المحتويات
2015/08/29
 
5388
العِزّة الحسَنيّة - الأخلاق الحَسنيّة (8)

العِزّة الحسَنيّة - الأخلاق الحَسنيّة (8)

العِزّة الحسَنيّة
سلسلة الأخلاق الحَسنيّة (8)

تأليف: جعفر البياتي
الناشر: العتبة الحسينية المقدسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية

الإسلام دِين العزّة والكرامة والإباء، جاء إلى الناس ليعلّمهم كيف يوقّرون أنفسهم وينزّهونها عن الضَّعة والذِّلّة والمـَهانة، فيترفّعوا عن الطمع والتعلّق بالدنيا، وعن التملّق والخضوع للطغاة والمستكبرين.
وإذا كان الدين الحنيف قد رغّب في التواضع، فإنّه خُلقٌ إلهيّ شريف، حيث تواضع الله عزّ وجلّ لعباده، فخاطَبَهم وحاوَرَهم وحاجَجَهم، وتنزّل لهم ليأخذ بأيديهم إلى هدايته، وإلى رحمته. وتواضع الأنبياء والرسل عليهم السلام للناس لكي يُرضُوا ربَّهم جلّ وعلا، فتخلّقوا بأخلاق الله تبارك وتعالى، فمهّدوا لعباد الله سبيل الصلاح والخير والفضيلة، والنجاة والفوز بمرضاة الله جلّ وعلا.
ولكنّ التواضع أحياناً يكون انكساراً وخنوعاً ومذلّةً إذا كان قِبالَ الظَّلَمة المتعالين والطغاة المتكبّرين الذين يريدون إخضاع الآخرين، وجَعْلَهم خانعين صاغرين. وهنا ليس مِن مجالٍ للتواضع، بل يُظهر المؤمن عزّته، ويشمخ بكرامته، لا استعلاءً ولا تكبُّراً، ولكن حفظاً لِمـا كرّمه الله تعالى به إذ لم يأذن له بإذلال نفسه.
ولقد أعزّ الله عزّ وجلّ نبيَّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فأيدّه وأظهَرَه، وكتب له النصرَ المؤزَّر، وأضفى عليه عزّته. ثمّ أعزّ سبحانه المسلمين برسول الله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لمـّا صدّقوه واتّبعوه وآزروه، بعد أن انحطّت بهم الجاهليّة الجهلاء، وعصبيّاتُها وحميّاتها الحمقاء.. وقد وصَفَتهم الصدّيقة الزهراء عليها السلام في خطبتها الفَدَكيّة قائلة لهم: (وكنتُم على شَفا حُفرةٍ من النار، مُذْقةَ الشارب(1)، ونُهْزةَ الطامع(2)، وقُبْسةَ العَجْلان(3)، ومَوطئَ الأقدام، تشربون الطَّرْق(4)، وتقتاتونَ الوَرَق(5)، أذِلّةً خاسئين، تخافونَ أن يَتَخطّفَكمُ الناسُ مِن حَولِكم، فأنقَذَكمُ اللهُ تبارك وتعالى بمحمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بعدَ اللُّتيّا والَّتي..)(6).
فالعِزّة في أصلها لله عزّ شأنه، ومَن أرادها فَمِن الله تعالى ينالها، وهو القائل جلّ وعلا:
ـ (ولا يَحْزُنْك قَولُهم، إنّ العِزّةَ للهِ جميعاً، هُوَ السميعُ العليم)(7).
ـ (الذينَ يَتّخِذونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دونِ المؤمنين، أيَبتغونَ عِندَهُمُ العِزّةَ فإنّ العِزّةَ للهِ جميعاً)(8).
ـ (مَن كانَ يُريدُ العِزّةَ فَلِلّهِ العِزّةُ جميعاً)(9).
ـ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمـُلْكِ تُؤْتِي الْمـُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْـمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)(10).
ـ (ولِلّـهِ العِزّةُ ولِرسولِه ولِلمُؤمنين)(11).
* قال الإمام الباقر عليه السلام: (إنّ الله تبارك وتعالى أعطى المؤمنَ ثلاثَ خصال: العِزَّ في الدنيا والآخرة، والفَلْجَ في الدنيا والآخرة، والمهابةَ في صدور الظالمين)(12).
* وقال الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ الله عزّ وجلّ فَوَّض إلى المؤمن أُمورَه كلَّها ولم يُفوِّضْ إليه أن يكونَ ذليلاً، أما تسمع قول اللهَ عزّ وجلّ يقول: (وللهِ العِزّةُ ولِرسُولِه ولِلمؤمنين)، فالمؤمنُ يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً). ثمّ قال: (إنّ المؤمنَ أعزُّ مِن الجبل، إنّ الجبل يُستقَلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقَلّ مِن دِينه شيء)(13).
* وقد سُمِع أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه يوم عرفة يدعو، فكان من دعائه الشريف ذلك قوله: (يا مَن خَصَّ نفسَه بالسموِّ والرِّفعة، وأولياؤُه بِعِزِّه يَعتزُّون)(14).
وكانت هذه الخَصلة الشريفة ظاهرةً على النبيّ المصطفى وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم، ومنهم الإمام الحسن عليه السلام، حتّى قيل له ـ توهّماً أو حسداً ـ: إنّ فيك عظمة! فأجاب عليه السلام ذلك المتهِّمَ قائلاً: (بل فِيّ عِزّة، قال الله تعالى: (ولِلّـهِ العِزّةُ ولرسولِه ولِلمُؤمنين))(15).
والأئمّة صلوات الله عليهم هم أوضحُ مصداقٍ وأمثَلُه للمؤمنين، وقد أضفى الله سبحانه عليهم عِزَّته وهيبته، حتّى قال واصل بن عطاء يصف الإمام المجتبى عليه السلام قائلاً: كان الحسن بن عليٍّ عليه سِيماءُ الأنبياء وبهاء الملوك(16).
وكان من دلائل عزّته جهادُه وشجاعته
فقد اشترك ـ مع أبيه أمير المؤمنين وأخيه الحسين عليهم السلام ـ في معارك: الجمل وصِفّين والنهروان، وقد رُوي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام دعا ابنه محمّدَ بن الحنفيّة يومَ الجمل فأعطاه رمحه وقال له: (اقصدْ بهذا الرمح قصدَ الجمل)، إذ كان رمزَ الفتنة والوقيعة، فذهب ابن الحنفيّة إلّا أنّ بَني ضبّة منعوه، فلمّا رجع إلى والده انتزع الحسن المجتبى رمحَه من يده وقصَدَ قصد الجمل، فطعنه برمحه، ورجع إلى والده وعلى رمحه أثرُ الدم(17).
والشجاعة ـ كما يعرّفها الأخلاقيّون ـ هي طاعة قوّة الغضب العاقلة في الإقدام على الأمور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضيه رأيها. ولا رَيبَ في أنّها أشرف المـَلَكات النفسيّة، وأفضل الصفات الكماليّة، وقد وَصَف الله تعالى خيار الصحابة بها في قوله: (أَشِدّاءُ عَلَى الكفّار)(18)، وأمر اللهُ نبيَّه بها في قوله: (واغْلُظْ عَلَيهِم)(19)؛ إذِ الشدّة والغِلظةُ من لوازمها وآثارها(20).
ولا شكَّ أنّ ذلك لا يَصحّ إلّا بأمر الله، وطاعةً لله، ولوجه الله، وفي سبيل الله عزّ وجلّ؛ لكي لا تكون الشجاعة انتقاماً وتهوّراً وهوى وتسلّطاً، وكان للإمام الحسن عليه السلام في بيان المفردات الأخلاقيّة المتعلّقة بالشجاعة كلمات كاشفة، حيث سُئل فأجاب:
ـ (ما الجُبن؟: الجُراةُ على الصديق، والنكولُ عن العدوّ.
ـ ما الجُرأة؟: مُواقَفةُ الأقران.
ـ ما المَنَعة؟: شدّةُ البأس، ومنازعة أعزّ الناس.
ـ ما الذُّلّ؟: الفَرَقُ عند المصدوقة.
ـ ما السَّفَه؟: اتّباعُ الدناءة، ومُصاحبةُ الغُواة.
ـ ما الشجاعة؟: مواقفةُ الأقران، والصبر عند الطِّعان)(21).
وقد أعدّ الإمام الحسن عليه السلام جيشاً، وتقَدَّمه ليقطع رؤوس النفاق، ويقمع المارقين، ولكنّ الناس أحجموا وتقاعسوا، وجبنوا وضُلِّلوا، فكان لتلك الحال حُكمٌ إلهيٌّ آخَر. وبقيَ هو عليه السلام عزيزاً شامخاً في كلّ مواقفه التي كان فيها، فكان منه:
إظهار العزّة والأنفة أمام المتعالين
وأمامَ أصحاب الخبث والمكيدة والوقيعة، والمتصيّدين للفرص ليكسبوا لأنفسهم شرفاً مزوَّراً يخدعون به الناس، ويتفاخرون به على أولياء الله، لكنّ الإمام الحسن عليه السلام أبى إلّا أن يكون عزيزاً، بل أن يكون الأعزّ، وخصمُه الأذلّ.
* كتب ابن شهر آشوب: قَدِم معاويةُ المدينة، فجلس في أوّل يومٍ يُجيز مَن دَخَل عليه من خمسةِ آلافٍ إلى مئة ألف. فدخل عليه الحسن عليه السلام في آخر الناس، فقال له معاوية: أبطَأتَ يا أبا محمّد، فلَعلّك أردتَ أن تُبخِّلَني عند قريش، فانتظرتَ يَفنى ما عندَنا! يا غلام، أعطِ الحسنَ مِثْلَ جميعِ ما أعطينا في يومنا هذا، يا أبا محمّد وأنا ابنُ هند! فقال الحسن عليه السلام: (لا حاجةَ لي فيها يا أبا عبد الرحمان، ورَدَدتُها وأنا ابن فاطمةَ بنتِ محمّدٍ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(22).
فأراد معاوية أن يفتخر، فما افتخر إلّا بأخزى نَسَبٍ وأحطّه، افتخر بأمّه هند بنت عُتْبة بن ربيعة الأُمويّة، آكلة الأكباد، المعروفة في الجاهليّة بذوات الأعلام(23)، وكان لها دَورٌ في تحريض المشركين يومَ أُحدٍ على قتل المسلمين، وهي التي مَثَّلت بجسد أسد الله وأسد رسوله حمزة سيّدِ شهداء زمانه سلام الله عليه. ثمّ كان لها بعد إظهارها الإسلام وقاحات وأفاعيل، وقد جاءت مع النساء اللواتي جئن يبايعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهنّ شروط آية الممتحنة: (يا أيُّها النبيُّ إذا جاءَكَ المؤمِناتُ يُبايِعْنَك على أن لا يُشْرِكنَ باللهِ شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِين..)(24).. فلمّا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يَزْنِينَ)، انبرَت هند وكأنّها اعترضت، أو استنكفت أن يشترط الله تعالى عليها عدمَ الزنا، فقالت: أَوَ تَزْني الحُرّة؟! فتبسّم عمر بن الخطّاب؛ لِـما كان جرى بينَه وبينَها في الجاهليّة!(25)
ولا ندري كيف يَجْرؤ وجهُ القباحة والعار معاوية أن يفتخر بأمّه، والأعجب من هذا أن يُفاخر بذلك سيّدَ شباب الجنّة الحسنَ المجتبى وهو ابن سيّدة نساء العالمين، من الأوّلين والأخِرين، وبضعةِ سيّد الخلائق أجمعين!! فما كان من الحسن الزكيّ إلّا أن يُظهر عِزَّه الأعزّ، وفخرَه الأفخر، فيردّ دُريهِمات معاوية في وجهه، ويفتخر أنّه ابن فاطمة، ومَن هي فاطمة، صلوات الله وسلامه على فاطمة، هي التي فُطِم الخَلْق عن معرفتها.
فكان فخر الإمام الحسن وافتخاره في محلِّهما الأنسب، ووقتهما الأفضل، إذ كان فيهما عزّتُه وإعزازه، كما كان فيهما إذلال خصمه الوضيع وإفشاله(26).
ومن دلائل العِزّة غَيرته على النسب الأقدس
أراد الشيخ الأزهريّ موسى بن محمّد عليّ أن يصف الإمام المجتبى سلام الله عليه فكتب يقول فيه:
ـ هو كبِد سيّد البشر صلوات الله وسلامه عليه، ورَيحانةُ قلب المصطفى، وشبيهُ جَدِّه الرسولِ المجتبى، وقُرّةُ عين الزهراء سيّدةِ نساء العالمين، وأميرِ المؤمنين، وسبطُ رسولِ ربِّ العالمين. سيّدُ شباب أهل الجنّة، أبو محمّد الحسن بن عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، الهاشميُّ القَرشيّ...
ـ إنّي لا أعرف شرفاً غيرَ شرف النسب، ولا أحسَبُ حَسَباً غيرَ حَسَب الفضيلة. وإمامُنا الجليل، وحليمنا العظيم حليمُ آل الله، الإمام الحسن بن عليٍّ عليهما السلام، له مِن عَراقة الأصل ما يفوق به شرفَ النسب، ومِن طهارة المـَنبت ما يعلو به حَسَبَ الفضيلة...
ـ يقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعيّ: حصل للحسن وأخيه الحسين رضي الله عنهما ما لم يحصل لغيرهما، فإنّهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(27)، ورَيحانتاه، وسيّدا شباب أهل الجنّة. جَدُّهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبوهما عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وأمُّهُما الطاهرة البتول فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

نَسَبٌ كأنّ عليهِ مِن شمسِ الضُّحى * * * نُوراً.. ومِن فَلَقِ الصَّباحِ عَمُودُ

هذا النسب الذي تتضاءل عنده الأنساب، وجاء بصحبته الأثرُ في السنّة والكتاب، فهو وأخوه رضي الله عنهما دَوحةُ الفضل والنبوّة، التي طابت فرعاً وأصلاً، وشعبةُ الرسالة التي سَمَت رِفعةً ونُبلاً، قدِ اكتَنَفهما العِزُّ والشرف، ولازَمَهما السُّؤدَدُ فما له عنهما مُنصَرَف).
ـ ويُعبِّر هو رضي الله عنه عن نفسه بنفسه، فيقول:
(يا أيُّها الناس، مَن عَرَفني فقد عَرَفني، ومَن لم يَعرِفْني فأنا الحسنُ بن عليّ، وأنا ابنُ النبيّ، وأنا ابنُ الوصيّ، وأنا ابنُ البشير، وأنا ابنُ النذير، وأنا ابنُ الداعي إلى الله بإذنِه، وأنا ابنُ السِّراجِ المنير، وأنا مِن أهل البيت الذي كان جبريلُ يَنزِل إلينا ويصعد مِن عندِنا، وأنا مِن أهل البيت الذي أذهَبَ اللهُ عنهمُ الرِّجسَ وطهَّرَهم تطهيراً)(28) (29).
* وقد روى محمّد بن سنان عن رجلٍ من أهل الكوفة، أنّ الحسن ابن عليٍّ عليهما السلام كلّم رجلاً فسأله: (مِن أيِّ بَلَدٍ أنت؟)، قال: من الكوفة، فقال عليه السلام له: (لو كنتُ بالمدينة لَأريتُك منازلَ جَبرئيلَ عليه السلام مِن ديارنا)(30).
* وروى محمّد بن سيرين أنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام قال لابنه الحسن عليه السلام: (أجمِعِ الناس)، فاجتمعوا، فأقبل الحسن فخطب الناس، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، وتشهّد، ثمّ قال:
(أيُّها الناس، إنّ اللهَ اختارنا لنفسه، وارتضانا لدِينهِ، واصطفانا على خَلقِه، وأنزلَ علينا كتابَه ووحيَه. وأيمُ اللهِ لا ينقُصُنا أحدٌ مِن حقِّنا شيئاً إلّا انتقصه الله مِن حقِّه في عاجل دنياه وآخرته، ولا يكون علينا دولة إلّا كانت لنا العاقبة، (ولَتعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعدَ حِين)(31)).
ثمّ نزل فجمع بالناس، وبلّغ أباه، فقبّله أبوه بين عينَيه ثمّ قال له:
(بأبي وأُمّي, (ذُرِّيَّةً بعضُها مِن بَعضٍ واللهُ سَميعٌ عَليم))(32).(33)
وكتب الصلّابيّ: هؤلاءِ السادة مِن أهل البيت كانوا غَيارى أشدَّ الغَيرةِ على الرَّحِم التي كانت تَصِلُهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وما كانوا ـ مع ذلك ـ يستغلّون هذه النسبة لمصالح دُنيويّة... بل كانوا بعيدين عن كسب حُطام الدنيا بأسمائهم، وبناءِ قصور الفخر على عظامهم. واستغناؤُهم وعزّة نَفْسهم تُصوِّر سيرتَهم وسلوكهم تصويراً يختلف تماماً عن سيرة الطبقة المحترفة للدِّين من الديانات والملل الأخرى(34).
إذن, فإنّ افتخار سيّد شباب أهل الجنّة الحسن بن عليّ عليه السلام كان:
 أوّلاً: عِزّةً مؤمنيّةً مُحِقّة, فهو ابن سيّدِ البشر, وسيّد الكائنات, ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهلُ بيته ـ بإقرار المسلمين ـ هم أفضل الخَلْق وأكرمهم وأعزّهم على الله تبارك وتعالى. فلا يسمح الحسن لأحدٍ أن يتعالى عليه, أو يُفاخِرَه أو يفتخر عليه, أبداً.
وثانياً: كان افتخاره يحمل أدلّتَه العقائديّة والأخلاقيّة, فعرّف من خلاله بأنّه من بيت الوحي والرسالة والنبوّة والطهارة والكرامة, وأنّه وريث رسول الله في الخلافة والإمامة.
فافتخارُه هذا هو بيانٌ لأحد دلائل الإمامة الحقّة التي تعيّنت في البيتِ القدسيِّ الزاكي النيّرِ الشريف, لا غيره, كما أصبح ذلك الافتخار إلجاماً للمتفاخرين عليه مِن أهل الشرك والكفر والفساد, وأهل الحميّة الجاهليّة والنفاق والادّعاءِ الكاذب الُموهِمِ للناس.
وهذه نُبذٌ من مصاديق ذلك:
* رُوي أنّ معاوية فَخَر يوماً بنفسه, فقال له الحسن بن عليٍّ عليهما السلام: (أَعَلَيَّ تَفخَر يا معاوية؟! أنا ٱبنُ عُروقِ الثَّرى, أنا ٱبنُ مأوى التُّقى, أنا ٱبنُ مَن جاء بالهدى, أنا ٱبنُ مَن سادَ أهلَ الدنيا, بالفضلِ السابق, والحَسَبِ الفائق. أنا ٱبنُ من طاعتُه طاعةُ الله, ومعصيتُه معصيةُ الله. فَهَل لكَ أبٌ كأبي تُباهيني به, وقديمٌ كقديمي تُساميني به؟! قُل: نَعَم, أو لا). قال معاوية: بل أقول: لا, وهي لك تصديق.
فقال الإمام الحسن عليه السلام:

الحقُّ أبلَجُ ما تُحيلُ سبيلُهُ * * * والحقُّ يَعرِفُه ذَوو الألبابِ(35)

* وعن المنهال بن عَمْرو أنّ معاوية سأل الحسنَ عليه السلام ـ أي طلب منه ـ أن يصعد المِنبر وينتسب, فصَعِد عليه السلام, فحَمِد اللهَ وأثنى عليه, ثمّ قال: (أيُّها الناس, مَن عَرَفني فقد عَرَفني, ومَن لم يَعرِفْني فسأُبيِّن له نفسي: بَلَدي مكّةُ ومِنى, وأنا ٱبنُ الـمَرْوة والصَّفا, وأنا ٱبنُ النبيِّ المصطفى, وأنا ٱبنُ مَن علا الجبالَ الرواسيّ, وأنا ٱبنُ مَن كسا محاسنَ وجهِهِ الحياء, أنا ٱبنُ فاطمةَ سيّدةِ النساء, أنا ٱبنُ قليلات العيوب(36), نقّياتِ الجيوب).
وهنا أذّن المؤذّن, ولعلّه كان عامداً أن يقطع على الإمام خطبته الجليلة, ولكنّه خاب وخابَ مَن أمَرَه أن يُؤذِّن في غير وقت صلاة! فواكب الإمام المجتبى كلماتِ الله تعالى, وهي التي أمر المسلمين بالأذان بها، فلمّا قال المؤذّن: أشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله.. أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله, نادى عليه السلام معاويةَ وقد خُذِل وندم: (يا معاوية! محمّدٌ أبي أم أبوك؟! فإن قلتَ ليس بأبي فقد كفرت! وإن قلتَ: نعم, فقد أقررت).
ثمّ قال عليه السلام: (أصبَحَت قريشٌ تفتخر على العرب بأنّ محمّداً منها, وأصبحت العرب تفتخر على العجم(37) بأن محمّداً منها, وأصبحَتِ العجم تعرف حقَّ العرب بأنّ محمّداً منها يطلبون حقَّنا, ولايَردُّنّ إلينا حقَّنا)(38).
* ومن هَوان الدنيا على الله تعالى أن يُفاخر عصارةُ الخساسة, نورَ القداسة, فقد ذكر الحافظ الذهبّي ـ وهو مَن عُرِف بتعصّبه ضدّ الشيعة وكراهيته لهم ـ عن أبي هاشم الجعفريّ أنّه أخرج هذا الخبر قائلاً:
فاخَرَ يزيدُ بن معاويةَ يوماً الحسنَ بن عليّ, فقال معاوية ليزيد:
ـ فاخَرتَ الحسن؟! قال: نعم.
ـ لعلّك تقول أنّ أمَّك مِثلُ أُمِّه! وأمُّه فاطمةُ بنت رسول الله.
ـ ولَعلّك تقول أنّ جَدَّك خيرٌ مِن جَدِّه! وجدُّه رسول الله.
ـ وأمّا أبوك وأبوه فقد تحاكما إلى الله, فحَكَمَ اللهُ لأبيه على أبيك!(39)
واقتضت العِزّة بيانَ الحقائق, وفَضْحَ رموز النفاق, وردَّ مكائد الكائدين:
يمكر معاوية ويحتال ويغلّ, ويفتري ويسبّ ويحقد, ولكنّه ينسى أو يُنسى فيفوه بالحقائق يصرّح بها ويُقّر أحياناً, وكأنّه غافلٌ أو مُضطرّ, وهو لا يعي ماذا يقول, أو لم يفهم ماذا كان قد قال! فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يُجريَ الحقائق من أفواه المناوئين لأهل البيت, يُعلنونها رغماً عليهم, وكأنّ الأمر ليس بأيديهم, وكأنّهم أصبحوا بأنفسِهم حُجّةً على أنفسهم!
* روى الحافظ المناوي الشافعيّ أنّ معاوية كان يرسل أناساً يسأل عليّاً عليه السلام عن معضلاته أو معضلات غيره(40).
* وأخرج أحمد بن حنبل أنّ معاوية قال لرجلٍ كان يُبغض علياً عليه السلام: لقد كرهتَ رجلاً كان رسول الله يغرّه العِلمَ غَرّاً, ولقد قال له: (أنتَ منّي بمنزلة هارونَ مِن موسى إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي)، وكان عمر إذا أشكَلَ عليه شيءٌ أخذ منه, ويلجأ إلى عليٍّ في حلّ مسائله!(41)
* وروى ابن عبد ربّه الأندلسيّ أنّ معاوية سأل يوماً جلساءَه: مَن أكرمُ الناس أباً وأمّاً, وجَدّاً وجَدّة, وعمّاً وعمّة؟ فقالوا: أنت أعلم. فأخذ بيد الحسن بن عليٍّ عليهما السلام وقال: هذا, أبوه عليّ ابن أبي طالب, وأمُّه فاطمة بنت رسول الله, وجَدُّه رسول الله، وجَدّته خديجة زوجة رسول الله, وعمُّه جعفر وعمّته هالة بنت أبي طالب (أُمّ هاني)..(42).
وكم وكمِ اعترف بأن عليّاً مع الحقّ, حتّى كان يُبدي إعجابه بما يُنقل له من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لاسيّما بعد شهادته, فسَمِع يوماً واحدة منها فقال: هيهاتَ هيهات! عَقَمتِ الأمّهاتُ أن يَلدِنَ مِثْلَه!(43)
ولكنّه يعود بعد ذلك إلى لؤمه القديم, فقد رُويَ:
أنّه سار حتّى دخل الكوفة فأقام بها أيّاماً, فلمّا استتمّتِ البيعة له من أهلها صَعِد المِنبر, فخطب الناسَ وذكر أمير المؤمنين عليه السلام ونال منه, ونال من الحسن عليه السلام ما نال, وكان الحسن والحسين عليهما السلام حاضرَين, فقام الحسين عليه السلام لِيَرُدَّ عليه , فأخذ بيده الحسنُ عليه السلام فأجلسه, ثمّ قام فقال: (أيُّها الذاكُر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ, وأنت معاويةُ وأبوك صخر! وأُمّي فاطمةُ وأمّك هِند! وجَدّتي خديجةُ وجَدّتُك فتيلة! فَلعَن اللهُ أخمَلَنا ذِكْراً, وألْأَمَنا حَسَباً, وشَرَّنا قدماً, وأقدَمَنا كُفراً ونفاقاً!).
فقالت طوائف من أهل المسجد: آمينَ آمين(44).
رواه أيضاً أبو الفَرَج الأصفهانيّ بسنده عن أبي عبيد, عن فضل, عن يحيى بن معين, عن أبي حفص الأبّار, عن إسماعيل بن عبد الرحمان وشُريك بن أبي خالد. وفي الخبر: فقال طوائف من المسجد: آمين. قال فضل: فقال يحيى بن معين: ونحن نقول: آمين. قال أبوعبيد: ونحن أيضاً نقول: آمين. قال أبو الفَرَج: وأنا أقول: آمين(45). أمّا نحن فنقول: آمين آمين, وألفُ آمين.
* وهذه رواية الشَّعبيّ هكذا: إنّ معاوية قَدِم المدينة فقام خطيباً فنال مِن علّي بن أبي طالب عليه السلام, فقام الحسن بن عليٍّ عليه السلام فخطب, فحَمِد اللهَ تعالى وأثنى عليه ثمّ قال:
(إنّه لم يُبعَث نبيٌّ إلّا جُعِل له وصيٌّ مِن أهل بيته, ولم يكن نبيٌّ إلّا وله عدوٌّ مِن المجرمين, وإنّ عليّاً كان وصيَّ رسولِ الله مِن بَعدِه. وأنا ٱبنُ عليٍّ وأنت ٱبنُ صَخْر, وجَدُّك حَربٌ وجَدّي رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأُمُّك هندٌ وأُمّي فاطمةُ عليها السلام, وجَدّتي خديجةُ رضيَ الله عنها وجَدّتُك نُثَيلة, فلَعَن اللهُ أَلْأَمَنا حسَباً, وأقدَمَنا كُفْراً, وأخمَلَنا ذِكْراً, وأشدَّنا نفاقاً).
فقال عامّة أهل المسجد: آمين! فنزل معاوية وقطع خطبتَه(46).
ورحم الله الشاعر حيث يقول في أئمة الهدى عليهم السلام:

هُمُ القومُ آثارُ النبوّةِ مِنهُمُ * * * تَلوحُ.. وأعلامُ الإمامةِ تَلمَعُ
مَهابِطُ وحيِ اللهِ خُزّانُ عِلمِهِ * * *وعندَهمُ غَيبُ المُهيمِنِ مُودَعُ
وإن ذُكِر المعروفُ والجودُ في الورى * * * فبَحرُ نَداهُم زاخِرٌ يَتدفّعُ
أبوهُم سماءُ المجدِ والأُمُّ شمسُهُ * * * نجومٌ لها بُرجُ الجلالةِ مَطْلَعُ
وجَدُّهمُ خيرُ البريّةِ أحمدٌ * * * نبيُّ الهُدى الطُّهرُ الشفيعُ المشفَّعُ
فيا نَسَبٌ كالشمسِ أبيضُ واضحٌ * * * ويا شرفٌ مِن هامةِ النجمِ أرفعُ
فَمَن مِثلُهم إن عُدَّ في الناسِ مَفْخَرٌ * * * أعِدْ نَظَراً يا صاحِ إن كنتَ تَسمَعُ
مَيامينُ قَوّامونَ عَزَّ نظيرُهُم * * * وُلاةٌ هُداةٌ, للرسالةِ مَنبَعُ
فلا فضلَ إلّا حينَ يُذكَرُ فضلُهم * * * ولا عِلمَ إلّا عَنهمُ حينَ يُرفَعُ
ولا عَملٌ يُنْجي غداً غيرَ حُبِّهِم * * * إذا قامَ يومَ البعثِ للخَلقِ مَجْمعُ

ولم يكن الخبث دأبَ معاوية فحَسْب, بل كان قد زقّ معاوية سمومَه إلى أصحابه وحاشيته وزمرته اللئيمة, فما فَتِئوا عن بثّ أحقادهم وتجاسرهم على حرمات آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. وهذا شاهد من شواهد, وصفحة سوداء من كتاب تاريخ بَني أميّة الأظلم الظالم:
* روى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى ابن شهاب, قال: كان عمرو بن العاص حين اجتمعوا بالكوفة, كلّم معاويةَ وأمَرَه أن يأمر الحسنَ بن عليٍّ(47) أن يقومَ فيخطبَ الناس, فكَرِه ذلك معاويةُ(48) وقال: ما أُريد أن يخطب, فقال عمرو: ولكنّي أريد أن يبدوَ عَيُّه في الناس(49)، فإنّه يتكلّم في أمورٍ لا يدري ما هي!!(50) فلم يَزَل بمعاويةَ حتّى أطاعه(51), فخرج معاوية فخطب الناس, وأمر رجلاً فنادى الحسنَ بن عليّ قائلاً له: قُمْ يا حسنُ فكلِّمِ الناس(52). فقام الحسن فتشهّد في بديهةِ أمرٍ لم يُروِّه, فقال: (أمّا بعدُ أيُّها الناس, فإنّ الله هَداكُم بأوّلِنا(53), وحَقَن دماءَكم بآخِرِنا(54). إنّ لهذا الأمر مُدّة, وإنّ الدنيا دارُ دُول, وإنّ الله تعالى قال لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: (وإنْ أَدري أقَريبٌ أَم بعيدٌ ما تُوعَدُون * إنَّه يَعلَمُ الْجَهْرَ مِن القَولِ ويَعلَمُ ما تَكْتُمون * وإنْ أَدري لَعَلَّهُ فِتنةٌ لَكُم ومَتاعٌ إلى حِين)(55)).
فلمّا قالها قال له معاوية: اجلس. ثمّ خطب معاوية, ولم يَزَل صرماً على عمرو(56), وقال له: هذا عن رأيك!(57) وفي رواية: قال له: هذا مِن فعل رأيك!(58)
* ما تقدمنا به روايةٌ سُنّيّة, أمّا هنا فأحببنا أن نقدّم روايةً شيعيّة, ننقلها عن قطب الدين الراونديّ, حيث كتب يقول:
رُوي أنّ عمرو بن العاص قال لمعاوية: إنّ الحسن بن عليٍّ حَيِيّ, وإنّه إذا صَعِد المنبر ورمقوه بأبصارهم خَجِل وانقطع, لو أَذِنتَ له. فقال له معاوية (أي للإمام الحسن عليه السلام): يا أبا محمّد, لو صَعِدتَ المنبر ووعَظْتَنا. فقام فصَعِد المنبر, فحَمِد اللهَ وأثنى عليه, وذَكَر جَدَّه فصلّى عليه, ثمّ قال:
(أيُّها الناس, مَن عَرَفني فقد عَرَفني, ومَن لم يعرفْني فأنا الحسنُ ابنُ عليِّ بنِ أبي طالب, وٱبنُ سيّدةِ النساءِ فاطمةَ بنتِ رسول الله. أنا ٱبنُ رسولِ الله, أنا ٱبنُ نبيِّ الله, أنا ٱبنُ السِّراجِ المنير, أنا ٱبنُ البشيرِ النذير, أنا ٱبنُ مَن بُعِث رحمةً للعالمين, أنا ٱبنُ مَن بُعِث إلى الجنِّ والإنس. أنا ٱبنُ خيرِ خَلقِ الله بعدَ رسول الله, أنا ٱبنُ صاحبِ الفضائل, أنا ٱبنُ صاحبِ المعجزات والدلائل, أنا ٱبنُ أميرِ المؤمنين. أنا المدفوعُ عن حقّي, أنا وأخي سيّدا شبابِ أهل الجنّة, أنا ٱبنُ الركنِ والمقام, أنا ٱبنُ مكّةَ ومِنى, أنا ٱبنُ المَشْعرِ وعرفات).
فغاظَ ذلك معاويةَ فقال: خُذْ في نعتِ الرُّطَب ودَعْ ذا.
فقال عليه السلام: (الريحُ تَنفخُه, والحَرُّ يُنضِجُه, وبَرْدُ الليل يُطيّبُه).
ثمّ عاد فقال: (أنا ٱبنُ الشفيع المُطاع, أنا ٱبنُ مَن قاتَلَت معه الملائكة, أنا ٱبنُ مَن خَضَعَت له قريش, أنا ٱبنُ إمامِ الخَلْق, وٱبنُ محمّدٍ رسولِ الله).
فخَشِيَ معاويةُ أن يفتتن به الناس, فقال: يا أبامحمّدٍ ٱنزِلْ فقد كفى ما جرى. فنزل عليه السلام, فقال له معاوية: ظننتَ أن ستكون خليفة, وما أنتَ وذاك! فقال الحسن عليه السلام: (إنّما الخليفةُ مَن سار بكتاب الله وسُنّة رسوله, ليس الخليفة مَن سار بالجور, وعطّل السُّنن, واتّخذ الدنيا أباً وأُمّاً, مَلَك مُلكاً مُتِّع فيه قليلاً ثمّ تنقطع لذّتُه, وتبقى تَبِعتُه!)...
ثمّ إنّ الحسن عليه السلام سكت ساعة, ثمّ نفض ثوبه فنهض ليخرج, فقال له عمرو بن العاص: اجلسْ فإنّي أسألك عن مسائل, قال عليه السلام: (سَلْ عمّا بدا لك), قال عمرو: أخبِرْني عن الكرم والنجدة والمروّة.
فقال عليه السلام: (أمّا الكرمُ فالتبرّع بالمعروف, والإعطاءُ قبلَ السؤال. وأمّا النجدةُ فالذَّبُّ عن المحارم, والصبرُ في المواطن عند المكاره. وأمّا المُروّةُ فحِفظُ الرجل دِينَه, وإحرازُه نفسَه عن الدَّنَس, وقيامُه بأداء الحقوق, وإفشاء السلام).
فخرج عليه السلام, فَعذَل معاويةُ عَمْراً (أي لامَه ملامةً شديدة) قائلاً له: أفسَدْتَ أهل الشام! فقال عمرو: إليك عنّي, إنّ أهل الشام لم يُحبّوك محبّةَ إيمانٍ ودِين, إنّما أحبّوك للدنيا ينالونها منك, والسيفُ والمال بيدك, فما يُغني عن الحسن كلامُه(59).
فكان من الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: تفاخرٌ بالحقِّ المظلوم ودفاعٌ عنه بعد إظهاره, ودَمغٌ للباطل المدّعي وفضحٌ له بعد كشفه, وتنبيهٌ للغافلين, وتعليمٌ للجاهلين, وبيانٌ للمعارف الأخلاقيّة حتّى للأعداء حُجّةً قائمةً عليهم, وتوبيخٌ للمعاندين واحتجاجاً آخَرَ عليهم.
* وروى ابن عبد ربّه ما يقرب ممّا رُوي باختصارٍ شديد, جاء فيه: وَفَد الحسن بن عليّ على معاوية: فقال عمرو لمعاوية: يا أمير المؤمنين, إنّ الحسن لَفهّ(60), فَلَو حملتَه على المنبر فتكلّم وسمع الناس كلامَه عابوه وسقط مِن عيونهم. ففعل معاوية, فصَعِد الحسن المنبر وتكلّم وأحسن, ثمّ قال: (أيُّها الناس, لو طَلَبتُمُ ٱبناً لنبيِّكم ما بينَ لابتَيها لم تَجِدوه غيري وغيرَ أخي, وإن أدري لَعلَّه فتنةٌ لكُم ومَتاعٌ إلى حِين!). فساء ذلك عَمْراً وأراد أن يقطع كلامه, فقال له: يا أبا محمّد, أتَصِف الرُّطب؟...(61).
* وفي صورةٍ قريبةٍ من هذه الرواية نقل الطبرسيّ أبو منصور أحمد بن عليّ قال: رُويَ أنّ عمرو بن العاص قال لمعاوية: ابعَثْ إلى الحسن ابن عليّ فَمُرْه أن يصعدَ المنبر ويخطُب الناس, فَلعَلّه أن يَحصر (أي يعجز عن الكلام) فيكون ذلك مِمّا نعيّره به في كلّ مَحفِل! فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر, وقد جمع له الناسَ ورؤساءَ أهل الشام, فحَمِد اللهَ الحسنُ صلوات الله عليه, وأثنى عليه, ثمّ قال:
(أيُّها الناس, مَن عَرَفني فأنا الذي يُعرَف, ومَن لم يعرفْني فأنا الحسنُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ٱبنِ عمِّ نبيِّ الله, أوّلِ المسلمين إسلاماً, وأُمّي فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وجَدّي محمّدُ بنُ عبد الله نبيُّ الرحمة. أنا ٱبنُ البشير, أنا ٱبنُ النذير, أنا ٱبنُ السراجِ المنير, أنا ٱبنُ مَن بُعِث رحمةً للعالمين, أنا ٱبنُ مَن بُعِث إلى الجنِّ والإنس أجمعين).
فقطع عليه معاوية فقال: يا أبا محمّد, خَلِّنا مِن هذا وحدِّثْنا في نَعتِ الرُّطَب ـ أراد بذلك تخجيله ـ, فقال الحسن عليه السلام: (نَعَم, التمر: الريحُ تَنفخُه, والحرُّ يُنضِجُه, والليل يُبرّده ويُطيّبه).
ثمّ أقبل الحسن عليه السلام فرجع في كلامه الأوّل فقال: (أنا ٱبنُ مُستجابِ الدعوة, أنا ٱبنُ الشفيعِ المُطاع, أنا ٱبنُ أوّلِ مَن ينفض عن رأسه التراب, أنا ٱبنُ مَن يقرع بابَ الجنّة فيُفتَح له فيدخلها, أنا ٱبنُ مَن قاتَلَ معه الملائكة, وأُحلّ له الَمغْنم ونُصِر بالرعب من مسيرة شهر). فأكثر في هذا النوع من الكلام, ولم يَزَل به حتّى أظْلمَتِ الدنيا على معاوية! وعَرَفَ الحسنَ مَن لم يكن يعرفه مِن أهل الشام وغيرِهم, ثمّ نزل, فقال له معاوية: أما إنّك يا حسنُ قد كنتَ ترجو أن تكون خليفة, ولستَ هناك! فقال الحسن عليه السلام:
(أمّا الخليفةُ: فَمَن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وعَمِل بطاعة الله عزّ وجلّ, وليس الخليفةُ مَن سار بالجور, وعَطَّل السُّنن, وٱتّخذ الدنيا أُمّاً وأباً, وعبادَ اللهِ خِوَلاً, ومالَه دُولاً, ولكنّ ذلك أمرُ مَلِكٍ أصاب مُلكاً فتمتّع منه قليلاً وكان قد انقطع عنه, فأَتخَم لذّته, وبَقِيت عليه تَبِعتُه, وكان كما قال الله تبارك وتعالى: (وإنْ أَدري لَعلَّهُ فِتنةٌ لَكُم ومَتاعٌ إلى حِين)(62), (مَتّعْناهُم سِنينَ * ثُمَّ جاءَهُم ما كانوا يُوعَدُون * وما أغْنى عَنهُم ما كانُوا يُمتَّعُون)(63)). وأومى عليه السلام بيده إلى معاوية, ثمّ قام فانصرف.
فقال معاوية لعَمْرو: واللهِ ما أردتَ إلّا شَيني حينَ أمرتَني بما أمرتَني! واللهِ ما كان يرى أهلُ الشام أنّ أحداً مِثْلي في حَسَبٍ ولا غيرِه حتى قال الحسنُ ما قال! قال عمرو: وهذا شيءٌ لا يُستطاع دفنُه ولا تغييرُه؛ لشهرته في الناس واتّضاحه! فسكت معاوية(64).
وقد يقول قائل: هذا في مصادر الشيعة, فهل في مصادر أهل السُّنّة شيءٌ من هذا أو ما يشبهه؟ وهنا دَعُونا نوجّه هذا السؤال إلى عالمٍ حنبليّ ثمّ حنفيّ ليجيبنا عليه من كتابٍ له, ذلك هو الواعظ يوسف بن قزاغلي بن عبد الله, المعروف بسِبط ابن الجوزيّ (ت ٦٥٤ هـ), حيث كتب في كتابه المشهور (تذكرة خواصّ الأمّة) ما نصُّه:
قال أهلُ السِّيَر: ولمّا سلّم الحسنُ الأمرَ إلى معاوية أقام يتجهّز إلى المدينة, فاجتمع إلى معاوية رهطٌ من شيعته, منهم: عمرو بن العاص, والوليد بن عقبة ـ وهو أخو عثمان لأُمّه, وكان عليٌّ قد جَلَده في الخمر ـ، وعتبة, وقالوا: نريد أن تُحضِر الحسنَ على سبيل الزيارة لنُخجِلَه قبل مسيره إلى المدينة! فنهاهم معاوية وقال: إنّه أَلْسَنُ بني هاشم. فألحُّوا عليه, فأرسل إلى الحسن فاستزاره, فلمّا حضر شرعوا فتناولوا عليّاً عليه السلام والحسنُ ساكت, فلمّا فَرَغوا حَمِدَ الحسنُ اللهَ وأثنى عليه, وصلّى على رسوله محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
(إنّ الذي أشَرتُم إليه: قد صلَّى القِبلتَين, وبايَعَ البيعتَين, وأنتم بالجميع مُشرِكون, وبما أنزَلَ اللهُ على نبيّه كافرون. إنّه حَرّمَ على نفسه الشهوات, وامتنع مِن اللذّات, حتّى أنزل الله فيه: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُم)(65). وأنت يا معاويةُ مِمّن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقّه: (اَللّهمَّ لا تُشبِعْه) (أو: (لا أشبَعَ اللهُ بطنَك))(66).
وبات أمير المؤمنين يحرس رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين, وفَداه بنفسه ليلةَ الهجرة حتّى أنزل الله: (ومِنَ الناسِ مَن يَشْري نَفْسَهُ ٱبتغاءَ مَرضاةِ الله)(67), ووصَفَه الله بالإيمان فقال: (إنَّما وَليُّكُمُ اللهُ ورسُولُه والَّذينَ آمَنُوا)(68), والمراد به أمير المؤمنين. وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت مِنّي بمنزلةِ هارونَ مِن موسى)، و(أنت أخي في الدنيا والآخرة). وأنت يا معاويةُ نَظَر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إليك يومَ الأحزاب فرأى أباك على جملٍ يُحرِّض الناس على قتاله, وأخوك يقود الجمل وأنت تسوقُه, فقال: (لَعَنَ اللهُ الراكبَ والقائد والسائق). وما قابله أبوك في موطنٍ إلّا ولعَنَه, وكنتَ معه!
ولّاك عمرُ الشامَ فخُنتَه, ثمّ ولّاك عثمانُ فتربّصتَ عليه, وأنت الذي كنتَ تَنهى أباك عن الإسلام حتّى قلتَ مخاطِباً له:

يا صَخْرُ لا تُسْلِمَنْ طَوعاً فتَفضَحَنا * * * بعدَ الذينَ ببدرٍ أصبحوا مَزَقا!
لا تَرْكَنَنَّ إلى أمرٍ تُقلِّدُنا * * * والراقصاتِ بنعمانٍ به الحُرَقا!

وكنتَ يومَ بَدْرٍ وأُحدٍ والخندق, والمشاهدِ كلِّها تقاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد علّمتَ المسلمين الذي وُلدت عليه).
ثمّ التفَتَ إلى عمرو بن العاص وقال: (أمّا أنت ـ يا ابنَ النابغة ـ فادّعاك خمسةٌ من قريش, غَلَب عليك ألْأَمُهم, وهو العاص, ووُلِدتَ على فراشِ مشرك, وفيه نزل: (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبتَر)(69), وكنتَ عدوَّ الله وعدوَّ رسوله وعدوَّ المسلمين, وكنتَ أضَرَّ عليهم مِن كلّ مشرك, وأنت القائل:

ولا أنْثَني عن بَني هاشمٍ * * * بِما ٱسْطَعْتُ في الغَيب والمَحْضَـرِ
وعن عايبِ اللّاتِ لا أنثني * * * ولو لا رضَى اللّاتِ لم تَمطُرِ

وأمّا أنت يا وليد(70), فلا أَلومُك عن بُغض أمير المؤمنين, فإنّه قَتَل أباك صبراً, وجَلَدَك في الخمر لَـمّا صلّيتَ بالمسلمين الفجَر سكراناً, وقلت: أزيدُكم؟! وسَمّاك اللهُ في كتابه فاسقاً, وسمّى أمير المؤمنين مؤمناً, في قوله: (أَفَمَنْ كانَ مُؤمناً كَمَنْ كانَ فاسقاً لا يَسْتَوُون)(71). وفيك يقول حسّانُ بن ثابت وفي أمير المؤمنين:

أنزَلَ اللهُ ذو الجلالِ عَلَينا * * * في عليٍّ وفي الوليدِ قُرانا
ليس مَن كان مؤمناً ـ عَمْرُك اللهُ ـ * * * كمَن كان فاسقاً خَوّانا
سوف يُدعى الوليدُ بعدَ قليلٍ * * * وعليٌّ إلى الجزاءِ عَيانا
فعليٌّ يُجزى هناك جِنانا * * * ووليدٌ يُجزى هناك هَوانا!(72)

وأمّا أنت يا عُتبة! فلا أَلُومُك في أمير المؤمنين, فإنّه قتل أباك يومَ بدر, واشترك في دم ٱبنِ عمِّك شَيبة. وهَلّا أنكرتَ على مَن غَلَب على فراشك, ووجدتَه نائماً مع عُرسِك! حتى قال فيك نصرُ بن حجّاج:

نُبِّئْتُ عُتبةُ هيّأَتْه عُرسُهُ * * * لصداقةِ الهُذْلي من الحيّانِ
ألْفاهُ مَعْها في الفراشِ فلم يكُنْ * * * فَحْلاً, وأمسَكَ خشيةَ النِّسوانِ!)

ثمّ نَفضَ الحسنُ ثوبَه وقام, فقال معاوية (أي لأصحابه يعاتبهم ويوّبخهم!):

أمَرتُكمُ أمراً فَلَم تَسمَعوا لَهُ * * * وقلتُ لكُم: لا تَبعثُنَّ إلى الحسَنْ
فجاءَ ـ وربِّ الراقصاتِ ـ عشيّةً * * * بِرُكبانِها يَهْوينَ مِن سُرّةِ اليَمَنْ
أخافُ عليكُم منه طولَ لسانِهِ * * * وبُعدَ مَداهُ حينَ إجرارِه الرسَنْ
فَلمّا أبيتُم كنتُ فيكُم كبعضِكُم * * * وكان خطابي فيه غَبناً مِن الغَبَنْ
فحَسْبُكمُ ما قالَ مِمّا عَلِمتُمُ * * * وحَسْبي بِما ألْقاهُ في القبرِ والكَفَنْ!(73)

ولنا هنا ملاحظات: إحداها أنّنا حين نُورد مِثل هذه الروايات من طريق العامّة لا يعني بالضرورة أنّنا نقبلها بحذافيرها, فقد يكون فيها من الخطأ في التعابير والمعاني ما فيها, وإنّما أوردناها للإجابة على سؤالٍ أو تساؤل, واعتبرناها حُجّةً على من يدّعي التسنّن وهو يحابي أعداء رسول الله ومحاربي سُننه.
والأخرى أنّ في كتبنا من الروايات وفرةً وصحّةً ودقّةً ما يُغنينا عن غيرها, كما سنأتي بها تِباعاً إن شاء الله تعالى, لو صَبَر علينا القارئ الكريم وهو يتقصّى الحقائق ويتعرّف عليها من المصادر المختلفة والطُّرق المتعدّدة, فيتعصّب للحقّ ويتبرّأ من الباطل, ثمّ لِيواليَ أهل الحقّ ويُعاديَ أهل الباطل, وهو في ذلك دَيدنُه مرضاة الله تعالى, والنجاةُ بالتمسّك بمَن أحبّ.
* والرواية الأخرى تُجيب على ذلك السؤال أو التساؤل, ننقلها عن سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ أيضاً, ومن كتابه كذلك, حيث كتب فيه:
وذكر هِشامُ بن محمّد الكلبيّ (النسّابة)(74) عن محمّد بن إسحاق (المؤرِّخ)(75) قال: بَعَث مروانُ بن الحكم ـ وكان والياً على المدينة ـ رسولاً إلى الحسن عليه السلام فقال له: يقول لك مروان: أبوك الذي فرّق الجماعة, وقتَلَ أمير المؤمنين عثمانَ, وأباد العلماءَ والزهّاد ـ يعني الخوارج(76) ـ, وأنت تفخر بغيرك (وذَكرَ مَثَلاً متجاسراً على حرمة آل الله, لأنّ مروان من آل إبليس الذي تعالى فاحترق بحقده وحسده).
فجاء رسول مروان إلى الحسن فقال له: يا أبا محمّد, إنّي أتيتُك برسالةٍ مِمّن تُخاف سَطوتُه ويُحذَر سيفُه, فإن كَرِهتَ لم أُبلِّغْك إيّاها ووقيتُك بنفسي, فق