الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام) في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) والخلفاء الثلاثة بعده
(دراسة وتحليل)
تأليف: السيد جعفر مرتضى الحسيني العاملي
الناشر: دار السيرة - بيروت
فهرس المطالب
تقديم
ما هي السياسة؟
الفصل الأول: في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)
بداية
النبي (صلى الله عليه وآله) ومستقبل الأمة
ألف: العاطفة قد تعني موقفاً
ب ـ قضية المباهلة
الأمر الأول: النموذج الحي:
الأمر الثاني: التخطيط.. في خدمة الرسالة:
الأمر الثالث: سياسات لابد من مواجهتها:
سؤال وجوابه:
عود على بدء:
الخطة.. ومواجهتها:
أمثلة تاريخية هامة:
مفارقة:
من مواقف الإمام الحسن (عليه السلام):
مواقف أخرى للأئمة وذريتهم الطاهرة:
على خطى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
ج: شهادة الحسنين على كتابٍ لثقيف
د: بيعة الرضوان
الحسن والحسين إمامان
الفصل الثاني: في عهد الشيخين
فدك.. والحسنان (عليهما السلام)
الخطبة العجيبة
الناحية الأولى
الناحية الثانية
ألف: على صعيد العمل السياسي
ب: التمهيد لبعض الناس
ج: التمييز العنصري
د: استبدال أهل البيت عليهم السلام بغيرهم
هـ: عقائد جاهلية وغريبة
و: قدسية النبي صلى الله عليه وآله
ز: تولية المفضول
ح: سياسة التجهيل
عليُّ عليه السلام يبثّ العلم والإيمان
ط: موقفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله
ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات
ك: لا خير في الإمارة لمؤمن
ل: أينعت الثمار واخضرّ الجناب
ماذا بعد أن تمهد السبيل
وعلي (عليه السلام) ماذا يقول
والإمام الحسن (عليه السلام) أيضاً
مشرعون جدد، أو أنبياء صغار
الأئمة (عليهم السلام) في مواجهة الخطة
قضية الإمامة هي الأساس
مواقف هامة
إنزل عن منبر أبي
والإمام الحسين أيضاً
الحسنان.. وأذان بلال
الإمام الحسن (عليه السلام) وأسئلة الأعرابي
فرض العطاء
الإمام الحسن (عليه السلام) في الشورى
الفصل الثالث: في عهد عثمان
الإمام الحسن (عليه السلام) في وداع أبي ذر
اشتراك الإمام الحسن (عليه السلام) في الفتوح
التفسير والتوجيه
الرأي الصواب
ألف: آثار الفتوح على الشعوب التي افتتحت أرضها:
آثار ونتائج
ب: آثار الفتوح على الفاتحين:
تربية النشء على أيدي غير المسلمات
طموحات الشباب
ابعاد المعترضين
ج: الأئمة (عليهم السلام) وتلك الفتوحات:
الإمام الحسن (عليه السلام) وحصار عثمان
معاوية هو قاتل عثمان
هل جرح الإمام الحسن (عليه السلام) في الدفاع عن عثمان
قوة موقف الإمام الحسن (عليه السلام)
هل كان الإمام الحسن (عليه السلام) عثمانياً؟!
كلمة ختامية
المصادر والمراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين.
وبعد..
فإن حياة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، وحتى عضوياً بحياة أخيه السبط الشهيد الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام..
وبالأخص حياتهما السياسية، فهما شريكان في صنع الأحداث، أو في التأثير فيها، سواء على مستوى الموقف، أو على مستوى نتائجه وآثاره..
ولا يقتصر ذلك على الفترة التي عاشاها كإمامين، يتحملان بالفعل مسؤولية القيادة والهداية للأمة.. بل وينسحب أيضاً حتى على الفترة التي عاشاها في كنف جدهما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فضلاً عما تلاها من تحولات وتطورات في عهد الخلفاء الثلاثة، ثم إبان تصدي أبيهما أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه للإمامة الظاهرة..
بل إننا حتى بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام)، لنجد ملامح الآثار المباشرة لمواقفه (عليه السلام)(1) على مجمل المواقف والأحداث التي كان للإمام الحسين (عليه السلام) التأثير فيها، أو المسؤولية في صنعها..
وليس ذلك ـ فقط ـ لأجل أن دور أحدهما ـ كإمام ـ لا بد أن يكون امتداداً لدور الآخر.. وإنما يضاف إلى ذلك طبيعة الظروف التي رافقت حياتهما، والمسؤوليات المتميزة التي فرض عليهما القيام بها في تلك الفترة الزمنية، ذات الطابع الخاص جداً..
ولأجل ذلك.. فإن على من يريد البحث والتعرف على الحياة السياسية لأحدهما عليهما الصلاة والسلام، أن لا يهمل النظر إلى حياة الآخر، وملاحظة مواقفه. بل لا بد وأن يبقى على مقربة منها، إذا أراد أن يستفيد الكثير ممّا يساعده على فهم أعمق لما هو بصدد البحث فيه، ويهدف إلى التعرف عليه، وعلى أسبابه، وعلى آثاره ونتائجه..
ونحن في هذا البحث المقتضب، وإن كنا لم نستطع أن نؤمن ـ حتى الحد الأدنى في مجال الالتزام بهذا الاتجاه، وذلك بسبب عدم توفر الفرصة، وكثرة الصوارف.. إلا أننا لا نُبعد كثيراً إذا قلنا: إن ملامح هذا الاتجاه ليست مطموسة تماماً في بحثنا هذا..
وأخيراً.. فإن هذه الدراسة الموجزة، قد تكون قادرة ـ ولو جزئياً ـ على رسم صورة تكاد تكون واضحة عن الحياة السياسية للإمام الحسن عليه الصلاة والسلام. كما أنها يمكن أن تساعد بشكل فعال في الحصول على تصورٍ ـ ولو محدود ـ عن بعض التيارات والمناحي السياسية لتلك الفترة... فـ:
إلى ما يلي من صفحات
20 / 1 / 1404 هـ. ق
5 / 8 / 1362 هـ. ش
جعفر مرتضى الحسيني العاملي
ما هي السياسة؟:
قيل:
سأل بعض الناس الإمام الحسن (عليه السلام) عن رأيه في السياسة، فقال (عليه السلام):
(هي أن تراعي حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات. فأما حقوق الله، فأداء ما طلب، والاجتناب عما نهى. وأما حقوق الإحياء، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخر عن خدمة أمتك، وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حاد عن الطريق السوي. وأما حقوق الأموات، فهي أن تذكر خيراتهم، وتتغاضى عن مساوئهم، فإن لهم رباً يحاسبهم)(2).
الفصل الأول: في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)
روي أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال في حديث له:
(لو كان العقل رجلاً لكان الحسن)
(فرائد السمطين ج 2 ص 68 وعن مقتل الحسين للخوارزمي)
بداية:
لقد ولد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام في حياة جده الرّسول الأكرم، محمد (صلى الله عليه وآله)، وبالذات في النصف من شهر رمضان المبارك، من السنة الثالثة للهجرة النبوية، على المشهور.. وعاش في كنف جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) سبع سنوات من عمره الشريف، وكانت تلك السنوات على قلتها، كافية لأن تجعل منه الصورة المصغرة عن شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حتى ليصبح جديراً بذلك الوسام العظيم، الذي حباه به جده، حينما قال له ـ حسبما روي:
(أشبهت خلْقي وَخُلُقي)(3).
وقال المحقق العلامة الأحمدي: (أضف إلى ذلك ما لصحبة العظماء من الأثر الروحي على الإنسان، فمن عاشر كبيراً، وصاحب عظيماً، فيشرق عليه من نوره، ويلفح عليه من عطره المعنوي ما تَغْنى به نفسه، وتسمو به ذاته.. وقد ألمحت الأحاديث الكثيرة الورادة في العِشْرة، واختيار الصديق إلى هذا المعنى، وأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى صحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته القاصعة، فقال: (ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به الخ..).
أضف إلى ذلك: أنه (صلى الله عليه وآله) قد نحل الحسنين (عليهما السلام) نحلة سامية، حينما قال: أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جودي وشجاعتي)(4) انتهى.
النبي (صلى الله عليه وآله) ومستقبل الأمة:
والرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) هو ذلك الشخص الذي يتحمل مسؤولية هداية ورعاية الأمة، ومسؤولية تبليغ وحماية مستقبل الرسالة، ثم وضع الضمانات التي لا بد منها في هذا المجال..
وهو (صلى الله عليه وآله) المطلع عن طريق الوحي على ما ينتظر هذا الوليد الجديد، الإمام الحسن (عليه السلام) من دَور قيادي هام على هذا الصعيد.. كما أنه (صلى الله عليه وآله) مأمور بأن يساهم هو شخصياً، وبما هو ممثل للإرادة الإلهية بالإعداد لهذا الدور، سواء فيما يرتبط ببناء شخصية هذا الوليد اليافع، ليكون الإنسان الكامل الذي يمتلك الصفات الإنسانية المتميزة، أو فيما يرتبط ببنائه بناء فذّاً يتناسب مع المهام الجسام، التي يؤهل للاضطلاع بها على صعيد هداية ورعاية وقيادة الأمة.
وإذا كانت هذه المهام هي ـ تقريباً ـ نفس المهام التي كان يضطلع بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).. فإن من الطبيعي أن تتجلى في شخصية من يخلفه نفس الصفات والمؤهلات التي كانت للشخصية النبوية المباركة..
وهكذا.. فإنه يتّضح المراد من قوله فإن قوله (صلى الله عليه وآله) للإمام الحسن (عليه السلام): أشبهت خَلْقي وَخُلُقي.. فأما شبهه له في الخلق، فذلك أمر واقع، كما عن أبي جحيفة(5) وأما شبهه له في الخُلُق فلا بد أن يعتبر وسام الجدارة والاستحقاق لذلك المنصب الإلهي، الذي هو وراثة وخلافة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ثم وصيه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام.
نعم.. لابد من ذلك، سواء بالنسبة لما يرتبط بشخصية ذلك الوليد.. أو بالنسبة إلى خلق المناخ النفسي الملائم لدى الأمة، التي يفترض فيها أن لا تستسلم لمحاولات الابتزاز لحقها المشروع في الاحتفاظ بقيادتها الإلهية، التي فرضها الله تعالى لها..
أو على الأقل أن لا تتأثر بعمليات التمويه والتشويه، وحتى الإعدام والنسف للمنطلقات والركائز، التي تقوم عليها رؤيتها العقائدية والسياسية، التي يعمل الإسلام على تعميقها وترسيخها في ضمير الأمة ووجدانها..
ومن هنا.. نعرف السر والهدف الذي يرمي إليه النبي (صلى الله عليه وآله) في تأكيداته المتكررة، تصريحاً، أو تلويحاً على ذلك الدور الذي ينتظر الإمام الحسن وأخاه (عليهما السلام)، وإلى المهمات الجلّى التي يتم إعدادهما لها، حتى ليصرح بأنهما (عليهما السلام): إمامان قاما أو قعدا(6) كما أنه يقول: لهما: أنتما الإمامان، ولأمكما الشفاعة(7).
وفي مودة القربى أنه (صلى الله عليه وآله) قال للحسين (عليه السلام): (أنت سيد، ابن سيد، أخو سيد، وأنت إمام، ابن إمام، أخو إمام، وأنت حجة، ابن حجة، أخو حجة، وأنت أبو حجج تسعة، تاسعهم قائمهم)(8).
وفي حديث عنه (صلى الله عليه وآله) يقول فيه عن الإمام الحسن (عليه السلام): (وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله على الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فإنه ليس مني الخ)(9) وثمة أحاديث أخرى تدل على إمامتهما، وإمامة التسعة من ذرية الحسين (عليه السلام): فلتراجع(10).
فكل ما تقدم إنما يعني: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بث في الحسنين (عليهما السلام) من العلوم النافعة، والحكمة الساطعة، وربى فيهما من المؤهلات ما يكفي لأن يجعلهما، جديرين بمقام خلافته، وهداية الأمة بعده..
كما أننا نلاحظ حرصه (صلى الله عليه وآله) على ربط قضاياهما عقيدة وتشريعاً، وحتى عاطفياً ووجدانياً بنفسه (صلى الله عليه وآله) شخصياً، حتى ليقول لهما: أنما سلم لمن سالمتم، وحربٌ لمن حاربتم(11) والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جداً لا مجال لاستقصائها.
وفي نص آخر عن أنس بن مالك قال: دخل الحسن على النبي (صلى الله عليه وآله)، فأردت أن أمطيه عنه، فقال (صلى الله عليه وآله): (ويحك يا أنس، دع ابني، وثمرة فؤادي، فإن من آذى هذا آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)(12).
بل إنه (صلى الله عليه وآله) ليخبر الناس بما يجري على الإمام الحسن (عليه السلام) بعده، فيقول حسبما روي: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين)(13).
أما إخباراته (صلى الله عليه وآله) بما يجري على أخيه السبط الشهيد الإمام الحسين (عليه السلام)، فهي كثيرة أيضاً، وليس هنا موضع التعرض لها.
وبعد ذلك كله، فإننا نجده (صلى الله عليه وآله) يُقَبّل الإمام الحسن (عليه السلام) في فَمِه، يُقَبل الإمام الحسين (عليه السلام) في نحره، في إشارة صريحة منه إلى سبب استشهادهما (عليهما السلام)، واعلاماً منه عن تعاطفه معهما، وعن تأييده لهما في مواقفهما وقضاياهما..
هذا كله، بالإضافة الى كثير من النصوص التي تحدثت عن دور الأئمة وموقعهم بشكل عام، ككونهم باب حطة، وربانيي هذه الأمة، ومعادن العلم، وأحد الثقلين، بالإضافة الى الأحاديث التي تشير الى ما سوف يلاقونه من الأمة، وغير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه..
وعلى كل حال.. فإن الشواهد على أن الرسول الأعظم، محمداً (صلى الله عليه وآله) كان يهتم في إعطاء الملامح الواضحة للركائز والمنطلقات، التي لا بد منها لتكوين الرؤية العقائدية والسياسية الصحيحة والكاملة، تجاه الدور الذي ينتظر السبطين الشهيدين صلوات الله وسلامه عليهما، والتي تمثل الضمانات الكافية، والحصانة القوية لضمير الأمة ضد كل تمويه او تشويه ـ هذه الشواهد ـ كثيرة جداً لا مجال لاستقصائها، ولكننا نؤكد بالإضافة إلى ما تقدم على الأمور التالية:
ألف: العاطفة قد تعني موقفاً:
لقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم...(14) بل لقد بلغ من حبه (صلى الله عليه وآله) له ولأخيه (عليهما السلام): أنه يقطع خطبته في المسجد، وينزل عن المنبر ليحتضنهما، بالإضافة الى بعض ما تقدم وما سيأتي من النصوص الكثيرة، والتي ذكرنا بعضها، حيث لا مجال لتتبعها جميعاً في عجالة كهذه..
والكل يعلم: أنه صلى عليه وآله وسلم لم يكن ينطلق في مواقفه، وكل أفعاله وتروكه من منطلق المصالح، أو الأهواء الشخصية، ولا بتأثير من النزعات والعواطف، وإنما كان صلى عليه وآله فانياً في الله بكل وجوده، وبكل عواطفه وأحاسيسه، وبكل ما يملك من فكر، ومن طاقات ومواهب، فهو (صلى الله عليه وآله) من الله سبحانه كان، ومن أجل دينه ورسالته يعيش، وعلى طريق حبه، وحال اللقاء معه يموت.. فالله سبحانه هو البداية، وهو الاستمرار، وهو النهاية.. الأمر الذي يعني:
أن كل موقف لا يكون خطوة على طريق خدمة دين الله، وإعلاء كلمته، لا يمكن أن يصدر عنه، أياً كان نوعه، ومهما كان حجمه.
ولكن ذلك لا يعني أبداً: أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يملك العواطف البشرية، والأحاسيس الطبيعية، ولا يمنحها قسطها الطبيعي في مجال التأثير الإيجابي في الحياة، أو حتى الاستفادة المباحة منها.
وإنما نريد أن نقول: إنه حينما يتخذ ذلك التأثير العاطفي صفة الموقف، بإعطائه صفة العلنية، ويصبح واضحاً: أن ثمة إصراراً أكيداً على إبرازه وإظهاره للملأ العام، وحتى على المنبر أحياناً، فلابد أن يكون ذلك في خدمة الرسالة، وعلى طريق الهدف الأسمى.
بل.. وحتى على صعيد منحه (صلى الله عليه وآله) أحاسيسه وعواطفه قسطها الطبيعي في التأثير في مجاله الشخصي البحت.. فإنه سيحولها إلى عبادة زاخرة بالعطاء، غنية بالمواهب، تمنحه المزيد من الطاقة، وتؤثر المزيد من القرب من الله سبحانه وتعالى..
نعم.. وان هذا الذي ذكرناه هو الذي يفسر لنا ذلك القدر الهائل من النصوص والآثار، التي وردت عنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله تجاه العلاقة التي تربطه بالحسنين صلوات الله وسلامه عليهما، مثل قوله (صلى الله عليه وآله)، بالنسبة للإمام الحسن (عليه السلام): اللهم إن هذا ابني وأنا أحبُّه، فأحبَّه، وأحبَّ من يحبه(15).
وقوله (صلى الله عليه وآله): أحب أهل بيتي إليَّ: الحسن والحسين.. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة جداً(16).
فإن هذا الموقف المتميز من الحسنين (عليهما السلام)، وتلك الرعاية الفريدة لهما زاخرة ولا شك بالعديد من الدلالات والإشارات الهامة حستما ألمحنا إليه..
ولنا أن نخص بالذكر هنا.. موقف، ومبادرات، وأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) حين ولادتهما (عليهما السلام)، فنجده حين ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) يأتي إلى بيت الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، ويقول: (يا أسماء هاتي ابني)، أو (هلمي ابني)(17).
ثم إنه لم يكن ليسبق ربه في تسمية المولود الجديد، فينزل الوحي لينبئه عن الخالق الحكيم قوله له: (سمه حسناً).. ثم يعق عنه بكبش.. ويتولى بنفسه حلق شعره، والتصدق بزنته فضة، وطلي رأسه بالخلوق بيده المباركة.. وقطع سرته..
إلى آخر ما هنالك مما جاء عنه (صلى الله عليه وآله) في هذه الواقعة(18).
وقوله (صلى الله عليه وآله): يا أسماء هاتي ابني.. وذلك في أول يوم من عمر الإمام الحسن (عليه السلام) له مغزى عميق، وهدف بعيد، سنلمح إليه في الفترة التالية إن شاء الله تعالى.
ب ـ قضية المباهلة:
ومما يدخل في الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام) في عهد جده النبي محمد (صلى الله عليه وآله) قضية المباهلة.
ويرجح العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه، أن هذه القضية قد كانت في سنة ست من الهجرة، أو قبلها(19).
ومجملها:
ان علماء نصارى نجران وفدوا على النبي (صلى الله عليه وآله)، وناظروه في عيسى، فأقام عليهم الحجة.. فلم يقبلوا.. ثم اتفقوا على المباهلة(20) أمام الله، فيجعلوا لعنة الله الخالدة، وعذابه المعجل على الكاذبين قال تعالى: (إنَّ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلاَ تَكُنْ مِنَ المُمْتَرينَ. فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ العِلمِ، فَقُلْ: تَعَالُوا، نَدْعُ أَبنَاءَنَا وَأَبْنَاءكُمْ، وُنِسَاءنَا وِنسَاءكُمْ، وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ، ثمَّ نَبتَهِل، فَنَجعل لَعنَةَ اللهِ عَلَى الكاذِبين)(21).
فلما رجعوا الى منازلهم قال رؤساؤهم، السيد، والعاقب، والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه: فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله، فإنه لا يُقدِمُ إلى أهل بيته إلا وهو صادق.
وفي اليوم المحدد خرج إليهم الرسول (صلى الله عليه وآله) ومعه علي، وفاطمة، والحسنان (عليهم السلام)، فسألوا عنهم، فقيل لهم: هذا ابن عمه، ووصيه، وختنه علي بن أبي طالب، وهذه ابيته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففرِقوا: فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة. فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الجزية، وانصرفوا..
هذه خلاصة ما ذكره القمي رحمه الله في تفسيره.
وفي بعض النصوص أنهم قالوا له: لم لا تباهلنا بأهل الكرامة والكبر، وأهل الشارة ممن أمن بك واتبعك؟! فقا (صلى الله عليه وآله): أجل، أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض، وأفضل الخلق.
ثم تذكر الرواية قول الأسقف لأصحابه: (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله.. إلى أن قال: أفلا ترون الشمس قد تغير لونها، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة، والريح تهب هائجة سوداء، حمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟! لقد أطلَّ علينا العذاب! انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها، وإلى الشجر كيف يتساقط أوراقها، والى هذه الأرض ترجف تحت أقدامنا)(22).
قال الطبرسي: (أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا: الحسن والحسين)(23).
وقال الزمخشري: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء)(24).
ويلاحظ: أن رواية الشعبي لقضية المباهلة لم تذكر علياً (عليه السلام)، فتحير الراوي في ذلك، وعزا ذلك إما إلى سقط في رواية الشعبي أو لسوء رأي بني أمية في علي(25) ولا ريب في أن الثاني هو الأصوب، حسبما عرفناه وألفناه من أفاعيلهم.
ونحن لا نستطيع في هذه العجالة أن نتعرض لجميع الجوانب التي لابد من بحثها في حديث المباهلة، فإن ذلك يحتاج إلى تأليف مستقل، ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى الأمور التالية:
الأمر الأول: النموذج الحي:
إن إخراج الحسنين (عليهما السلام) في قضية المباهلة لم يكن بالأمر العادي، أو الإتفاقي.. وإنما كان مرتبطاً بمعان ومداليل هامة، ترتبط بنفس شخصية الحسنين (عليهما السلام)، فقد كانا صلوات الله وسلامه عليهما ذلك المصداق الحقيقي، والمثل الأعلى، والثمرة الفضلى التي يعنى الإسلام بالحفاظ عليها، وتقديمها على أنها النموذج الفذ لصناعته الخلاقة، والبالغة أعلى درجات النضج والكمال.. حتى إنه ليصبح مستعداً لتقديمها على أنها أعز وأغلى ما يمكن أن يقدمه في مقام التدليل على حقانيته وصدقه، بعد أن فشلت سائر الأدلة والبراهين ـ رغم وضوحها، وسطوع نورها، وقاطعيتها لكل عذر ـ في التخفيف من عنت أولئك الحاقدين، وصلفهم، وصدودهم عن الحق الأبلج..
فالنبي (صلى الله عليه وآله) حينما يكون على استعداد للتضحية بنفسه وبهؤلاء، الذين يعتبرهم القمة في النضج الرسالي بالإضافة إلى أنهم أقرب الناس إليه، فإنه لا يمكن أن يكون كاذباً ـ والعياذ بالله ـ في دعواه، كما لاحظه نفس رؤساء أولئك الذين جاؤا ليباهلوه، وذلك لأن محبة الأقارب، وإن كنت بحد ذاتها أمراً طبيعياً، وقد تجعل الإنسان على استعداد للتفريط بكل شيء، قبل أن يفكر في التفريط بهم.. إلا أن مما يزيد هذه المحبة ويؤكدها، ويقلل كثيراً من احتمالات التفريط بالأهل والأقارب، بل ويجعل ذلك في عداد المحالات ـ هو أن يكون لذلك القريب، بالإضافة الى عامل القربى النسبية، شخصية متميزة، تملك من المزايا والفضائل والكمالات، ما لا يملكه كل من عداها(26). فإذا كان على استعداد للتضحية بنفسه، وبنوعيات كهذه ـ من أهل بيته ـ فإن ذلك يكون أدل دليل على صدقه، وعلى فنائه المطلق في هذا الدين، وعلى ثقته بما يدعو إليه ـ وليس هدفه هو الدنيا الفانية، وحطامها الزائل..
وهذا بالذات هو ما حصل في قضية المباهلة، التي كان النزاع يدور فيها حول بشرية عيسى عليه الصلاة والسلام، وإبطال ما يقوله النصارى فيه، تمهيداً للتأكيد على صحة الإسلام، وأحقية ما جاء به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
الأمر الثاني: التخطيط.. في خدمة الرسالة:
هذا.. ولربما يتصور البعض: ان اعتبارنا هذا الوليد اليافع، وأخاه عليهما الصلاة والسلام ذلك المثل الأعلى، والنموذج الفذ لصناعة الإسلام وخلاقيته.. نابع عن متابعة غير مسؤولة للعواطف والأحاسيس المتأثرة بتعصب مذهبي، أثارته لجاجة الخصوم..
لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فإن ما ذكرناه نابع عن وعي عقائدي سليم، فرضته الأدلة والبراهين، التي تؤكد ـ بشكل قاطع ـ على أن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) كانوا حتى في حال طفولتهم في المستوى الرفيع الذي يؤهلهم لتحمل الأمانة الإلهية وقيادة حكيمة وواعية، كما كان الحال بالنسبة لإمامنا الجواد عليه الصلاة والسلام، وكذلك الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث شاءت الإرادة الإلهية أن يتحملا مسؤولياتهما القيادية في السنين المبكرة من حياتهما.
تماماً كما كان الحال بالنسبة لنبي الله عيسى (عليه السلام)، الذي قال الله تعالى عنه: (فأشارَتْ إِلَيهِ، قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهدِ صَبِيّاً. قَالَ: إنّي عَبْدُ الله، آتَانِيَ الكِتَابَ، وَجَعَلَنِي نَبِيّاً..) الآيات)(27).
وكما كان الحال بالنسبة لنبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام، الذي قال الله سبحانه عنه: (يَا يَحيىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِياً)(28).
نعم.. لقد كان الحسنان (عليهما السلام) حتى في أيام طفولتهما الأولى في المستوى الرفيع من النضج والكمال الإنساني، ويملكان كافة المؤهلات التي تجعلهما محلاً للعناية الإلهية، وأهلاً للأوسمة الكثيرة التي منحهما إياها الإسلام على لسان نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتجعلهما قادرين على تحمل المسؤوليات الجسام، حتى لصح إشراكهما في الدعوى، وفي المباهلة لإثباتها.. حسبما أشار إليه العلامة الطباطبائي والمظفر رحمهما الله تعالى، على اعتبار أن قوله تعالى: (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبين) يراد منه: الكاذبون الذين هم في أحد طرفي المباهلة، وإذا كانت الدعوى، والمباهلة عليها هي بين شخص النبي (صلى الله عليه وآله)، وبين السيد والعاقب والأهتم، فكان ثجب أن يأتي بلفظ صالح للانطباق على المفرد والجمع معاً، كأن يقول:
(فنجعل لعنة الله على الكاذب)، أو (على من كان كاذباً) مثلاً.. أما ما ورد في الآية، فيدل على تحقق كاذبين (بوصف الجمع) في كلا الفريقين المتباهلين.
وهذا يعطي: أن الحاضرين للمباهلة شركاء في الدعوى، فإن الكذب لا يكون إلا فيها.. وعليه.. فعليِّ، وفاطمة، والحسنان (عليهم السلام) شركاء في الدعوى، وفي الدعوة إلى المباهلة لإثباتها. وهذا من أفضل المناقب التي خص الله بها أهل بيت نبيه(29).
قال الزمخشري: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء)، كما تقدم.
وقال الطبرسي وغيره: (قال ابن أبي علان ـ وهو أحد أئمة المعتزلة ـ: هذا يدل على أن، الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.
وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حد البلوغ لا ينافي كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حداً لتعلق الأحكام الشرعية(30). وقد كان سنهما في تلك الحال سناً لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل. على أن عندنا يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة، ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن، لجاز ذلك فيهم: إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة على مكانهم من الله تعالى، واختصاصهم. ومما يؤيده من الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): (ابناي هذان إمامان، قاما، أو قعدا)(31).
أضف إلى ما تقدم: أن مما يدل على ما ذكره الطباطبائي والمظفر وغيرهما: نزول سورة هل أتى، في أهل الكساء، ومنهم الحسنان عليهما السلام، ووعد الله تعالى لهم جميعاً بالجنة.
ويؤيد ذلك أيضاً: إشراكهما (عليهما السلام) في بيعة الرضوان، ثم استشهاد الزهراء بهما في قضية نزاعها مع أبي بكر حول فدك(32)، إلى غير ذلك من أقوال ومواقف للنبي صلى عليه وآله وسلم منهما في المناسبات المختلفة..
كما أن ذلك كله ـ كان يتحه نحو إعداد الناس نفسياً ووجدانياً لقبول إمامة الأئمة (عليهم السلام)، حتى وهم صغار السن، كما كان الحال بالنسبة للإمامين: الجواد والمهدي (عليهما السلام).
الأمر الثالث: سياسات لا بد من مواجهتها:
هذا وقد كان ثمة سياسات ومفاهيم منحرفة، لا بد من مواجهتها، والوقوف في وجهها..
ونشير هنا إلى ما يلي:
الأول: إن إخراج عنصر المرأة ممثلة بفاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، والتي تعتبر النموذج الفذ للمرأة المسلمة ـ في أمر ديني ومصيري كهذا. من شأنه أن يضرب ذلك المفهوم الجاهلي البغيض، الذي كان لا يرة للمرأة أية قيمة أو شأن يذكر، بل كانوا يرون فيها مصدر شقاء وبلاء، ومجلبة للعار، ومظنة للخيانة(33)؛: فلم يكن يتصور أحد منهم: أن يرى المرأة تشارك في مسألة حساسة وفاصلة، بل ومقدسة كهذه المسألة، فضلاً عن أن تعتبر شريكة في الدعوى، وفي الدعوة لإثباتها.
ويرى البعض: أن إخراج الزهراء للمباهلة، دون سائر نسائه (صلى الله عليه وآله)، رغم أن، الآية قد جاءت عامة، حيث عبرت بـ (نساءنا) ومع أن زوجاته (صلى الله عليه وآله) من أجلى مصاديق هذا التعبير ـ إن ذلك ـ له مغزى يشبه إلى حد كبير المغزى من إرسال أبي بكر بآيات سورة براءة، ثم عزله، استناداً إلى قول جبرئيل: لا يُبَلِّغُ عنك إلا أنت أو رجل منك!!.
هكذا يقال بالنسبة للعموم في قوله: (وأنفسنا)، ولم يخرج سوى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي قوله: (وأبناءنا) ولم يخرج سوى الحسنين (عليهما السلام). انتهى.
ونقول:
أولاً: إن بعض نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ـ كأم سلمة ـ لم يكنَّ ممن يستحق التعريض بهم.. لأنها كانت من خيرة النساء، ومن فضلياتهنَّ.
إلا ان يقال: إن المقصود: أنه ليس أحد منهن أهلاً لأن يباهل النبي (صلى الله عليه وآله) به سوى فاطمة (عليها السلام).
وثانياً: إن هذا المحقق يريد: أن قوله: (نساءنا) لا يقصد به الزوجات، وإن كان قد أطلق في القرآن عليهن في بعض الموارد. بل المقصود: المرأة المنسوبة إليه، وبنت الرجل تنسب إليه، ويطلق عليها: انها من نسائه.
وعلى هذا نقول: إن ما ذكره هنا يناقض ما ذكره هو نفسه في موضع آخر حيث قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخرج فاطمة للمباهلة بعنوان: (المرأة المسلمة من ذوات الازواج، من أهل هذه الدعوة، لا باعتبار أنها من نساء النبي (صلى الله عليه وآله).
وإن كان كلامه هذا الأخير ليس في محله، كما ستأتي الإشارة إليه، ولكنه على أي حال لا ينسجم مع ما ذكره هنا كما قلنا.
الثاني: إن إخراج الحنين (عليهما السلام) إلى المباهلة بعنوان أنهما أبناء الرسول الأكرم، محمد (صلى الله عليه وآله)، مع أنهما ابنا ابنته الصديقة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها.. له دلالة هامة مغزى عميق.. كما سنرى..
سؤال وجوابه:
وكننا قبل أن نشير إلى ذلك، والى مغزاه، لا بد من الإجابة على مناقشة طرحها بعض المحققين(34)، مفادها:
أن الآية لا تدل على أكثر من أن المطلوب هو إخراج أبناء أصحاب هذه الدعوة الجديدة، كما يدل عليه قوله: (أبناءنا)، ولم يقل (أبنائي). وليس في الآية ما يدل على لزوم إخراج ابني صاحب الدعوة نفسه، فكون الحسنين ابنين لبعض أصحاب الدعوة كاف في الصدق.. انتهى.
أما نحن فنقول في الجواب:
1 ـ إن الإمام علياً (عليه السلام) قد استدل بهذه الآية يوم الشورى على أن الله سبحانه قد جعله نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، وجعل إبنيه إبنيه، ونساءه نساءه.. واحتج بها أيضاً الإمام الكاظم (عليه السلام) على الرشيد، واحتج بها أيضاً يحيى بن يعمر، وكذلك سعيد بن جبير على الحجاج ـ كما سيأتي ـ فلم يكن استدلالهم بأمر تعبدي بحت، وإنما بظهور الآية، الذي لم يجد الخصم سبيلاً إلا التسليم به، والخضوع له..
2 ـ لو كان المراد مطلق أبناء أصحاب الدعوة، لكان المقصود بأنفسنا مطلق الرجال الذين قبلوا بهذا الدين، وليس ضخص النبي (صلى الله عليه وآله) فقط.. وعليه فقد كان الأنسب أن يقول: (ورجالنا ورجالكم) بدل قوله: (وأنفسنا) أضف إلى ذلك: أن من غير المناسل أن يقصد من الأنفس شخص النبي، ثم يقصد من الأبناء والنساء ابناء ونساء رجال آخرين، إذ الظاهر: أن الأبناء والنساء هم لنفس من أرادهم بقوله: (وأنفسنا)، فلو كان المقصود بأنفسنا شخص النبي، وبأبنائنا أبناء الآخرين، لكان من قبيل قولنا: (إن لم يكن ما أدعيه صحيحاً فليمت ابن فلان) مثلاً!!..
3 ـ وبعد كل ما تقدم.. فإن كلمات: (أنفسنا)، و(أبناءنا)، و(نساءنا) كلها جاءت بصيغة الجمع.. فلماذا اقتصر من الأنفس على اثنين، وكذلك من الأبناء، ومن النساء، على واحدة؟! فإن ذلك إنما يدل على مزيد من الخصوصية لهؤلاء الذين أخرجهم بالذات..
ولو كان المقصود مجرد النموذج، فلماذا لم يكتف بواحد واحدٍ من الأنواع الثلاثة؟.
لو كان المقصود تخصيص جماعة بشرف معين، للتعبير عن أنهم وحدهم هم الذين بلغوا الذروة في فنائهم بهذه الدعوة، التي يراد المباهلة من أجلها.
فيصح قولهم: إن هذه الآية تدل على فضيلة لا أعظم منها لأصحاب الكساء. ولا سيما بملاحظة ما تقدم عن العلامتين:
الطباطبائي والمظفر، من أن هؤلاء شركاء في الدعوى، وفي الدعوة للمباهلة لإثباتها..
وهكذا يتضح: أن دعوى: أن الآية لا تدل على أكثر من الأمر بإخراج نموذج من أبناء من اعتنق هذه الدعوة لا يمكن القبول بها، ولا الاعتماد عليها بوجه.
عود على بدء:
كانت تلك هي المناقشة التي أببنا الإشارة إليها، وكان ذلك هو بعض ما يمكن أن يقال في الإجابة عنها..
وبعد ذلك.. فإننا نشير إلى أن إخراج الحسنين (عليهما السلام) في المباهلة، على أنهما ابنان للنبي (صلى الله عليه وآله)، مع أنهما ابنا ابنته، بحيث لا بقى مجال لإنكار ذلك، او للتشكيك فيه، حتى ليعترفون بأن:
(في الآية دلالة على أن الحسن والحسين، وهما إبنا البنت يصح أن يقال: إنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنه وعد أن يدعو أبناءه، ثم جاء بهما)(35).
وظاهر الآية: أن كلمة الأبناء قد أريد منها المعنى الحقيقي، سواء بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين، أو بالنسبة إلى النصارى والكافرين.
نعم، ان ذلك له دلالات هامة، كما قلنا فقد كان يهدف بالإضافة إلى ما أشير إليه آنفاً.
أولاً: إلى ضرب المفهوم الجاهلي البغيض، القائل بأن أبناء الأبناء هم الأبناء في الحقيقة، دون بني البنات، الأمر الذي ينشأ عنه أن يتعرض الكثيرون لكثير من المشاكل النفسية، والاجتماعية،