المحتويات
2015/08/23
 
11251
السخاء الحسَنيّ - الأخلاق الحَسنيّة (4)

السخاء الحسَنيّ - الأخلاق الحَسنيّة (4)

السخاء الحسَنيّ
سلسلة الأخلاق الحَسنيّة (4)

تأليف: جعفر البياتي
الناشر: العتبة الحسينية المقدسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية

إنَّ السخاء خصلة لازمة لأهل بيت النبوّة عليهم السلام ظاهرةٌ فيهم، بل ومعروفة عنهم، فهي أشهر من أن تُذكَر وأعرَف من أن تُنكَر، سارت سَيْرَ الشمس في أقطار الأرض، ناهيك عن نشرهم الفضل والكرم والجود والسماحة، كلُّ ذلك مقترناً بالخير والنور والبركة، وانسجاماً مع طبيعة الاختصار في هذا البحث نحاول إيراد مجموعة من النصوص التي ورد فيها بيان فضلهم وسخائهم ومنهم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فَلْنقرأ سطوراً من هنا وهناك تُشرق في قلوبنا نورَ الفضيلة:
* قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ السخاءَ شجرةٌ من أشجار الجنّة، لها أغصانٌ مُتَدلّيةٌ في الدنيا، فمَن كان سخياً تعلّق بغصنٍ من أغصانها، فساقه ذلك الغصنُ إلى الجنّة)(1).
* وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: (السخاءُ والشَّجاعة غرائزُ شريفة، يَضعُها الله سبحانه فيمَن أحبَّه وامتحَنَه)(2)، (السخاءُ يُمحِّص الذنوب، ويجلب محبّةَ القلوب)(3)، (عليكم بالسخاء وحسن الخُلق؛ فإنّهما يَزيدانِ الرزق، ويُوجِبانِ المحبّة)(4).
* وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: (السخاء مِن أخلاق الأنبياء، وهو عمادُ الإيمان، ولا يكون مؤمنٌ إلّا سخياً، ولا يكون سخياً إلّا ذُو يقينٍ وهمّةٍ عالية؛ لأنّ السخاء شعاعُ نورِ اليقين. ومَن عَرَف ما قَصَد، هان عليه ما بَذل..)(5)، وعنه عليه السلام أيضاً قال: (إنّ الله تبارك وتعالى رضيَ لكمُ الإسلامَ دِيناً، فأحسِنُوا صُحبتَه بالسخاء وحُسن الخُلق)(6).. مع أنّ السخاء من حسن الخُلق، إلّا أنّ الإمام أفردَه وكأنّه ينبّه عليه لأهمّيته، وخصّه وكأنّه يؤكّد عليه لشرفه وعَلِيّته.
* وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (السَّخيُّ قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنّة. والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، قريبٌ من النار!)(7).
* وكتب الشيخ المفيد: رُويَ أنّ قوماً أُسارى جِيء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمَرَ أميرَ المؤمنين عليه السلام بضرب أعناقهم، ثمّ أمَرَه بإفراد واحدٍ منهم وأن لا يقتلَه، فقال الرجل: لِمَ أفردتَني مِن أصحابي والجنايةُ واحدة؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: (إنّ الله عزّ وجلّ أَوحى إلَيّ أنّك سخيُّ قومك، وأن لا أقتلَك)، فقال الرجل: فإنّي أشهد أن لا إلهَ إلَّا الله، وأنّك رسول الله. قال (الراوي): فقاده سخاؤه إلى الجنّة.
ورُويَ أنّ الشابَّ السخيّ المقترف للذنوب، أَحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من الشيخ العابد البخيل(8).
بعد هذا.. أَحبَّ الخاطر أن يقول: إذا كان السخاء الظاهريّ عند الناس عادةً، أو عملاً مُرائياً ـ أحياناً ـ يُراد به الجاه والسمعة والمكانة في قلوب الناس، أو كان السخاء عند بعضهم فَخّاً تُنال به المصالح الخاصّة، أو أُسلوباً لتمرير بعض الأغراض والوصول إلى بعض نَزَوات النفس والأهداف الطامعة.. فإنّ السخاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ ومنهم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ـ كان له دوافعُ أخرى، وأهدافٌ أخرى، وحالاتٌ أخرى، فالسخاء عندهم صلَواتُ الله عليهم:
١. منبثقٌ عن اعتقادٍ حقٍّ صادق، وعن معرفةٍ باصرة، وتلبيةٍ روحيةٍ وقلبية، فكان منهم تعاملٌ مخلص مع الله تعالى، مقرون بالثقة والحياء معاً.. كيف؟
* كتب الشبلنجيّ الشافعيّ: قيل للحسن رضي الله عنه: لأيِّ شيءٍ نراك لا تَرُدّ سائلاً وإن كنتَ على فاقة؟ فقال: (إنّي لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأرُدَّ سائلاً. وإنّ الله تعالى عَوَّدني عادة، عوّدني أن يُفيضَ نِعمَه علَيّ، وعوّدتُه أن أُفيضَ نِعمَه على الناس، فأخشى إن قطعتُ العادة أن يَمنعَني العادة). وأنشأ يقول:

إذا ما أتاني سائلٌ قلتُ: مرحباً * * * بِمَن فضلُه فرضٌ علَيَّ مُعجَّلُ
ومِن فضلِهِ فضلٌ على كلِّ فاضلٍ * * * وأفضلُ أيام الفتى حين يُسأَلُ(9)

أي حين يُطلَب منه، فأية روحية تلك، وأية ثقةٍ بالله تعالى تلك، وأيُّ تعاملٍ ذاك مع الله عزّ وجلّ، وأيّ استقبال لأهل الفاقة والحاجة منه عليه السلام؟! ومن هنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (البخلُ بالموجود، سُوءُ ظنٍّ بالمعبود)(10).
* ورُوي في الأخبار أنّ رجلاً سأل الإمام الحسنَ عليه السلام حاجة، فأعطاه وأكرمه وأغناه، ثمّ دفع إليه رداءه لكرْيِ حمل الدراهم والدنانير، فقال له وكيله على الأموال: واللهِ لم يَبقَ عندنا درهمٌ واحد! فأجابه الحسن المجتبى عليه السلام: (لكنّي أرجو بفعلي أن يكون لي عند الله أجرٌ عظيم)(11).
وهنا أحببنا أن نورد تعليقةً للصلّابيّ حول سخاء الإمام الحسن الزكيّ سلام الله عليه، حيث كتب يقول: من الأخلاق القرآنية، والتي تتّصف بها النفوس الكريمة، التي تجسّدت في شخصية الحسن بن عليّ رضي الله عنه: خُلقُ الكرم والجود، وكثرةُ الإنفاق في سبيل الله تعالى، وكان تنويه القرآن الكريم بأهل الكرم عظيماً... لقد تأثّر الحسن بالقيم القرآنية والنبوية، والتربية العملية في حضن أمير المؤمنين عليّ، وانعكس ذلك على نفسيته، وترك لنا آثاراً بارزةً دالّةً على تأصُّل خُلق الجود والكرم والإنفاق في شخصيته العظيمة، فقد كان على جانبٍ عظيمٍ من السخاء والجود، وكيف لا يكون وقد شبّ وكبُر في بيتِ أكرم الكرماء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، وقد تسلّلت هذه الخِلّةُ الكريمة وتشرَّبَتها نفسه في صِغر سنّه. وأخبار كرمه وجوده أصبحت مضربَ الأمثال، وقُدوةَ العظماء من الرجال.
ثمّ أضاف يقول: إنّ للإنفاق في سبيل الله عَلاقةً وثيقةً بالسير إلى الله، فهو وسيلةٌ مؤثّرةٌ غايةَ التأثير، كما أنّه من الوسائل المحورية في إحياء القلب وإيقاظ الإيمان، ولنا في جودِ وكرمِ وانفاقِ الحسن بن عليٍّ أُسوةٌ وقدوةٌ حسنة(12).
٢. إنّ سخاء أهل البيت عليهم السلام هو خلُقٌ إلهيّ، فالله تعالى مِن أخلاقه الكريمة الرحيمة إغداقُه على خَلْقه بأنواع الفضل والعطاء والكرم في جميع شؤون العباد، معنويّةً ومادّية، ابتداءً وانتهاءً، للمطيع والعاصي.. يريد سبحانه وتعالى بذلك أوبة الخَلق إليه وتوبتهم، ليُكرمهم بعد ذلك بالنعيم الأبديّ الدائم.
وأهل البيت سلام الله عليهم متخلّقون بأخلاق ربّهم جَلّ وعلا، طالبين مرضاتَه عزّ شأنه، عاملين بإخلاصٍ لوجهه الدائم الكريم، لا ينتظرون من الناس جزاءً ولا شُكوراً، إذ هم مستغنون برضى الله وتوفيقاته وعناياته الكريمة الرحيمة.
٣. كذلك فإنّ السخاء عند أهل البيت مقرونٌ بالمعرفة والعلم والبصيرة، ومصيبٌ لأمر الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم سلام الله عليهم أعلم الناس بأحكام الله جَلّ وعلا، وأعرفُهم بالتنزيل وسيرة المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.. وتلك كلمة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام لرجلٍ لَقِيَه: (أمَا واللهِ لو لَقِيتُك بالمدينة لَأَريتُك أثرَ جبرئيل مِن دارنا ونزولِه على جَدّي بالوحي)، هذا في طريق كربلاء، وأمّا في مِنى، فقد قال الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام لرجلٍ من العراق: (يا أخا أهل العراق، أما لو كنتَ عندنا بالمدينة، لَأَريناك مواطنَ جَبرئيلَ مِن دُوَيرِنا، استقانا الناسُ العلم، فتراهُم عَلِمُوا وجَهِلْنا؟!)(13). فهُم ـ إذن ـ أعلمُ بالأخلاق، وبأحكام الأخلاق.
٤. ثمّ إنّ سخاء أهل البيت عليهم السلام مقرون بالإكرام والتكريم، وكذا بالتفهيم والتعليم. وذلك ما سنتبينه في أخلاق سيد شباب أهل الجنّة أبي محمّدٍ الحسنِ المجتبى صلوات الله عليه.
٥. كذلك فإنّ سخاءهم فياضٌ زخّار، وهو في الوقت ذاته سخاءٌ متوازنٌ متعادل، يأتي على قَدْر الحاجة، ويتناسب مع المُعطى إليه، ويتّسع إلى حدوده الشرعية والأخلاقيّة، فقد قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)(14)، وفي بيان علامات المؤمن قال الإمام الصادق عليه السلام: (المؤمنُ له قوّةٌ في دِين، وحزمٌ في لِين، وإيمانٌ في يقين، وحِرصٌ في فقه، ونشاطٌ في هدى... وسخاءٌ في حقّ..)(15). وفي تعريفٍ للسخاء قال الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: (السخاءُ أن تَسخُوَ نفسُ العبد عن الحرام أن تطلبه، فإذا ظَفَر بالحلال طابت نفسُه أن يُنفقَه في طاعة الله عزّ وجلّ)(16)، وفي تعريف السخيّ قال عليه السلام: (السخيُّ الكريم، الذي ينفق مالَه في حقّ)(17).
وهذه المعاني السامية كانت متجسدةً كلّها في سخاء كريم أهل البيت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فقد يسخو بآلاف الدراهم ومئات الدنانير لمستحقّيها، ثمّ لا يكتفي حتّى يُؤدّيَ لِمَن أعطى كريَ الجمّال، وربّما كان ذلك الكري طيلسانَه(18).
وهذا يدفعنا إلى ذِكر دافعٍ آخر من دوافع السخاء، وهو:
٦. أنّ سخاءهم سلام الله عليهم كان عن زهدٍ في الدنيا، فالدنيا عندهم لا تساوي شيئاً يُذكر، حتّى جَناحَ بعوضة، فذلكم جدّهم أمير المؤمنين عليه السلام هو القائل مُقْسِماً:
ـ (واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ بما تحتَ أفلاكها، على أن أعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلُبُها جُلْبَ شَعيرةٍ ما فعلتُه، وإنّ دنياكم عندي لَأهونُ مِن وَرَقةٍ في فمِ جَرادةٍ تَقضُمُها)(19). وتعريف الدنيا عند أهل البيت في كلماتهم، وفي مواقفهم وعطائهم وشجاعتهم، تعريف ناطقٌ بأعلى درجات الزهد والترفّع، والحرص على إغناء الناس وإسعادهم، ورفعِ كلِّ حرجٍ وفاقةٍ واحتياج.
وأمّا مصاديق ذلك ـ وهي جلية في حياتهم الشريفة المباركة ـ، فتعالَوا ـ إخوتنا الأعزّة الأكارم ـ نتقصّى بعضَها في أخلاق الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وهنا في خصوص السخاء، حيث جاء عنده صلوات الله عليه في حالاتٍ وصورٍ ومواقفَ عديدة، هذا بعضها:
الخروج من مِلكه
وهذا ـ أوّلاً: أحد المصاديق البارزة للسخاء، وثانياً: علامةٌ دالّةٌ على ثقة الإمام بالله تعالى وحسن ظنّه وقوّة توكله، وعدم تحمّله لما عنده حتّى يهبه المعوزين والمحرومين. وأمّا الروايات فهذه هي بين أيدينا:
* بسنده عن عليّ بن زيد بن جذعان، روى أبو نُعَيم الأصبهانيّ أنّه قال: خرج الحسن بن عليّ من مالِه مرّتين، وقاسَمَ اللهَ تعالى مالَه ثلاثَ مرّات(20).
ورواه: سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ بعين ما تقدّم عن أبي نُعَيم(21)، وكذا الشبلنجيّ الشافعيّ(22)، والقندوزيّ الحنفيّ(23)، والخوارزميّ الحنفيّ(24).. وغيرهم، بعضهم عن: عليّ بن زيد بن جذعان، وبعضهم الآخر عن: شهاب بن عامر، وابن أبي نُجَيح، وعبد بن عُمَير(25).
وهذا من الزهد بمكان، ومن حبّ الخير للفقراء والمحرومين بمكان، وخلف ذلك حالة اعتقادية عليا، وحالة إنسانيّة مُثلى، وهو عليه السلام (في عمله هذا قد جعل من نفسه قدوةً للمسلمين في أعمال الخير والإحسان)(26).
اِعتناؤه الخاصّ بالفقراء
لأنّ الفقر، كما عبرّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (كادَ.. أن يكونَ كفراً!)(27)، هذا بالإضافة إلى الآلام والآهات التي يعانيها الفقراء من الحرمان والفاقة، ولوعة الأطفال وحسراتهم، ويكفينا تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (إنّ الفقرَ مَذْهَلةٌ للنفس، مَدْهَشةٌ للعقل، جالبٌ للهموم)(28)، وفي قوله سلام الله عليه: (الفَقرُ الموتُ الأكبر)(29).
* وقد روى ابن عساكر عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن الإمام عليٍّ عليه السلام أنّه خطب الناسَ يوماً ثمّ قال لهم: (إنّ ٱبنَ أخيكمُ الحسنَ بنَ عليٍّ قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمه بينكم). فحضر الناس، فقام الحسن فقال: (إنّما جمعتُه للفقراء)، فقام نصف الناس، ثمّ كان أوّل مَن أخذ منه الأشعث بن قيس(30).
* ورُويَ أنّ رجلاً وقف أمام الحسن بن عليّ عليهما السلام فقال له:
ـ يا ابنَ أمير المؤمنين، بالذي أنعَمَ عليك بهذه النعمة التي ما تليها منه بشفيعٍ منك إليه، بل إنعاماً منه عليك، إلّا ما أنصَفتَني مِن خصمي، فإنّه غَشومٌ ظَلوم، لا يوقّر الشيخَ الكبير، ولا يرحم الطفلَ الصغير!
وكان الحسن المجتبى مُتّكئاً، فاستوى جالساً، ثمّ سأله:
ـ (مَن خصمُك حتّى أَنتصِفَ لك منه؟!).
قال له: الفَقْر.
فأطرق عليه السلام ساعةً، ثمّ رفع رأسه المبارك إلى خادمه وأمره قائلاً: ـ
(أحضِرْ ما عندك مِن موجود).
فأحضر خمسة آلاف درهم، فقال عليه السلام: اِدفَعْها إليه، ثمّ قال لذلك السائل: ـ
(بحقِّ هذه الأقسام التي أقسمتَ بها علَيّ، متى أتاك خصمُك جائراً إلّا ما أتيتَني منه مُتظلِّماً)(31).
كرمٌ في حياءٍ وشُكرٍ واعتذار!
وأين ذلك من كرم أهل الافتخار؟! لقد كان الإمام الحسن الزكيّ سلام الله عليه يعطي وهو أشدّ حياءً من سائله، وأكثرُ حَرَجاً منه، ثمّ يناوله على حياءٍ وفي اعتذار، مع أنّ ما يُعطيه يكفيه، بل يُغنيه، وكيف لا يغني عطاءُ كريم آل البيت وهو الإمام العطوف، والمولى الرؤوف، ذو الروح الطاهرة والنفس الزاكية والأنفاس المباركة؟!
وتلك حالاته الشريفة ـ ترويها لنا كتب المسلمين ـ كيف كانت وهو يُعطي متفضِّلاً وكأنّه المتفضَّل عليه:
* روى الزرنديّ الحنفيّ أنّ رجلاً سأل الحسن المجتبى عليه السلام حاجة، فقال له: (يا هذا، حقُّ سُؤالك إياي يَعظُم لَدَيّ، ومعرفتي بما يجب لك يَكبُر علَيّ، ويَدي تَعجَز عن نيلك بما أنت أهلُه. والكثير في ذات الله عزّ وجلّ قليل، وما في يدي وفاءٌ لشكرك(32)، فإن قَبِلتَ الميسور، ورفعتَ عنّي مؤونة الاحتفال والاهتمام لِما أتكلّف مِن واجبِك، فعلت)(33).
فقال الرجل: يا ابنَ رسول الله، أقبلُ القليلَ وأشكرُ العطية، وأعذرُ عن المنع. فدعا الحسن رضي الله عنه وكيلَه وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها، فقال له: (هاتِ الفاضل). فأحضر خمسين ألفاً، ثمّ قال: (ما فَعَلَتِ الخمسُ مئةِ دينار؟)، قال وكيله: هي عندي، قال: (أحضِرْها)، فأحضَرَها، فدفع الحسن الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال له: (هاتِ مَن يَحمِلها لك).
فأتى بحمّالَين، فدفع الحسن رضي الله عنه إليهما رداءَه لكدّ الحمل (أو لكرْي الحمل)، وقال لهما: (هذه أُجرة حملكما، ولا تأخذوا منه شيئاً). وفي بعض الأخبار أنّ الإمام عليه السلام دفع إليه المال واعتذر(34).
ولعلّ أمرَين هنا ينبغي توضيحهما بعد هذين السؤالين: لماذا هذا الاعتذار، ولماذا هذا المبلغ؟ أمّا الأمر الأوّل فيتبين من خلال رواية ابن حجر المكيّ الهيتميّ الشافعيّ في أوّلها هكذا: (جاءَه [أي الحسن بن عليّ عليهما السلام] رجلٌ يشكو إليه حاله وفقره، وقلّةَ ذات يده بعد أن كان مُثْرياً..)، فالرجل في حالةٍ نفسية مُزرية، لأنّه كان قبلُ مثرياً، وربّما كان حينها معطياً مُكرِماً، ثمّ أصبح مُعسِراً محتاجاً، وذلك ـ لا شكّ ـ يشقّ عليه، وقد وجد الرجل الإمام الحسن كريمَ آل الله أهلاً أن يشكو له، ثمّ إنّ الحسن المجتبى سلام الله عليه ـ وهذا هو الأمر الثاني ـ أعطاه ما أعطاه ـ بإكرامٍ واحترامٍ واعتذار ـ ذلك المبلغَ لأنّ فيه حاجته وهي كبيرة، ولعلّ مطالبات الناس عليه كثيرة، والإمام كان أدرى بحاله وحالته، وبعظيم مصيبته وحاجته.
* وروى البيهقيّ قائلاً: ذكروا أنّ الحسن أتاه رجلٌ في حاجة، فقال الحسن له: (اِذهَبْ فاكتُبْ حاجتَك في رقعةٍ وارفَعْها إلينا نَقضِها لك). فرفع إليه حاجته، فأضعَفَها له (أي أعطاه ضعفَ ما طلب)، فقال له بعض جُلسائه: ما أعظمَ بركةَ الرقعةِ عليه يا ابنَ رسول الله! فقال عليه السلام: (بركتُها علينا أعظمُ حين جعَلَنا للمعروفِ أهلاً. أما علمتَ أنّ المعروف ما كان ابتداءً مِن غير مسألة، فأمّا مَن أعطيتَه بعد مسألة فإنّما أعطيتَه بما بذل لك من وجهه!)(35).
ليت أهل العطاء كلَّهم هكذا يفكرون، وهكذا من الحال يكونون، وهكذا نيتُهم تكون! أجل، الإمام بأفضاله تلك كلّها من العطاء المضاعف والمبارك، ومن ذلك التكريم، ثمّ يرى أنّ بركة السائل عليه أعظم، حيث اختاره وجعَلَه أهلاً للمعروف، ثمّ يعود إلى نفسه الشريفة فلايرى أنّه أعطى بلا مقابل، بل ما أعطاه كان ثمناً لشيءٍ عزيزٍ اشتراه.. وهو ماء وجه السائل!
وتكريم أيضاً.. وحفظ ماء الوجه كذلك
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدنا.. يا كريمَ أهل البيت، فما أشرفَ عطاءَك، وأقدسَ حياءَك! وأنت تُعطي متكرِّماً، مُخرِجاً يدك المباركة من شقّ الباب حياءً من ذلك الأعرابيّ الذي أغنيتَه، ثمّ تقول له:

خُذْها فإني إليك مُعتذِرٌ * * * وٱعلمْ بأنّي عليك ذُو شَفَقة

بل أنت يا مولاي تُغدق وحالك من الحياء والشكر ظاهر، بل يَعظُم عندك شكرُ الآخرين.. هكذا رَوَوا:
ـ ومنهم الزمخشريّ في (ربيع الأبرار) قائلاً: أمَرَ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما لرجلٍ من جيرانه بألفَي درهم، فقال له الرجل: جزاك اللهُ خيراً يا ابنَ رسول الله، فقال له الحسن: (ما أراك أبقيتَ لنا من المكافأة شيئاً)(36).
ـ ومنهم الزرنديّ الحنفيّ في (نظم درر السمطين)(37) راوياً: أنّ رجلاً دفع إلى الحسن المجتبى عليه السلام رقعةً في حاجة، فقال له: (حاجتُك مقضية)، فقيل له: يا ابنَ رسول الله، لو نظرتَ في رقعته ثمّ رددتَ الجواب على قَدْر ذلك، فقال: (أخشى أن يسألني اللهُ عن ذُلِّ مَقامه حتّى أقرأَ رقعتَه).
أيّ وَصْلٍ ووصالٍ ذلكما بينه كان وبين ربّه وهو يرحم المساكين والمنكسرين!
* ورُويَ أن أعرابياً جاء إلى الإمام الحسن عليه السلام وهو يشكو ويُظهِر فقرَه بهذينِ البيتين:

لم يَبقَ لي شيءٌ يُباعُ بِدِرهمٍ * * * يَكفيك رؤيةُ منظري عن مَخبَري
إلّا بقايا ماءِ وجهٍ صُنتُهُ * * * أن لا يُباع، وقد وجدتُك مُشتري

فأعطاه الإمام الحسن عليه السلام اثنَي عَشَر ألفَ درهمٍ واعتذَرَ منه، وقال عليه السلام في جوابه:

عاجَلْتَنا فأتاك وابلُ بِرِّنا * * * طَلّاً، ولو أمهَلْتَنا لم نَقْصُـرِ
فَخُذِ القليلَ وكنْ كأنّك لم تَبِعْ * * * ما صُنتَه، وكأنّنا لم نشترِ(38)

إنّه عطاءٌ بتكريم، وبحفظ ماء الوجه، وتبادل أبياتٍ أدبية يتذوّق بها سامعها أو قارئها الأخلاقَ الحسنى، دارت بين رجلٍ صان وجهَه عن الابتذال، وحَفِظ ماء وجهه إلّا عن كريمٍ سخيٍّ شريف، فباعَه عليه، وبين رجلٍ أبقى على ماءِ وجهِ سائله، وحَفِظَه له مُكرِّماً إياه وقد أغناه وهو إليه معتذر ببيتين مقابل بيتين، وكأنّها تناظَرَت، فكان قضاءُ حاجة، وكانت محبّةٌ وأُلفة، ثمّ صار اللقاء خبراً يعبر التاريخ يحكي لنا خُلُقاً طيباً من أخلاق الإمام الحسن الزكيِّ المجتبى عليه السلام.
* وإذا كان العرب يَسْتَحْلون الأدب، وتتناغم نفوسهم مع الشعر، فقد أشفع الإمام الحسن عليه السلام عطاءَه السخيّ أحياناً بالشِّعر ليأنس به المُعطى إليه، فيكون مأنوساً بما سَمِع أكثر مِن أُنسه بما أُهدي إليه من الأموال، لأنّ الأموال تذهب، وأمّا الأخلاق فتَخلُد، والأبيات تُحفَظ وتتناقلها الألسنة والصدور تحكي عن لقاءٍ كريم، وأخلاقٍ عُليا كريمة.
* جاء بعض الأعراب، فقال الإمام الحسن عليه السلام: (أعطُوه ما في الخُزانة)، وهو العالم والمُكرِم، إذ رأى أنّ كلّ ما فيها يُغنيه ويُناسب حاله، فقال الأعرابيّ: يا مولاي، ألا تركتَني أبوحُ بحاجتي، وأنشرُ مِدحتي؟! فأنشأ الإمام الحسن الزكيّ عليه السلام:

نحنُ أُناسٌ نَوالُنا خَضِلُ * * * يَرتَعُ فيه الرجاءُ والأملُ
تَجودُ قبلَ السؤالِ أنفُسُنا * * * خَوفاً على ماءِ وجهِ مَن يَسَلُ
لو عَلِمَ البحرُ فضلَ نائلِنا * * * لَغاضَ مِن بعدِ فيضهِ خَجِلُ(39)

وقد أحبّ أحدهم أن يُعلّق على كرم الإمام الحسن وجوده وسخائه عليه السلام فقال: إنّ أكرم الوفاء ما كان عند الشدّة.. وحليم آل البيت الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام كان للإخوان وَصُولاً، وللأموال بَذُولاً، وكان الوفاء به كفيلاً، رِضوانُ الله تعالى عليه(40).
* ويبلغ سخاء الإمام الحسن عليه السلام مبالغَ عُليا، حتى وجدوه يُكرم كلَّ قادم، فيكون عطاؤه للناس بركةً وذكرى حميمة، ودرساً في الأدب الأرفع، وتعليماً للكرم والتكريم، وترغيباً في الإهداء.. وقد أُثِر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (تَهادَوا تَحابُّوا)(41)، وقوله: (الهديةُ تُورِث المودّة، وتجدر الأُخوّة، وتُذهِب الضغينة)(42). وأمّا قبول الهديّة فذلك خُلقٌ آخَر يُكرِم به المرء نفسَه، ويُدخل السرور على قلب المُهدي، فتنعقد المحبّة، وتذهب الأحقاد، وتتجذّر الأُخوّة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من عظيم خُلقه وتواضعه ـ يقول: (لَو دُعِيتُ إلى كراعٍ لَأجبتُ، ولو أُهدِيَ إليّ كراعٌ لَقَبِلتُ)(43)، وكان ينصح فيقول: (مِن تَكرُمة الرجل لأخيه المسلم أن يَقبلَ تُحفتَه، ويُتحِفَه بما عنده، ولا يتكلّف له شيئاً)(44).
وفي سيرة الإمام أبي محمّدٍ الحسن المجتبى عليه السلام هكذا رَوَوا:
ـ بسنده عن القاسم بن الفضل عن أبي هارون، روى الحافظ ابن عساكر الدمشقيّ أنّه قال: اِنطلقنا حُجّاجاً، فدخلنا المدينة فقلنا: لو دخَلْنا على ابن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الحسنِ فسَلَّمْنا عليه. فدخَلْنا عليه فحدّثناه بمسيرنا وحالنا، فلمّا خرجنا مِن عنده بعث إلى كلّ رجلٍ منّا بأربعِ مئةٍ أربعِ مئة، فقلنا للرسول (أي مبعوثه الذي أتى بالهدايا): إنّا أغنياء (أي مستغنون) وليس بنا حاجة، فقال: لا تَرُدُّوا عليه معروفه.
قال أبو هارون: فرَجَعْنا إليه فأخبرناه بيَسارنا وحالنا (أي من اليُسر)، فقال: (لا تَرُدّوا علَيّ معروفي، فلو كنتُ على غير هذه الحال كان هذا لكم يسيراً، أما إنّي مُزوِّدُكم: أنّ الله تبارك وتعالى يُباهي ملائكتَه بعباده يومَ عرَفةَ فيقول: عبادي جاؤوني شُعثاً يتعرّضون لرحمتي، فأُشْهِدُكم أنّي قد غفرتُ لمـُحسِنهم، وشفّعتُ محسنَهم في مُسيئِهم. وإذا كان يومُ الجُمعة فمِثلُ ذلك)(45).
فكانت هديةٌ مباركة، انعقدت عليها مودّة ومحبّة، ثمّ انعقدت عليها أُلفةٌ في لقاءٍ عباديّ تعلّم فيه أولئك الحُجّاج: درساً في الإهداء، ودرساً في التكريم والعطاء، ودرساً في قبول الهديّة لا سيما من الأولياء، ودرساً آخَر في شرف يوم عَرَفة ويوم الجمعة وفضلِهما في الأرض والسماء.
(هذا هو الحسن بن عليٍّ عليهما السلام، قد أعطى الحُجّاجَ ذلك المالَ مع ظهور يَسارهم، فكيف الحالُ لو كانوا محتاجين؟! وحينما أظهروا له عدمَ حاجتهم لم يقبل منهم ردَّ ذلك المال، وهذا دليلٌ على قوّة الدافع في نفسه نحوَ السخاء والجود. ولم يَنْسَ أن يُزوِّدَهم بما هو خيرٌ مِن ذلك، حيث ذكرهم بيوم عرفةَ الذي يباهي اللهُ تعالى به ملائكتَه عليهم السلام)(46).
وقضاء الحوائج كان من كرمه عليه السلام
لأنّه من أخلاق الإسلام، بل هو من أخلاق الله عزّ وجلّ قاضي الحاجات، وإليه تُبثّ المشكلات، وبرحمته تُفَكّ المعضلات، وقد قضى جلّ وعلا أن يُوكل خيار عباده في هذه الأمور، هكذا ورد عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قوله: (إنّ للهِ عباداً في الأرض يَسعَون في حوائج الناس، همُ الآمنون يوم القيامة)(47)، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: (إنّ الله عزّ وجلّ خَلَق خَلْقاً مِن خَلْقه انتجَبَهم لقضاءِ حوائجِ فقراء شيعتنا ليُثيبَهم على ذلك الجنّة..)(48).
ومَن أَولى الناس من الحسن وأهل بيت الحسن بهذه المنقبة من اختيار الله تعالى لهم وانتجابِه إياهم لهذا العمل الإنسانيّ الأخلاقيّ الدينيّ؟! وقد قال الله عزّ وجلّ في حديثه القدسيّ الشريف: (الخَلقُ عيالي، فأَحبُّهم إليّ ألطفُهم بهم، وأسعاهُم في حوائجِهم)(49)، ومَن مِن المسلمين يشكّ في أنّ أهل البيت ـ ومنهم الحسن المجتبى ـ عليهم وعليه أفضل الصلاة والسلام أحبُّ الخَلْق إلى الله ورسوله؟!
* روى الترمذي عن أنس بن مالك أنّه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ أهل بيتك أحبُّ إليك؟ قال: (الحسن والحسين). وكان يقول لفاطمة عليها السلام: (اِدعي ابنَيَّ) فيشمُّهما ويَضمُّهما إليه(50).
إنّ قضاء حوائج المحتاجين، وتفريج همّ المهمومين، ورفع كرَب المكروبين.. لَمِن الأخلاق الطيبة، والروح الإنسانيّة الدالّةِ على حبّ الخير للآخرين. وقد كان من الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام همّةٌ عُليا في هذه الأمور، وسعيٌ جادّ في إسعاد الناس، كما كان منه عطاءٌ مُنقِذ، وسخاءٌ مُعين، وكرمٌ مُفرِّج ومُفرِح، وجودٌ مُسعِف، وهِباتٌ مُكرِّمةٌ غير ناقصة، بل هي كافيةٌ وافية.
* كتب البخاريّ: وَهَبَ الحسنُ بنُ عليٍّ لرجلٍ دِيتَه. وسأله رجلٌ شيئاً، فأمر له بأربع مئة درهم..(51).
* ودخل الغضائريّ على الحسن المجتبى عليه السلام وهو يقول له: إنّي عَصَيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عليه السلام له: (بِئسَ ما عَمِلت، كيف؟!)، قال الغضائريّ: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يُفلِح قومٌ ملكت عليهمُ امرأة)، وقد مَلَكت علَيّ امرأتي، وقد أمَرَتني أن أشتريَ عبداً، فاشتريتُه فأبِق منّي (أي هرب). فقال له الإمام الحسن: (اِختَرْ أحدَ ثلاثة: إن شئتَ فثَمَنُ عبد)، فقال الغضائريّ: ها هنا ولا تتجاوز، قدِ اخترتُ. فأعطاه عليه السلام ذلك(52).
* وذكر ابن سعد في (طبقاته) أنّ الحسن بن عليٍّ كان إذا اشترى مِن أحدٍ حائطاً (أي بستاناً)، ثمّ افتقر البائع (أي صاحب البستان) يردّ عليه الحائط، ويُردِفه بالثمن معه(53).
* فيما ذكر ابن الصبّان المصريّ الشافعيّ في (إسعافه) مصداقاً في ذلك، حيث كتب: اشترى الحسن حائطاً مِن قومٍ مِن الأنصار بأربع مئة ألف (درهم)، فبَلَغه أنّهم احتاجوا ما في أيدي الناس، فردّ الحائط إليهم(54).
* وكتب أبو الفَرَج ابن الجوزيّ الحنبليّ: عن سعيد بن عبد العزيز قال: إنّ الحسن بن عليّ سمع رجلاً يسأل ربَّه عزّ وجلّ أن يرزقه عشرةَ آلاف (درهم)، فانصرف الحسن فبَعَث بها إليه(55).
روى ذلك أيضاً: سبطه(56)، وابن عساكر(57)، ومحبّ الدين الطبريّ الشافعيّ(58)، والشبلنجيّ الشافعيّ(59)، وابن حجر الهيتميّ الشافعيّ(60)، وعنه الشيخ سليمان القُندوزيّ الحنفيّ(61). كذلك رواه: الذهبيّ(62)، وابن طلحة الشافعيّ(63)، وابن الصبّاغ المالكيّ(64)، وغيرهم(65).
بعد هذا لو أنصَتْنا إلى حديث التاريخ، فإنّنا لا نسمع في الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلّا الثناء والمدح والافتخار، مقروناً بحالةٍ من الإعجاب والإجلال..
* فتأتي العبارة هكذا: ما قال الحسنُ ـ قَطُّ ـ لسائلٍ: لا(66).
* ويأتي بيت الشِّعر في مخاطبته هكذا:

لَم يَخِبِ الآنَ مَن رَجاكَ ومَن * * * حَرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحَلَقة(67)

* ويأتي وصف الواصف (القيروانيّ) هكذا: كان الحسن عليه السلام جواداً، كريماً، لا يَرُدّ سائلاً، ولا يقطع نائلاً(68).
* ويأتي كلام المعجَب (الصلّابيّ) هكذا: كان الحسن رضي الله عنه مِن أسخى أهل زمانه(69)، وعُدّ رضي الله عنه من الأجواد(70)... وكان الناس يشهدون للحسن رضي الله عنه بكرمه، ودليل ذلك أنّ أعرابيّاً قَدِم إلى المدينة يستعطي الناس، فقيل له: عليك بالحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم(71).
وكم كان منه إطعام
وذلك إرثٌ خُلُقيّ موروث في البيت الحنيفيّ الإبراهيميّ، حتّى عُرِف في أجلى حالاته وصوره في البيت النبويّ المحمّديّ، والبيت الفاطميّ العَلَويّ، وتلك آية الإطعام أحد شواهده، حيث نزل الوحي الأمين يتلو: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا)(72). وقد أجمع المفسّرون أنّ الآيات الواردة في قصّة الإطعام نازلةٌ في الإمام عليٍّ والصدّيقة الزهراء فاطمة عليهما أفضل الصلاة والسلام، باتا جائعَين طاويَين، وأصبحا صائمَين، ولم يفطُرا إلّا على الماء القَراح بعد أن قدّما ما عندهما من أقراص الرغيف إلى مسكينٍ ليلة، ويتيمٍ وأسيرٍ حربيٍّ ليلتَينِ أُخريَين، لِيُطعِما بُطوناً غَرثى، كلّ ذلك كان خالصاً لوجه الله تعالى، ومنقطعاً عن أيِّ انتظارٍ أو توقّع من الناس أن يكون منهم جزاءٌ أو شكور(73).
وذلك من أخلاق الدين الحنيف، بل من أخلاق الله تبارك وتعالى؛ إذ جعل الخَلْق عياله، مع أنّه سبحانه لم يَلِد ولم يُولد، وإنّما اعتبرهم كذلك لأنّه تعهّد لهم بالرزق والإطعام والإسقاء، فمن سعى في ذلك مِن خَلْقه كان قد تخلّق بِخُلْقِه، وعَمِل بما يُحبّ الله جَلّ وعلا، وهو القائل عزّ مِن قائل: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)(74)، وهو القائل جَلّ مِن قائل، يَمدَح علياً وفاطمة سلام الله عليهما: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(75). وهذه ـ هي الأخرى ـ شاهدٌ آخَرُ على إطعام أهل البيت جياعَ الناس ولو كلّفهم ذلك أن يَحرِموا أنفسَهم وهم في خصاصةٍ وحاجّةٍ شديدةٍ ماسّة(76).
والذي ينبغي ألّا نَغفَلَ عنه أنّ أهل بيت الرحمة أطعموا لوجه الله مخلصين، وأطعموا المساكين والمحرومين، وأطعموا فأشبعوا مُكرِمين، وما تناول أحدٌ من أياديهمُ المباركة إلّا أصبح من الهانئين المُعافَين المرحومين، وصدق الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (طعامُ السَّخيِّ دواء)(77).
والآن دَعُونا نطالع بعض ما نُقِل في باب إطعام الإمام الحسن المجتبى لِمـَن كان حوله أو أتاه.. كتب ابن عساكر في تاريخه الدمشقيّ: أنبأَنا عليّ بن محمّد (المدائنيّ) عن أبي جعدبة، عن ابن أبي مَليكة قال:
* تَزوّج الحسن بن عليٍّ خولةَ ابنة منظور فبات ليلةً على سطحٍ أجَمّ (مربَّع مسطَّح)، فشدّت خِمارَها برِجْله والطرفَ الآخر بخلخالها، فقام من اللّيل (ربّما للعبادة) فقال: ما هذا؟! قالت: خِفتُ أن تقوم من الليل بِوَسَنِك (أي بنُعاسك) فتسقط، فأكونَ أشأمَ سَخْلةٍ على العرب! فأحبّها، فأقام عندها سبعة أيام.
قال عبد الله بن عمر: لم نَرَ أبا محمّد (الحسنَ) منذُ أيام، فانطلِقُوا بنا إليه. فأتَوه، فقالت له (أي للحسن عليه السلام) خولة: اِحتبِسْهم حتّى نُهيئ لهم غَداءً، قال: نعم. قال ابن عمر: فابتدأ الحسنُ حديثاً ألهانا بالاستماع إعجاباً به، حتّى جاءنا الطعام(78).
أجَل.. استقبل فرحّب، وآنَسَ ونفع، ثمّ أطعم فأشبع، ذلكم هو الحسن الزكيّ سبط المصطفى وريحانته، الذي قال الله تعالى في حقّ جَدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً إليه بأشدّ صيغ التأكيد: (وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عظيم)(79)، وكان من معاني الخُلق العظيم هذا ما بينه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: (السخاء، وحُسنُ الخُلق)(80).
* وروى ابن شهر آشوب المازندرانيّ السرويّ أنّه دخل على الإمام الحسن عليه السلام جماعةٌ وهو يأكل، فسلّموا عليه وقعدوا، فما كان منه سلام الله عليه إلّا أن قال لهم: (هَلِمُّوا؛ فإنّما وُضِع الطعامُ لِيُؤكل)(81).
هكذا يَدْعوهم مقدّماً لهم أمرَين: أولُّهما ـ حثٌّ على الإقبال على الطعام، وثانيهما ـ توجيهٌ وتسويغ وتبرير وحُجّة على ضرورة الإقبال وتناول الطعام، ذلك أنّ هذا الطعام قُدِّم ووُضِع، والغاية من ذلك لِيُؤكل لا ليبقى أو يُنظَر إليه، فأكلُهم إياه ضرورةٌ منطقية حاكمةٌ الآنَ عليكم أن تتفضلوا بتناوله وهو بين يَدَي كريم آل البيت، وقد دعاكم إليه، وكفى بذلك كرامةً ومكرمة.
* وكتب الخوارزميّ الحنفيّ بإسناده هكذا: أخبَرَنا عليّ بن أحمد ابن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفّار، حدَّثَنا محمّد بن يونس، حدّثنا عليّ بن مُرّة، حدّثني أبي، حدّثني نُجَيح القصّاب قال: رأيتُ الحسنَ بن عليّ يأكل وبين يَدَيه كلب، كلّما أكل لقمةً طرح للكلب مِثلَها. قال: فقلت له: يا ابنَ رسول الله، ألا أرجمُ هذا الكلبَ عن طعامك؟! فقال: (دَعْه؛ إنّي لَأسْتَحْيِي من الله عزّ وجلّ أن يكون ذو رُوحٍ ينظر في وجهي وأنا آكلُ ثمّ لا أُطعمُه)(82).
هذا هو الخُلق الحسنيّ، وذلك هو السخاء الحسنيّ، وذاك هو الحياء الحسنيّ، وهكذا تجتمع الخصال الحسنية الطيبة لتكون موقفاً يتحير المرء أين يَضَع مِثل هذه الرواية المـُسنَدة والمنقولة بقلمٍ سُنّيّ، وتحت أيّ عنوانٍ أخلاقيّ يضعها وقد تعدّدت جوانبها وجهاتها وفضائلها الأخلاقية والإنسانيّة؟! ثمّ أين مُدَّعو حقوق الحيوان ـ فضلاً عن حقوق البشر ـ مِن مثل هذه المواقف الجليلة الكريمة؟!
* وإلى جانب هذه الرواية، أورد بعضهم رواية قريبةً منها، ولكن هكذا: وذكروا أنّ الحسن رأى غلاماً أسودَ يأكل مِن رغيفٍ لقمة، ويُطعم كلباً هناك لقمة، فسأله: (ما حَمَلَك على هذا؟)، فقال: إنّي أسْتَحْيِي منه أن آكلَ ولا أُطعِمَه، فقال له الحسن: (لا تَبرَحْ مِن مكانك حتّى آتيَك). فذهب إلى سيد ذلك الغلام فاشتراه منه، واشترى الحائط (البستان) الذي كان الغلام يعمل فيه، فأعتقه أوّلاً ثمّ ملّكه الحائط ذاك(83).
هذا ما أورده ابن كثير وغيره(84)، فإذا صَحّ ذلك كنّا مَدْعوّين إلى عنوان جديد في السخاء الحسنيّ، وهو:
المكافأة والتشجيع على السخاء
وهذا موضوع يغفل عنه الكثير، مكتفين بما أعطَوا، ولم يلتفتُوا أنّ من التعليم المـُدِرّ للثواب والمُجْري للسنّة الحسنة هو تشويق الآخرين على العطاء والبذل ولو بالقليل، بل ولو لِذي روحٍ وعينَينِ من الحيوانات كالقطّة والكلب والطيور.
* وقد روى الخبرَ السابق أيضاً ابن عساكر، حيث كتب:
رُويَ عن الحسن بن عليّ أنّه كان مارّاً في بعض حيطان المدينة (أي بساتينها)، فرأى أسودَ بيده رغيف يأكل منه لقمة، ويُطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطَرَه الرغيف، فقال له الحسن: (ما حمَلَك على أن شاطَرْتَه ولم تُغابِنْه فيه بشيء؟)، فقال: اِستَحَت عينايَ مِن عينَيه أن أُغابنه. فسأله: (غلامُ مَن أنت؟)، قال: غلام أبانَ بنِ عثمان. فسأله: (والحائط؟)، قال: لأبان بن عثمان. فقال له الحسن: (أقسمتُ عليك لا بَرِحتَ حتّى أعودَ إليك).
فَمَرّ الحسن فاشترى الغلام والحائط، ثمّ جاء إلى الغلام فقال له: (يا غلامُ قدِ اشتريتُك)، فقام قائماً فقال: السمعُ والطاعة للهِ ولرسوله ولك يا مولاي، قال: (وقدِ اشتريتُ الحائط، وأنت حُرٌّ لوجه الله، والحائطُ هبةٌ منّي إليك)، فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبتُ الحائطَ للذي وهَبتَني له [أي لله جَلّ وعلا](85).
* وكتب ابن شهرآشوب: قال أبو جعفر المدائنيّ في حديثٍ طويل:
خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حُجّاجاً، ففاتَهم أثقالُهم، فجاعوا وعطشوا، فَرأَوا في بعض الشِّعاب خِباءً رثّاً (أي خيمةً قديمة) وعجوزاً، فاستَسْقَوها، فقالت: اُطلبوا هذه الشُّوَيهة (مصغَّر شاة)، ففعلوا. واستطعموها فقالت: ليس إلّا هي (أي الشُّوَيهة)، فَلْيَقُم أحدُكم فَلْيَذبَحْها حتّى أصنع لكم طعاماً. فذَبَحها أحدُهم، ثمّ شَوّت لهم مِن لحمها، فأكلوا وقيلوا عندها (أي استراحوا القيلولة ظُهراً)، فلمّا نهضوا قالوا لها: نحن نَفَرٌ من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعُدْنا فالْمـُمي بنا فإنّا صانعون بكِ خيراً. ثمّ رحلوا.
فلمّا جاء زوجها وعَرَف الحال، أوجَعَها ضرباً.. ثمّ مَضَت الأيام فأضَرَّت بها الحال، فرَحَلت حتّى اجتازت بالمدينة، فبَصُر بها الحسن عليه السلام فأمَرَ لها بعطاء، وبَعَث معها رسولاً إلى الحسين عليه السلام فأعطاها مِثلَ ذلك، ثمّ بعَثَها إلى عبد الله بن جعفر فأعطاها مِثل ذلك(86).
* وروى هذا الخبر مؤمن بن حسن الشبلنجيّ الشافعيّ أيضاً، ولكن بتفصيلٍ آخر، هكذا: ما رواه أبو الحسن المدائنيّ قال: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم حُجّاجاً، فلمّا كانوا ببعض الطريق جاعوا وعطشوا وقد فاتَتْهم أثقالهم، فنظروا إلى خِباءٍ فقصدوه، فإذا فيه عجوز، فقالوا: هل مِن شراب؟ قالت: نعم. فأناخوا بها وليس عندها إلّا شُوَيهة، فقالت: اِحلبوها واشربوا لبنها. ففعلوا ذلك، فقالوا: هل من طعام؟ قالت: هذه الشويهة ما عندي غيرُها، فأنا أُقسِم عل