمة على مستحقّها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تَليق به ـ من صفاته تعالى الفعليّة، صَحَّ أن تُنسَب إلى كتابته تعالى، فيكون المعنى: أوجَبَ على نفسه الرحمةَ وإفاضةَ النِّعَم وإنزالَ الخير لِـمَن يستحقّه(7).
والهداية لها أهلها، مع أنّ رحمة الله تعالى واسعةٌ عظيمة، ميسورةٌ موفورة، كتب الإمام محمّد الباقر عليه السلام إلى سعد الخير: (.. وٱعلموا أنّ الله تبارك وتعالى الحليمُ العليم، إنّما غضبُه على مَن لم يَقبلْ منه رِضاه، وإنّما يَمنَع مَن لم يقبل منه عَطاه، وإنّما يُضِلّ مَن لم يقبل منه هُداه ... وكَتَب على نفسه الرحمة، فَسَبَقَت قبلَ الغضب، فتمّت صدقاً وعدلاً..)(8).
هذه بشارةٌ كبرى.. أنّ الله جَلّ وعلا كتب على نفسه الرحمة، فَلْيَطْمئنَّ عبادُه وليهرعوا إليه بالطاعة والتوبة والدعاء، فإنّهم ـ لاشَكَّ ولا ريبَ ـ مرحومون. والبشارة الأخرى ـ وهيَ عظمى أيضاً وكبرى ـ أنّ رحمة الله تعالى واسعة سَعةً لا تُوصَف بل لا تُتَصَوَّر.. والله تعالىٰ ـ وهو الرحمن الرحيم ـ يقول في محكم كتابه العظيم مخاطباً رسولَه الكريم: ـ (..فَقُلْ ربُّكُم ذُو رحمةٍ واسعة..)(9)، وهذه العبارة القرآنيّة الشـريفة جاءت بين عبارتين: الأُولى ـ (فإنْ كَذَّبُوك)، والثانية ـ (ولا يُرَدّ بَأْسُه عَنِ القومِ المجرمين)، ففي الآية أمرٌ بإنذار المكذِّبين وتهديدِهم إن كذّبوا بالبأس الإلهيّ الذي لا مَرَدَّ له، لكن لا ببيانٍ يُسلِّط عليهم اليأسَ والقنوط، بل يشوبه بعض الرجاء، ولذلك قدّم عليه قولَه: (فَقُلْ ربُّكُم ذُو رحمةٍ واسعة)(10). وفي دعاء الجوشن الكبير المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نقرأ هذه العبارات المباركة في إحدى فقراته الشريفة: (يا مَن لا يُرجى إلّا فَضلُه، يا مَن لا يُسأَلُ إلّا عَفوُه، يا مَن لا يُنظَر إلّا بِرُّه، يا مَن لا يُخاف إلّا عدلُه، يا مَن لا يَدوم إلّا مُلكُه، يا مَن لا سُلطانَ إلّا سلطانُه، يا مَن وَسِعَت كلَّ شيءٍ رحمتُه، يا مَن سَبَقَت رحمتُه غَضبَه، يا مَن أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلمُه، يا مَن ليس أحدٌ مِثْلَه)(11).
* وفي كتاب الله عزّ وجلّ أيضاً قوله تعالى: (عَذابي أُصِيبُ بهِ مَن أَشاءُ ورَحْمَتي وَسِعَتْ كلَّ شَيء..)(12)، قال السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ:
لقد قيّد الله سبحانه إصابةَ عذابه بقوله: (مَن أشاء) دونَ سَعةِ رحمته؛ لأنّ العذاب إنّما ينشأ مِن اقتضاءٍ مِن قِبَلِ المعذَّبين لا مِن قِبَله سبحانه، قال تعالى: (ما يَفعَلُ اللهُ بِعَذابِكُم إن شَكَرْتُم وآمَنتُم)(13).. فلا يُعذِّب الله سبحانه باقتضاءٍ من ربوبيّته، ولو كان كذلك لَعذّب كلَّ أحد، إنّما يعذّب بعضَ مَن تعلّقت به مشيئته، ولا تتعلّق مشيئته إلّا بعذاب مَن كفروا نِعمَه، فالعذاب إنّما هو باقتضاءٍ مِن قِبل المعذَّبين لِكُفرهم، لا مِن قِبله.
على أنّ كلامه سبحانه يُعطي أنّ العذاب إنّما حقيقتُه فقدان الرحمة، والنقمة عدمُ بذل النعمة، ولا يتحقّق ذلك إلّا لعدم استعداد المعذَّب بواسطة الكفران والذنب لإفاضة النعمة عليه وشمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة هو عدمُ وجود سبب الرحمة.
وأمّا سعة الرحمة وإفاضة النعمة، فمِن المعلوم أنّه من مقتضياتِ الأُلوهيّة، ولوازمِ صفة الربوبيّة..(14).
* وفي أدب الدعاء ورد قوله تعالى: (الَّذينَ يَحمِلُونَ العَرشَ ومَن حَولَه يُسبِّحُونَ بِحَمْدِ ربِّهِم ويُؤمنونَ به ويَستَغفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رحمةً وعِلْماً فاغفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وٱتَّبعُوا سبيلَك وَقِهِم عَذابَ الْـجَحيم..)(15)، قال السيّد الطباطبائيّ: الآية (ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رحمةً وعِلْماً) حكايةُ متن استغفارهم، وقد بدأوا فيه بالثناء عليه تعالى بِسَعة الرحمة والعلم، وإنّما ذكروا الرحمة وشفعوها بالعلم لأنّه برحمته يَنعم على كلّ محتاج، فالرحمة مبدأ إفاضةِ كلِّ نعمة، وبعلمه يعلم حاجةَ كلِّ محتاجٍ مستعدٍّ للرحمة(16).
* وأمّا الأحاديث المباركة الواردة في الرحمة الإلهيّة فهي وفيرة، منها:
ـ قول أمير المؤمنين عليه السلام: (يا أصبغ، لَئِن ثبتت قدمُك، وتَمّت ولايتُك، وانبسَطَت يدُك، فاللهُ أرحمُ بك من نفسِك)(17).
ـ وقيل للإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام: إنّ الحسن البصريّ قال: ليس العَجَب مِمّن هَلَك كيف هلك، وإنّما العَجَب ممّن نجا كيف نجا! فقال عليه السلام: (أنا أقول: ليس العَجَبُ مِمَّن نجا كيف نجا، وإنّما العَجَبُ مِمَّن هَلَك مع سَعةِ رحمة الله!)(18).
ـ وجاء عنه عليه السلام أيضاً قوله: (لا يَهلَك مؤمنٌ بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريك له، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسعة رحمة الله عزّ وجلّ)(19).
ـ ورُويَ عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنّه قال: (فما ظنُّك بالرؤوفِ الرحيم الذي يَتوَدَّد إلى مَن يُؤذيه بأوليائِه، فكيف بِمَن يُؤذى فيه؟! وما ظنُّك بالتوّابِ الرحيم الذي يتوبُ على مَن يُعاديه، فكيف بِمَن يترضّاه ويختار عداوةَ الخَلْق فيه؟!)(20).
التفضيل الإلهيّ والسيادة الأعلى
مِن بعد هذا كلّه أردنا أن نقول: إنّ رسول الله وآله صلوات الله عليه وعليهم قد تخلّقوا بأخلاق الله تبارك وتعالى، فكانت منهم الرحمة وَسِعَت الناسَ جميعاً، تدعوهم إلى الهداية والنجاة، وإلى التقوى والفوز برضوان الله الأكبر، وإلى طاعة الله وعبادته ومحبّته، كلُّ ذلك بالحكمة والموعظة الحسَنة، وقد تطلّب ذلك صبراً جميلاً وحِلماً كبيراً، ومُداراةً طويلة، ورِفْقاً وسماحةً وعفواً، وخصالاً طيّبةً تطلب الخير للناس وتحرص على سعادتهم جميعاً.
وقد أعطاهم الله جلّ وعلا ذلك، ومزيداً على ذلك، فكانوا سادة الخَلْق حَسَباً ونَسَباً، وما أبلغَ ما ردّ به الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما على مَن أساء! كتب الخوارزميّ الحنفيّ أنّه:
رُويَ أنّ يزيد بن معاوية أمر بمِنبرٍ وخطيب ليذكر للناس مساوئ ...!! فصعد خطيب المنبر فأكثر الوقيعة في عليٍّ والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين: (وَيْلَك أيُّها الخاطب! اِشتريتَ رضى المخلوق بسَخَط الخالق! فتَبّوأْ مقعدَك من النار). ثمّ صعد المنبر فحَمِد الله وأثنى عليه، فقال في خطبته:
(أيُّها الناس، أُعطِينا ستّاً، وفُضِّلنا بسبع: أُعطينا العِلمَ والحلمَ والسماحة، والفصاحة والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلنا بأنّ منّا المختارَ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، ومنّا الصدِّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سيّدا شبابِ أهلِ الجنّة..)(21).
ومن هؤلاء الذين فضّلهم الله تعالى على الخَلق بالحِلم: الإمامُ الحسن المجتبى عليه السلام، الذي عَرّفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة، إذ هو أوّل مولودٍ لسيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخِرين، ولسيّد الوصيّين أمير المؤمنين، وأول سبطٍ لسيّد الأنبياء والمرسَلين، ويعني ذلك أنّه صاحب أقدس نَسَبٍ وأشرفه، فضلاً عن أسمى حَسَبٍ وأكرمه(22)، فهو موصوف على لسان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هكذا:
* عن سعيد بن سعيد، أنّ أبا هريرة قال: إنّي سمعتُ رسول الله يقول ـ أي في الحسن عليه السلام ـ: (إنّه لَسيّد)(23)، قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبيّ.
* وعن أبي إسحاق قال: قال عليٌّ عليه السلام وقد نظر إلى وجه ابنه الحسن عليه السلام: (إنّ ٱبني هذا سيّد كما سمّاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم)(24).
* وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جاءني مَلَكٌ من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبل ليلتي هذه، فاستأذن ربَّه عزّ وجلّ أن يُسلّم علَيّ، فبشّرني أنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، وأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة)(25).
* وعن جابر الأنصاريّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سَرَّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة، فَلْيَنظرْ إلى الحسن بن عليّ)(26).
وتلك هي القداسة السببيّة، وكذلك النسبيّة، وهي السيادة الحسبيّة، وقد تأتّت عن أسباب إلهيّة، انعكست في طاعات وعبادات، وأخلاقٍ طيّبةٍ نبيلة، منها الرحمة، ومن الرحمة بالناس: الإرفاق بحالهم، والإصلاح لشؤونهم، والحفاظ على شتاتهم بعد تصدّعهم وتفرّقهم وتحيّرهم. وقد كان ذلك مرهوناً بالصلح الذي أبرمه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بطلبٍ من معاوية بن أبي سفيان، بل كان ذلك عن إنباءٍ من النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما أجمع الرواة عليه، حيث جاء:
* عن عبد الرزّاق بن همام الصنعانيّ (ت ٢١١ هـ) بسنده عن ابن سيرين، عن أبي بكرة قال: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُحدّثنا يوماً والحسنُ بن عليٍّ في حِجْره، فيُـقْبِل على أصحابه فيُحدّ ثهم، ثمّ يُقْبل على الحسن فيُقبّله، ثمّ قال: (اِبني هذا سيّد، إن يَعِشْ يُصلِحْ بين طائفتَينِ من المسلمين)(27).
* وعن أحمد بن حنبل (ت ٢٤١ هـ) بسنده عن المبارك عن الحسن البصـريّ عن أبي بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بالناس وكان الحسن بن عليّ يَـثِب على ظهره إذا سجد، ففعل ذلك غيرَ مرّة، فقالوا له: واللهِ إنّك لَتفعلُ بهذا شيئاً ما رأيناك تفعله بأحد! قال المبارك: فذكر شيئاً ثمّ قال: (إنّ ابني هذا سيّد، وسيُصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتَينِ من المسلمين). وفي روايةٍ أخرى أوردها ابن حنبل أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّه ريحانتي من الدنيا، وإنّ ٱبني هذا سيّد، وعسى الله تبارك وتعالى أن يُصلح به بين فئتَينِ من المسلمين)(28).
* وعن البخاريّ (ت ٢٥٦ هـ) بسنده عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يُقْبل على الناس مرّةً وعلى الحسن أخرى، ويقول: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ اللهَ أن يُصلحَ به بين فئتَينِ عظيمتينِ من المسلمين)(29).
* وعن الترمذيّ (ت ٢٩٧ هـ)، عن أبي بكرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صَعِد المنبر فقال: (إنّ ٱبني هذا سيّد، يُصلح اللهُ على يَدَيه بينَ فئتينِ عظيمتين)(30).
* وعن النَّسائيّ (ت ٣٠٣ هـ)، عن ابن عبّاس، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضمّ الحسنَ إلى صدره وقبّله وقال: (إنّ ٱبني هذا سيّد، لعلّ اللهَ يُصلح به بين فئتينِ من المسلمين)(31).
* وعن ابن عبد ربّه (ت ٣٢٨ هـ) قال: في بعض الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن يلعب بين يديها، فقال لها: (إنّ الله تعالى سيُصلح على يَدَيِ ٱبنِكِ هذا بين فئتينِ عظيمتين من المسلمين)(32).
* وعن الطبرانيّ (ت ٣٦٠ هـ) بإسناده عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضمّ إليه الحسنَ بن عليٍّ رضي الله عنه فقال: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ الله عزّ وجلّ أن يُصلح به بين فئتَين من المسلمين)(33). وفي روايةٍ أخرى نقلها عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولَيُصلِحنّ الله به بين فئتينِ من المسلمين)(34).
* وعن الطبريّ الإماميّ (من علماء القرن الرابع الهجريّ) بإسناده عن كثير بن سَلَمة قال: رأيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخرج من صخرةٍ عسلاً ماذيّاً (أي أبيض)، فأتيتُ رسولَ الله فأخبرتُه، فقال: (أتُنكرون لِابني هذا؟! إنّه سيّدٌ ٱبنُ سيّد، يُصلح الله به بين فئتين..)(35).
* وعن الخطيب البغداديّ (ت ٤٦٣ هـ) بسنده عن جابر الأنصاريّ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اِبني هذا سيّد، وسيُصلح الله به بين فئتينِ من المسلمين عظيمتين)(36).
* وعن الطبرسيّ الفضل بن الحسن (من أعلام القرن السادس الهجريّ) عن عبد الله بن بُرَيدة، عن ابن عبّاس قال: انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادى على باب فاطمة ثلاثاً فلم يُجِبْه أحد، فمال إلى حائطٍ (أي بستان) فقعد فيه، وقعدتُ إلى جانبه، فبينا هو كذلك إذ خرج الحسن بن عليّ قد غُسل وجهه وعُلِّقت عليه سبحة، قال: فبسط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يديه ومدَّهما، ثمّ ضمّ الحسنَ إلى صدره وقبّله وقال: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ الله عزّ وجلّ يُصلح به بين فئتَينِ من المسلمين)(37).
* وعن الخوارزميّ الحنفيّ (ت ٥٦٨ هـ) عن أبي بكر (هكذا ـ وربّما: أبي بكرة) أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو على المنبر: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يُصلحَ به بين فئتينِ من المسلمين)(38).
* وعن الحافظ ابن عساكر الدمشقيّ الشافعيّ (ت ٥٧١ هـ) عن مبارك بن فُضالة، عن الحسن البصريّ، عن أبي بكرة، قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ (إنّ ٱبني هذا سيّد، ويُصلح الله به بين فئتَين مِن المسلمين).
ـ (إنّ ٱبني هذا سيّد، وسيُصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتينِ من المسلمين).
ـ (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ الله تعالى أن يُصلحَ به بين فئتين عظيمتينِ من المسلمين)(39).
* وعن السيّد ابن طاووس (ت ٦٦٤ هـ) قال: روى الحميديّ في كتاب (الجمع بين الصحيحين) في مسند أبي بكرة بقيع بن الحرث قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... يقول: (إنّ ٱبني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يُصلحَ به بين فئتَينِ عظيمتينِ من المسلمين)(40).
* وعن الإربلّي (ت ٦٩٢ هـ) عن أبي بكرة، مرّت روايته(41).
* وعن المحبّ الطبريّ الشافعيّ (ت ٦٩٤ هـ) عن أبي بكرة، كذلك مرّت روايته(42).
* وعن الشبلنجيّ الشافعيّ (ت ق ١٣ هـ)، عن البخاريّ(43).
كذلك رواه: البدخشانيّ في (نُزُل الأبرار: ٩٧)، والگنجيّ الشافعيّ في (كفاية الطالب: ٢٤٠)، وابن أبي جمهور في (غوالي اللّآلي ١: ١٠٢ / ح ٣٠ و٢٢٥ / ح ١١٣ ـ بتفاوت يسير)، وابن المغازليّ الشافعيّ في (مناقب عليّ بن أبي طالب: ٣٧٢ / ح ٤١٩ ـ باختصار)، وغيرهم كثير..
مؤشِّرات
بعد هذا ماذا نستطيع أن نفهم من هذا الحديث الشـريف يا ترى؟ لعلّنا نستطيع أن نقول بأنّ من دلالاته ـ ربّما ـ:
أوّلاً: أنّه تكرّر عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرّة وفي أكثر من موقف، لأهمّيّته.
ثانياً: أنّه جاء في معرض المدح والثناء، وبيان بعض فضائل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: النسَبيّة، والحسَبيّة، فهو صلوات الله عليه سيّدٌ نَسَباً: مُنتمٍ إلى أشرف أصل، وأزكى نسل، وسيّدٌ حَسَباً: إذ هو إمامٌ مفترض الطاعة واجب الاتّباع، فيجب أن يسود العباد إمامةً وحاكميّة.. وقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال فيه وفي أخيه الحسين السبط عليهما السلام: (اِبنايَ هذانِ إمامانِ قاما أو قَعَدا)(44)، فإمامتهما ثابتة لهما من الله تعالى تنصيباً، ومن رسول الله تبليغاً، سواءً صالَحَ الإمامُ الحسن أم حارب، وكذا أخوه السبط أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليهما.
ثالثاً: أنّ الحديث الشريف يُشير إلى الإصلاح، لا إلى المصالحة، وكأنّ الذي سيقوم به الإمام الحسن الزكيّ سلام الله عليه هو إصلاح أحوال المسلمين من خلال حقن دمائهم وتوفير السلامة لهم، رحمةً بهم، وإمهالاً لهم، فقد وجدوا في أنفسهم: هواناً وضَعَةً وضَعفَاً وخَوَراً ونفاقاً وتعلّقاً شديداً بالدنيا.. فلم ينهضوا مع إمام زمانهم بل خذلوه، بل هدّدوه أن يسالم أو يُسلَّم إلى عدوّه، فكان لابدّ من الهدنة فإنّها أسلم على حياتهم وبقايا دينهم إن بقيَ منه شيء أو استُبقي عليهم!
رابعاً: أنّ من سَترِ الله على عباده أن سمّى مَن تسمّى بالإسلام مسلمين، وقد تظاهروا بهذا الدين وهم يُخالفونه في مبادئه وأصوله وفروعه، فجاءت رحمةُ الله الرؤوف الرحيم تُغطّي عليهم عيوبهم بما تضفي عليهم لقب المسلمين، لتحفظ كرامتَهم، وتُمضـيَ معاشرتهم، وتيسّـر معاملتَهم وتعاملَهم فيما بينهم.
• كتب السيّد مرتضى الحسينيّ الفيروز آباديّ ـ بعد أن أورد جملةً من الأحاديث النبويّة التي تَنسِب إلى الإمام الحسن عليه السلام: السيادة، والإصلاح ـ: المراد من الفئتَين العظيمتين من المسلمين في الأحاديث المتقدّمة ـ وقد أصلح الله تبارك وتعالى بينهما بالحسن بن عليٍّ عليهما السلامـ: أهلُ الكوفة أصحاب الإمام الحسن وأصحاب أبيه عليهما السلام، وأهل الشام أصحاب معاوية بن أبي سفيان الفئة الباغية بنصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر المشهور ... فإنّ لفظ المسلم، كما يُطلَق على المؤمن فكذلك يُطلَق على المنافق والباغي والخارجيّ، ونحو ذلك من الطوائف الضالّة المنتحلة للإسلام ـ كما لا يخفى(45).
خامساً: أنّ الصلح والإصلاح والمصالحة مفرداتٌ ثبّتها الإسلام في كتاب الله وسُنّة نبيّه، فالله جَلّ وعلا هو القائل: (وإنْ طائفتانِ مِنَ المؤمنينَ ٱقتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَينَهما، فإنْ بَغَت إحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الّتي تَبغي حتّى تَفِيءَ إلى أمرِ الله، فإنْ فاءَتْ فأصْلِحُوا بَينَهما بالعدلِ وأقْسِطُوا، إنّ اللهَ يُحبُّ المُقْسِطين * إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ فأصْلِحُوا بينَ أَخَوَيكُم، وٱتّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُرحَمون)(46).
وقد أراد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أن يَرحَمَ هذه الأُمّة بدعوتها إلى الحقّ والإسلام الذي أراده الله عزّ وجلّ وجاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فأبت هذه الأمّة إلّا التنكّب عن الطريق. وأراد عليه السلام أن يُزيل طاغية الشام الذي جعل أموال الناس بينه وبين أسرته دُوَلاً، وعبادَ الله عبيداً خَوَلاً، فأبت كذلك إلّا تخاذلاً وانخداعاً وتمرّداً على إمام الحقّ وانجرافاً مع مشتري الضمائر ومحرّفي الكتاب والسنّة! فبقيَ الإصلاح الوحيد هو الصُّلح أو الهدنة المشروطة، وتلك رحمة الإمام الحسن بمَن خذل وتخادل، وتمرّد وعاند، وهبط وتسافل!
وهنالك لدى أهل البيت عليهم السلام تكاليفهم وأسرار مواقفهم، فَهُم: ساسة العباد، وأركان البلاد، والأئمّة الدعاة، والقادة الهداة، والسادة الولاة، والذادة الحماة، وأهل الذِّكْر، وأولو الأمر، وبقيّة الله وخيرَتُه، وحزبُه وعَيبة علمه، وحجّتُه وصراطه، ونوره وبرهانه.. فَهُم أدرى بالمصالح والعواقب، وقد جعلهم الله تبارك وتعالى خلفاءَه في أرضه، أئمّةً راشدين، مَهْديّينَ معصومين، مطيعينَ له قَوّامين بأمره، عاملين بإرادته، وقد ارتضاهم جَلّ وعلا لدِينِه، واختارهم لسرّه، وخَصّهم ببرهانه، وأيّدهم بروحه، ورَضِيهَم خلفاءَ في أرضه، وحُجَجاً على بريّته، وشهداءَ على خَلْقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلّاءَ على صراطه..(47).
لذلك كان صلح الإمام الحسن عليه السلام ـ كما عُرِف وعُرِّف ـ رحمةً من رحمات الله تعالى، أُنقذت به معالم الإسلام، وحُفِظت أرواح المسلمين وبقاياهم المتصدّعة. ولم يكن ـ أبداً أبداً ـ تنازلاً أو تنزّلاً للظالمين الطغاة العصاة.
وهنا لا بأس أن نُورد بعض التعليقات على عجالة:
1. كتب الصلّابيّ تحت عنوان (سيادته):
لقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانةَ هذا الإمام وسيادتَه وجلالة قَدْره، على مرأىً ومسمعٍ من الناس في غير مرّة، وقد تواترت الروايات بقوله في الحسن: (إنّ ابني هذا سيّد). قال ابن عبد البَرّ: وتواترت الآثار الصحاح عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال في الحسن بن عليّ: (إنّ ٱبني هذا سيّد، وعسى اللهُ أن يُبقيَه حتّى يُصلح بين فئتَينِ عظيمتين من المسلمين)(48)... وعن أبي سعيد الخُدْريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)(49).
وقد نقل إلينا خبرَ سيادة الحسن والحسين في الجنّة جمعٌ غفيرٌ من الصحابة، وما ذلك إلّا لإعلان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك مرّةً بعد مرّة، أو في محافل جامعة. وقد أثبتت الأيّام، ومرور الشهور والأعوام، على رسوخ صفة السيادة في الحسن، وحتّىٰ بلغت ما بلغت في توفيق الله له في عقد الصلح، وجمعِ الأُمّة على كلمةٍ سواء، فقد كان الحسن سيّداً جليلاً، ويعلّمنا الحسنُ بأنّ السيادة لا تكون بالقهر وسفك الدماء، أو إهدار الأموال والحرّيّات، بل السيادة بصيانتها، فصُلحُه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه ذروة السيادة التي لا يستطيعها مَن فكّر بالقوّة وهو يملك طرفاً.
وقد صالح الحسنُ معاوية وحولَه عليه السلام الألوف، فيهم مَن هو طامعٌ مسدود، ولكن فيهم الكثير الكثير من المخلصين الأوفياء. فما أراد أن تُراقَ بسببه قطرة دم، وإنّ الرئاسة إن لم تكن لصيانتها وحياطتها وترقيتها فهي نوعٌ من الطاغوت الأعمى والتهوّر الأحمق، والمغامرة التي تجلب معها الدمار والخراب، والإذلال واليَباب..(50).
على أنّ معاوية كان مستعدّاً لإراقة دماء المسلمين ولو كانوا آلافاً، مِن أجل أن يضمن لنفسه مُلكَه الذي سرقه من المسلمين، وحُكمَه الذي اغتصبه من أهل البيت الميامين، لأجل رئاسته الباطلة على الناس. ولذلك صالحه الإمام الحسن عليه السلام ليسلم على حرمة الدماء من أن تُهدَر ثمّ تبقى الأمور على حالها إن لم تَأُل إلى الأسوأ.
أجل.. لقد صالح الإمام الحسن عليه السلام لأنّه لم يهدف إلى سلطةٍ يضحّي المتسلّطون من أجلها بدماء شعوبهم، ولم يهدف إلى رئاسة تخلّف جماجمَ الأبرياء، ولم يطلب سيادة وهو سيّد شباب أهل الجنّة، فإنّما للقتال أسبابه وشروطه، وإلّا فالصلح أَولى وأسلم للأمّة ولدينها.
٢. في البَدْء دعا الإمام الحسن سلام الله عليه جيشه وأنصاره إلى الاتّحاد والتماسك، والتهيُّؤ إلى قتال المنافقين الغاصبين من هذه الأمّة، فناشد جنوده وحثّهم، وخطب فيهم كما خطب أمير المؤمنين عليه السلام، قائلاً لهم: (إنّه لم يجتمع قومٌ قَطُّ على أمرٍ واحدٍ إلّا اشتدّ أمرُهم، وٱستَحْكَمَت عُقدتُهم، فاحتَشِدوا في قتلِ عدوِّكُم معاويةَ وجنودِه، ولا تَخاذَلوا..)(51). لكنّ القوم لم تنهض بهم همّة، بل لم تُحرّك ضمائرَهم غَيرة، ولم يهتف فيهم هاتف لطاعةِ الإمام الحسن وجهادٍ بين يديه.
٣. أصبح الإمام الحسن عليه السلام بين أمرَين مُرَّين: بين تَخاذُل الأصحاب، ومقتلة الأحباب. ثمّ إذا حصل النزال أُتْلِفَتِ الأرواح المخلصة دون جَدوى، وانعزلت الفِرَق المتخاذلة، واستولت الجماعة المنافقة.. ولم تأتِ الدماء هنا بثمرةٍ للإسلام ولا للمسلمين، فيكون النصـر لإبليس وجنوده وأتْباعه، ويكون الانكسار في الدين وفي المؤمنين.
والحلّ هو عند صاحب الإمامة والعقد والحلّ، فهو مِن أئمّة الحقّ، وهُم ساسة العباد، وأركان البلاد، وأمناء الرحمان، وأبواب الإيمان.
٤. إنّ الصلح ابتداءً كان طلباً مِن قِبل معاوية، حيث هو الذي طلب الصلح. كتب الأستاذ الهاد: هل الحسن عليه السلام صالح معاوية، أم العكس؟ الجواب ذكره ابن حجر العسقلانيّ الشافعيّ، حيث قال ما نصُّه: إنّ المحفوظ (أي الثابت) أنّ معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح(52).
وأضاف الهاد يقول: وعلى هذا فما ورد في بعض الأخبار من أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد كاتَبَه على الصلح، فإنمّا هو بعد أن طلب معاويةُ منه عليه السلام لا قَبلَه، كما صرّح ابن حجر العسقلانيّ بذلك قائلاً: قال محمّد بن سعد: أخبَرَنا عبد الله بن بكر السَّهميّ قال: حدَّثَنا حاتِمُ بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار قال: إنّ معاوية كان يعلم أنّ الحسن كان أكرَهَ الناسِ للفتنة، فلمّا تُوفّيَ عليّ بن أبي طالبٍ بعث إلى الحسن فأصلح الذي بينه وبينه سرّاً، وأعطاه معاوية عهداً إن حدث حَدَث والحسن حيّ لَيُسمّينَه، وليجعلنّ هذا الأمر إليه، فلمّا توثّق منه الحسن (أي أخذ عليه المواثيق) قال لعبد الله بن جعفر (ابن عمّه): (إنّي قد رأيتُ رأياً وإنّي أُحبّ أن تُتابعَني عليه)، قال: ما هو؟ قال: (قد رأيتُ أن أعمد إلى المدينة فأنزِلَها، وأُخلِّيَ بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة..)، فقال عبد الله بن جعفر: جزاك الله عن أُمّة محمّدٍ خيراً، فأنا معك وعلى هذا الحديث(53).
ثمّ قال الهاد: رجال هذا الحديث ثقاتٌ عند أهل السنّة، وسنده متّصلٌ صحيح لا شكّ فيه، بل ثابت مستفيض، فقد روى أهل السنّة من طُرقٍ أُخرى نحوَ ذلك، فمنه ما رَوَوه عن عبد الله بن محمّد، حدّثنا سفيان عن أبي موسى، عن الحسن. وذكر ما هو أصرح من سابقه. بل فيه أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد قَبِل صلح معاوية، لكثرة ما أُريق من دماء المسلمين. بل فيه أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان قادراً على أن يَظفرَ بالمُلك في آخِر السِّجالَين، لكنّ الذي مَنعَه من ذلك العددُ الهائل من الدماء لو لم يقبل الصلح!(54)
ثمّ إن الله تبارك وتعالى هو القائل آمِراً: (وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها، وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّه هُوَ السميعُ العليم)(55)، والجُنوح هو المَيل، ومنه جَناح الطائر لأنّه يميل به في أحد شقَّيه، والسلم: الصُّلح، والتوكّلُ على الله تعالى هو من تتمّة الأمر بالجنوح، والمعنى: إن مالوا إلى الصلح والمسالمة فَمِلْ إليها وتوكَّلْ على الله في ذلك ولا تَخَف مِن أن تضطهدك أسبابٌ خفيّة على غفلةٍ وعدم تهيّؤٍ لها، فإنّ الله عزّ وجلّ هو السميع العليم، لا يغفله سبب، ولا يُعجزه مكر، بل ينصـرك ويكفيك، وهذا هو الذي يثبتُه قوله تعالى في الآية التالية: (وإن يُريدوا أن يَخْدَعُوكَ فإنَّ حَسْبَك اللهُ هو الَّذي أَيَّدَكَ بِنصرِهِ وبالمؤمنين)(56).
والتوكّل هو اعتمادٌ على الله جلّ وعلا، ولكن لا يعني أبداً إلغاءَ الأسباب الظاهريّة، إنّما التوكّل توجيه الثقة والاعتماد على الله سبحانه، إذ بمشيئته وإرادته وحكمته ورحمته تدور رَحى الأسباب عامّة، ولا يُنافي التوكّل أن يتوسّل المتوكّل بما يمكنه من الأسباب اللائحة عليه يستعملها في طاعة الله تعالى والدفاع عن المؤمنين، وصيانة الدين الحنيف(57).
وهذا هو الذي كان، عاملاً بما أمر الله تبارك وتعالى واستجاب له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أوصى أبوه أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام والِيَهُ على مصر مالكَ الأشتر رضوان الله تعالى عليه في عهده الشريف، حيث جاء فيه: (ولا تَدفَعَنّ صُلحاً دعاك إليه عدوُّك وللهِ فيه رضا، فإنّ في الصُّلح دَعَةً لجُنودِك، وراحةً مِن همومك، وأمناً لبلادك، ولكنِ الحذَرَ كلَّ الحذرِ مِن عدوِّك بعدَ صُلحِه، فإنّ العدوَّ ربّما قارَبَ لِيتَغَفَّل، فَخُذْ بالحَزْم، واتّهِمْ في ذلك حُسنَ الظنّ. وإن عَقَدْتَ بينَك وبينَ عَدوِّك عُقدة، أو ألبَسْتَه مِنك ذِمّة، فَحُطْ عهدَك بالوفاء، وٱرْعَ ذِمّتَك بالأمانة، واجعَلْ نفسَك جُنّةً دونَ ما أعطيت..)(58).
وكان الإمام الحسن عليه السلام ـ وهو المحبّ للأُمّة كلَّ خيرٍ وسعادة، والراحم بأحوالهم مع سلامة دِينهم ـ قد دُعيَ إلى الصُّلح: مِن قِبل جيشه وأصحابه ـ إلّا الأقلّين ـ، ومن قِبل عدوِّه وبطانته من القتلة المجرمين، فاستجاب عليه السلام، ولكن متى؟
* كتب ابن عبد البَرّ الأندلسيّ: عن شرحبيل بن سعد قال: مكث الحسن بن عليّ نَحْواً من ثمانية أشهر لا يُسلِّم الأمرَ إلى معاوية(59).
وبعد أن وقعت المسالمة أيّده معظمهم موافقين، بل كانوا متلهّفين فأصبحوا راضين مسـرورين مُرحّبين مُستقبِلين. وقبل ذلك كان الاختلاف قد تفشّى بين صفوف الجيش، وأسباب الاختلاف واضحة، بيّنها من قبلُ أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:
ـ (سبب الفُرقة الاختلاف)(60).
ـ (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس)(61).
ـ (إنّما أنتم إخوانٌ على دِين الله، ما فرّق بينكم إلّا خُبثُ السـرائر، وسوءُ الضمائر، فلا تَوازَرون، ولا تَناصحون، ولا تَباذَلون ولا تَوادُّون)(62).. أي لا تتعاضدونَ ولا تتناصحون، ولا تَتباذلُون ولا تَتوادّون! هذه كانت حالُهم في عهد الإمام الحسن المجتبى، اختلفت كلمتهم فتفرّقوا، وانبرى الجُهّال يُدلون بآرائهم في ضجيجٍ وضوضاء حتّى ضاع الصواب ولم تُسمع كلمة العقلاء، وخَبُثت السرائر، وساءت الضمائر، وانفصمت عُرى الأُخوّة، وطُلِبت سلامة الأبدان، على انحطاطٍ في التقوى والإيمان!
لقد دبّ الاختلاف بين صفوف الجيش، ولا ريبَ أنّ جيشاً تفرّق وتمزّق قبل القتال محكومٌ عليه بالهزيمة بعد النزال، إذا حصل هنالك نزال! وقد سبق أن قال أمير المؤمنين عليه السلام: (وأيمُ الله، ما اختلَفَت أُمّةٌ قطُّ بعدَ نبيّها إلّا ظَهَر أهلُ باطلِها على أهلِ حقِّها، إلّا ما شاءَ الله)(63).
ولقد حصل ذلك التمزّق والاختلاف بعد أن غُصِبت الخلافة العَلَويّة من أهلها، فأصبح المسلمون شِيَعاً متفرّقين، وأحزاباً متخاصمين، وهنا أدركَتِ الرحمةُ الحسنيّة هذه الأُمّة بقبول الصلح؛ لقبر الفتنة، والحفاظ على الدماء التي تُراق في ضررٍ دون نفع، وعلى الكرامات التي تُهتَك حرمتها ولا تسلم من تجاوزات الطغاة أمثال معاوية(64)، ولو كانت تسلم لَسَلِمَت من انتهاكات يزيد بن معاوية، حيث استباح دماء الأولياء في كربلاء، واستباح الكعبة المشـرّفة بإحراقها بقذائف المنجنيق، واستباح الأنفسَ والأعراض والأموال في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة الحَرّة السوداء، التي كان فيها هتكٌ عظيم، يُخبِرعن كفرٍ قديم، وحقدٍ لئيم! فانتقم يزيد من الإسلام في مبادئه ثأراً للكفر والشرك والجاهليّة الأُولى، ومن النبيّ في خلفائه وأبنائه ثأراً لرموز الكفر والشـرك والجاهليّة الأولى أسلافه الذين قطع الإسلام رؤوسهم في بدرٍ والأحزاب وحُنَين(65).
وقد تداعت الأمور واضطربت الأوضاع في أيّام الإمام الحسن عليه السلام حتّى أصبح الصلح ضرورةً لازمة لإنقاذ المسلمين، كما أصبح فَخّاً مناسباً لفضح المنافقين، ولكن أين المعتقدون بالإمامة، وأين المسلِّمون للإمام؟!
ماذا كان من أصحابه؟!
حينما يركب الناس مراكب الجهل، ويقطعون الصحارى الشاسعة بلا دليل، ويتعجّلون في إبداء الآراء مقابلَ النصوص الدينيّة، قُرآنيّةً تلك النصوص أو نبويّة، فإنّ النتائج تأتي في حالاتٍ من التخبّط والاختلاف، والفوضى والاضطراب، والتمرّد والعناد، والمخالفة والاعتراض.. إذ لم يطلب الناس لأنفسهم التعرّفَ على مفاهيم القرآن الكريم، ولا على السنن النبويّة الشـريفة، ولا على وصايا الرسالة والرسول في الإمامة والخلافة. وليسوا في ذلك بمعذورين، فقد بيّن الله تعالى وكذا رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كلَّ ما تحتاج الأمّة إليه في جميع أمورها وشؤونها، فكان ينبغي عليها أن تعلم وتعمل، وتُسلّم أمورها إلى إمامها، وتلتزم بالمواقف التي تُرضي ربَّها عزّ وجلّ، وبذلك تضمن الأمان والسعادة لنفسها وللأجيال القادمة مِن بعدها.
لكنّ الذي حصل هو غير هذا، بل خلافُ هذا! فجُهل الإمام كما جُفِيَت الإمامة، وجاءت المواقف بعيدةً عن العقل والأدب، فضلاً عن الإيمان والتقوى، حيث اعتُديَ على حُرمة الإمامة، وذلك يعني اعتداءً على حُرمة النبوّة، بل على حُرمات الله ورسالته وكتابه الذي صدع بفضائل أهل البيت ومقاماتهم العليا ومنازلهم العظمى، ومنهم الإمام الحسن الزكيّ المجتبى صلوات الله وسلامه عليه.
والآن.. دَعُونا ـ أيّها الإخوة ـ نرى ماذا كان وماذا جرى؟!
* روى ابن عساكر الدمشقيّ بسنده عن عَوانةَ بنِ الحكم قال: بينا الحسنُ بالمدائن إذ نادى مُنادٍ في عسكر الحسن: ألا إنّ قيس ابن سعد بن عُبادة قد قُتل! فانتهَبَ الناسُ سُرادقَ الحسن حتّى نازعوه بساطاً تحته، ووثب على الحسن رجلٌ من الخوارج من بني أسد فطعنه بالخنجر، ووثب الناس على الأسديّ فقتلوه. ثمّ خرج الحسن حتى نزل القصر الأبيض (منزلاً) بالمدائن، وكتب إلى معاوية في الصلح(66).
ولعلّ الخبر هذا ينقصه بيان أو تحليل مُبيِّن.. كتبه الشيخ محمّد مهدي الحائريّ قائلاً: لمّا رأى الحسن عليه السلام خذلانَ أصحابه وفساد نيّاتهم، وعدمَ ثباتهم في عهودهم ومواثيقهم، وليس فيهم مَن يأمنُ غوائلَه ـ إلّا خاصّةً من شيعة أبيه وهم جماعةٌ قليلة ـ، وليس فيهم مَن ينصره ويحارب معه جنودَ الشام إلّا عددٌ معدود، وقد أنفذ معاوية إليه بكتبِ أهل العراق الذين ضَمِنوا له الفتكَ بالحسن أو تسليمَه إلى معاوية، وكتب معاوية إليه بالهدنة والصلح وقد اشتدّ الأمر بالحسن عليه السلام، حينذاك اضطُرّ إلى أن يصالح..(67).
* وهذا أيضاً يحتاج إلى بيانٍ أوضح، عرضه لنا الحارث الهَمْدانيّ في خبرٍ مطوَّل قال فيه: لمّا تُوفّي الإمام عليّ عليه السلام جاء الناس إلى الحسن بن عليّ عليهما السلام فقالوا له: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك، فَمُرْنا بأمرك، قال عليه السلام: (كَذِبتم، واللهِ ما وفيتُم لِـمَن كان خيراً منّي، فكيف تَفُون لي؟! أو كيف أطمئنّ إليكم ولا أثق بكم؟! إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن، فوافوني هناك).
فركب، وركب معه مَن أراد الخروج، وتخلّف عنه خَلقٌ كثير لم يَفُوا بما قالوه وبما وعدوه.. فقام خطيباً وقال: (قد غررتموني كما غَرَرتُم مَن كان قَبلي، مع أيّ إمامٍ تقاتلون بعدي؟! مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قطّ، ولا أظهر الإسلامَ هو ولا بنو أُميّةَ إلّا فَرَقاً من السيف؟!(68) ولو لم يبق لبني أُميّةَ إلّا عجوزٌ درداءُ(69) لَبَغَت دِينَ الله عِوَجاً، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ وجّه عليه السلام قائداً في أربعة آلاف ـ وكان مِن كِنْدة ـ، وأمَرَه أن يُعسكِر بالأنبار(70) ولا يُحْدِثَ شيئاً حتّى يأتيَه أمرُه. فلّما توجّه إلى الأنبار ونزل بها، وعَلِم معاوية بذلك بعث إليه (إلى القائد) رسلاً وكتب إليه معهم: إنّك إن أقبَلْتَ إليّ ولّيتُك بعض كُوَر الشام أو الجزيرة(71) غير منفسٍ عليك. وأرسل إليه بخمس مئة ألف درهم، فقبض الكنديّ ـ عدوُّ الله ـ المال، وقلب على الحسن عليه السلام وصار إلى معاوية في مِئتَي رجلٍ من خاصّته..
وبلَغَ الحسنَ عليه السلام ذلك، فقام خطيباً وقال: (هذا الكِنديّ توجّه إلى معاوية وغَدَر بي وبكم، وقد أخبرتُكم مرّةً بعد أخرى أنّه لا وفاءَ لكم. أنتُم عبيد الدنيا، وأنا مُوجِّهٌ رجلاً آخَرَ مكانَه، وأنا أعلم أنّه سيفعل بي وبكم ما فَعَل صاحبُه، لا يُراقبُ اللهَ فِيَّ ولا فيكم!).
فبعث رجلاً من مُراد في أربعة آلاف، وتقدّم إليه بمشهدٍ من الناس وتوكّد عليه، وأخبره أنّه سيغدر كما غدر الكنديّ، فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل، فقال الحسن عليه السلام: (إنّه سيغدر!). فلمّا توجّه الرجل إلى الأنبار أرسل معاوية إليه رسلاً، وكتب إليه بمِثْل ما كتب إلى صاحبه، وبعث إليه بخمس مئة ألف درهم، ومَنّاه أيّ ولايةٍ أحَبَّ مِن كُوَر الشام أو الجزيرة، فقلب على الحسن عليه السلام وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يَحفَظْ ما أُخذ عليه من العهود.
وبلغ الحسنَ عليه السلام ما فعَلَ المراديّ، فقام خطيباً وقال: (قد أخبرتُكم مرّةً بعد مرّة أنّكم لا تَفُون لله بعهود، وهذا صاحبُكمُ المراديّ غدر بي وبكم، وصار إلى معاوية!). ثمّ كتب معاوية إلى الحسن عليه السلام: يا ابنَ عَمّ، لا تقطع الرَّحِمَ الذي بيني وبينك، فإنّ الناس قد غدروا بك، وبأبيك مِن قَبلِك!
فقالوا (أي أصحاب الإمام الحسن عليه السلام له): إن خانك الرجلانِ وغَدَرا فإنّا مناصحون لك، فقال لهم الحسن عليه السلام: (لَأَعُودَنّ هذه المرّةَ فيما بيني وبينكم، وإنّي لَأعلمُ أنّكم غادرون! والموعدُ ما بيني وبينكم، إنّ معسكري بالنُّخَيلة(72)، فَوافُوني هناك، واللهِ لا تَفُون لي بعهد، ولَتَنقُضُنّ الميثاقَ بيني وبينكم!). ثمّ إنّ الحسن عليه السلام أخذ طريق النُّخَيلة فعسكَرَ عشرة أيّامٍ فلم يَحضَرْه إلّا أربعة آلاف، فانصرف إلى الكوفة، فَصَعِد المنبر وقال: (يا عَجَباً مِن قومٍ لا حياءَ لهم ولا دِينَ مرّةً بعد مَرّة! ولو سَلّمتُ إلى معاويةَ الأمرَ، فأيمُ الله لا تَرَونَ فَرَجاً أبداً مع بني أُميّة، واللهِ لَيَسُومُنَّكُم سوءَ العذابِ حتّى تتمنَّوا أن يليَ عليكم حبشيّاً! ولو وجدتُ أعواناً ما سلّمتُ له الأمر، لأنّه محرَّم على بَني أُميّة! فأُفٍّ وتَرَحاً يا عبيدَ الدنيا!).
وكتب أكثرُ أهل الكوفة إلى معاوية بأنّا معك، وإن شئتَ أخَذْنا الحسنَ وبعثناه إليك! ثمّ أغاروا على فسطاطه (مخيّمه)، وضربوه بحَربة، فأُخِذ مجروحاً. ثمّ كتب عليه السلام جواباً لمعاوية: (إنّ هذا الأمرَ لي، والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنّها لَـمُحرّمةٌ عليك وعلى أهل بيتك، سَمِعتُه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لو وجدتُ صابرينَ عارفينَ بحقّي غيرَ مُنكِرين، ما سَلّمتُ لك ولا أعطيتُك ما تُريد)(73).
فكان من الإمام الحسن عليه السلام: صبرٌ وحلم، وإخبارٌ واختبار، ونُصحٌ وتحذير، وشجاعة ومروءة ورحمة.. معاً. وبين ذاك وذلك كانت له سلام الله عليه بياناتٌ وهو يتجرّع الغصص والآلا